الأربعاء 5 أيلول (سبتمبر) 2012

ماذا لو احترقت غزة؟

الأربعاء 5 أيلول (سبتمبر) 2012 par أمجد عرار

ظننا أن ظاهرة حرق الأنفس التي استنسخها العديد من الأشخاص عرباً وغير عرب من محمد بوعزيزي، قد انحسرت بعدما أدرك من تابع هذه الظاهرة أنه ليس كل من يحرق نفسه سيشعل ثورة، أو حتى تحل المشكلة التي حرق نفسه من أجلها. ظننا أن الظاهرة انحسرت إلى أن طالعتنا الأنباء المتسللة من قطاع غزة بأن فتى في السابعة عشرة من عمره واسمه إيهاب أبو الندى، أحرق نفسه الخميس وتوفي في المستشفى الأحد. لا ندري إن كانت راودته فكرة استنساخ التجربة التونسية، أو أن ما دفع بوعزيزي لخيار الحرق هو ذاته توفّر لإيهاب ابن غزة المنكوبة بحصار «إسرائيلي» وغربي وبعض عربي. بوعزيزي كان يبيع الخضار على عربة وتلقى إهانة من شرطية، فأقدم على ما فعل. هكذا تقول الرواية الأكثر رواجاً حتى الآن، وقد تأتي لنا السنوات المقبلة برواية أخرى تفسّر أغرب علاقة بين حرق شخص نفسه واشتعال ثورة قلبت الوضع في منطقة كاملة رأساً على عقب، ولم تتوقف مفاعيل ذلك اللتر من البنزين بعد.

حالة إيهاب أبو الندى الفتى الذي عمل بائعاً متجولاً تشبه حالة بوعزيزي من حيث ظروف العمل وبؤس الظرف وانعدام السماع للشكوى، ما أدى لخيار الاحتراق والراحة الأبدية. وهكذا فإن إيهاب فقد فرصته في العمل حتى كبائع متجوّل وأصبح عاطلاً من العمل، فلم يحتمل. وليتصوّر الغارقون في السمن والعسل كيف أن شاباً في السابعة عشرة من عمره يأخذ من أمه «شيكلين»، أي أقل من نصف دولار مصروفاً أو أجرة لسيارة توصله إلى السوق، فلقد عاد جثة متفحّمة ولم يمنح أحداً الفرصة لمعرفة ماذا كان ينوي أن يعمل بنصف الدولار. ولولا أن سعر لتر البنزين في فلسطين يقترب من الدولارين، وقد يكون أكثر في غزة، لقلنا إنه أخذ هذا المبلغ الزهيد لشراء وقود احتراقه.

إيهاب الذي كان طالباً في المرحلة الثانوية خرج من المدرسة ليساعد والده على دفع إيجار المنزل وتأمين الحد الأدنى لإعالة ثمانية أفراد. عمل في غسل الصحون لمدة 13 ساعة يومياً مقابل 30 شيكلاً، لكن العمل في المطعم لم يدم، لأن أبناء غزة ليسوا في وضع يسمح لهم بارتياد المطاعم، في حين أن القطاع محاصر وليس فيه ما يغري سائحاً كي يزوره ويجوع ليدخل مطعماً. في هكذا حالة، ليس لفتى ترك المدرسة سوى البيع متجولاً، في حين أن هذه المهنة بنظر القوانين الميكانيكية الجافة والعمياء، تعتبر غير مشروعة وتستوجب الملاحقة. وحين تضيق الدنيا في وجه بعض الناس، يفعل أي شيء. بإمكان أي كان أن يخطب على منبر ويعدّل نظارته كل دقيقتين ويصدر بينهما حكماً بهذا الاتجاه أو ذاك، لكن غزة هذا هو حالها، من لم يحترق بالقنابل والفوسفور الأبيض «الإسرائيلي»، قد يجد نفسه محترقاً بالقهر أو الفقر، أو البنزين.
لن يتذكر أحد في هذا العالم فتى اسمه إيهاب احترق يوم الخميس وتوقف قلبه عن الخفقان يوم الأحد، فأيام المآسي وتواريخها ماركة مسجّلة باسم الفلسطينيين، ولن يتذكّرها إلا هم، وبقايا عرب وأجانب هنا وهناك. لسنا في موقع من يحكم أو يفتي، لكن على من هم مثل إيهاب في غزة أن يكونوا على ثقة أنه لن يتحول إلى إيهاب بوعزيزي، ولو احترق المليون ونصف المليون إنسان في القطاع لما حرّك العالم عربة إطفاء لأجلهم، لأن دخول العربة إلى غزة يغضب «إسرائيل»، وهذا من الخطوط الحمراء لدى الدول المتنفذة ومؤسساتها الدولية التي أنشأتها الحروب ولم توقف أي حرب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2177935

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2177935 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40