الأربعاء 15 آب (أغسطس) 2012

مصر: لكل مقام مقال!

الأربعاء 15 آب (أغسطس) 2012 par د. نهلة الشهال

المسؤولون الأميركيون ليسوا أبداً قلقين من التغيير الذي أجراه الرئيس المصري محمد مرسي. يؤكد ذلك واحد من أفضل العارفين بالسياسة الأميركية وبمنطقة «الشرق الأوسط» على حد سواء، الصحافي الشهير ديفيد اغناسيوس، المعروف بقربه من وكالة الاستخبارات الأميركية، والذي جاب المنطقة طولاً وعرضاً، فغطى حروب لبنان والعراق في الثمانينيات، وقابل بشار الأسد... والسيد حسن نصر الله. كما أنه صاحب «أميركا والعالم، حوارات حول مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة»، حيث أدار النقاش بين اثنين من ألمع العقول الإستراتيجية الأميركية، هما بريجنسكي وسكوكرفت. ولمن نسي، فقد كانت آخر مآثر اغناسيوس موقعة إغضاب أردوغان (وربما من حيث لم يدر أو يقصد، تعزيز شعبيته في تركيا والمنطقة)، أثناء إدارته حواراً في «منتدى دافوس» العام 2009، جمع الى رئيس الوزراء التركي، الرئيس «الإسرائيلي» شمعون بيريز، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وكذلك عمرو موسى الذي كان وقتها على رأس الجامعة العربية ولم يتحرك من مقعده حين غادر الزعيم التركي الجلسة. يقول اغناسيوس بصدد قرارات مرسي إعفاء المشير طنطاوي ونائبه الجنرال عنان، وتغيير كل رؤساء الأجهزة العسكرية، إن ذلك «جزء من تغيير عام»، وهو ما كررته بعد ذلك السيدة فكتوريا نولاند، الناطقة باسم الخارجية الأميركية، قائلة «عرفنا بأنه سيكون هناك تغيير»، موحية بأن هيلاري كلينتون كانت قد وُضعت في أجواء هذه التدابير خلال زيارتها الأخيرة لمصر، ومعينة المطلوب: «العمل معا من أجل التحول الديموقراطي».

يقول اغناسيوس في معرض تفسير الارتياح الأميركي، إن «تغيير وجوه هرمة وغير شعبية ومعزولة ليس أمراً مقلقاً بذاته للمسؤولين الأميركيين». ثم يستفيض في الشرح، فيشير الى أن الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي عينه مرسي وزيراً للدفاع، وهو أصغر أعضاء المجلس العسكري سناً، «معروف جيداً من القادة العسكريين الأميركيين» حيث تابع دورة تدريب مهني في الولايات المتحدة على مدى عام كامل. ثم فقد كان «كمدير للاستخبارات العسكرية وثيق الصلة بواشنطن». ويحرص اغناسيوس على نفي أي شبهة إخوانية عن السيسي، بل يذكِّر بأنه كان نائب الجنرال مراد موافي الذي أقاله مرسي إثر هجمات سيناء. والأخير كان مدير الاستخبارات، وكان متخصصاً بمكافحة الإرهاب، وبالأخص في سيناء، وحاز في سياق ذلك جوائز أميركية وأوروبية و...«إسرائيلية». والسيسي كان مساعده في عمله. بل يفاجئ اغناسيوس قراءه بالإشارة الى قلق المسؤولين الأميركيين حيال تعيين القاضيين الأخوين مكي، واحد مستشاراً لمرسي والثاني وزيراً للعدل. ويرتبك اغناسيوس في شرح أسباب هذا القلق، فيتكلم بغموض عن اكتراث المسؤولين الأميركيين باستقلال المؤسسة القضائية، وكيف أن مكي يمكنه مقارعتها بما أنه آت من داخلها. ولكنه في معرض هذا الجانب لا يتمكن من الامتناع عن الإشارة الى «شخصية» المستشار. والمقصود على الأرجح أن الرجل هو أحد رموز نادي القضاة، ومن الذين انتفضوا على مبارك في انتخابات 2005، وكان جزءاً من التحركات التي صرخت «كفاية» بوجه الرئيس ومهدت لثورة 25 يناير. وهكذا نزداد علماً، أو نؤكد ما نعلم بخصوص محركات مواقف المسؤولين الأميركيين، الذين يرون في الشق العسكري من تدابير مرسي عملية شد جلد أو «ليفتينغ» لا بد منها توخياً للفعالية، فيما تزعجهم الشخصيات التي لا يعرفونها ولم يسبق لهم التعامل معها بحميمية، بل هي أثبتت في سياق تاريخها روحاً تمردية، وحرصاً على معايير لا تقع على رأس أولويات واشنطن.

لا مفاجأة إذاً ولا قلق أميركيان، ولا توجس من انقلاب إخواني يهدف الى الاستئثار بالسلطة، أو يحسم صراع الإخوان مع المؤسسة العسكرية وينهي ازدواجية السلطة. وبهذا المعنى، فلن يعرض المؤسسة العسكرية للاهتزاز إقالة بضعة ضباط كبار، بل حتى أعلاهم شأناً. فالمؤسسة العسكرية راسخة وممتدة ومتماسكة الى حد بعيد، وتمتلك شبكة مصالح اقتصادية هائلة التنوع والاتساع. ولا يخالف ذلك ما تردد عن توافر دعم لمرسي من داخل المجلس العسكري، بل تواطؤ معه، بل هو يؤكده في سياق انحياز «المتواطئين» ليس الى ولاءات شخصية بل الى «العقلانية» المؤسساتية التي تبحث عن مصلحة الجهاز وليس عن تعنت بعض من اعتادوا السلطة طويلاً.

تبدو واشنطن منحازة لـ«عملية التغيير العام الواسع»، و«الانتقال الديموقراطي» في مصر. ولكن ما المقصود بها؟ هناك أولاً ما أشار إليه عارف مشهود له بالعقلية الأميركية وبسياسات واشنطن، البروفيسور سعد الدين إبراهيم، من أنَّ «عدداً من المسؤولين الأميركان الذين زاروا مصر في الأسابيع الماضية، ومنهم جون ماكين، قالوا إنهم تلقوا تأكيدات من الرئيس المصري بأن المصالح الأميركية ستُصان وأنها لن تمس أبداً» موضحاً أن «أول هذه المصالح هي معاهدة السلام، وثانيها تأمين القواعد الأميركية، وثالثها المرور الآمن في قناة السويس، ورابعها استثمارات الولايات المتحدة في المنطقة».

ثم هناك اطمئنان أميركي الى استبعاد «الأخونة» السهلة للمؤسسة العسكرية، كما قد يشطح الخيال بالبعض، مفترضين أنها ستجري على غرار إلقاء القبض الذي وقع قبل ذلك بأيام على الصحافة، إذ قرر مجلس الشورى الاستفادة من قانون مباركي قديم ينص على صلاحيته في تعيين رؤساء تحرير الصحف «القومية» (أي المملوكة للدولة)، فقام بإعفاءات وتعيينات كان معيارها، على ما ظهر، هو الولاء وليس الكفاءة، ما تسبب بخضة كبيرة في هذا القطاع كما في البلد عموماً... ومقاومة. ولم تحسم المعركة هنا لمصلحة الإخوان، وهي بعيدة عن أن تحسم وفق منطق أن تلك الإجراءات قدر محكم.

ولكن عمَّ يتحدث الأميركيون بالدقة؟ عن الفعالية! فهم استبطنوا أن تغييراً حصل، وليس بيدهم محوه ولا إرجاع عقارب الساعة الى الوراء والإبقاء على حالة الخضوع البليد والرتيب لهم التي كان يوفرها مبارك ومن هم على نمطه. ولأنه حدثت انتفاضة، فالعقلانية البرغمائية الأميركية تبحث عن كيفيات احتوائها وتوجيهها وتوظيفها، في تدرج يبدأ من العمل على تأمين الحد الأدنى وينتهي بالطمع التام. ولدى الأميركيين تاريخ طويل وخبرة هائلة في ذلك. وهم، وعلى سبيل المثال / المرجع، يعتدّون بتركيا، حيث تتمركز كتلة من مصالحهم الإستراتيجية الهامة. فهم، وإن كانوا اطمأنوا في السابق الى حكم الجيش الأتاتوركي، إلا أنهم اكتشفوا أن حزباً شعبيا، مجدِّداً وجماهيريا، كالعدالة والتنمية، يمكن ليس فحسب التعايش معه، بل تطوير خدمة رزمة المصالح تلك. يحتاج الأمر بالطبع الى تغيير في «كود» التعامل بالمقارنة مع السابق المألوف. وهناك بالطبع مخاطر ماثلة، فمقدار انضباط هؤلاء لا يشبه السالف المألوف أيضاً، وهم ليسوا عملاء لهم، أو وكلاء صريحين عنهم. ومن المرجح أنه ينبغي قراءة الموقف الأميركي مما يجري في مصر ـ وليس فيها فحسب ـ على ضوء ذلك. وهذا بالطبع لا يشكل إلا جانباً من الصورة. والمفارقة أن الأميركيين، رغم كل إمكاناتهم المادية ومرونة عقليتهم، يعلمون أنهم ليسوا إلهاً كلّي القدرة، وأنهم يحتاجون الى حذق وتدبر دائمين، وقبول للمخاطر. هم يعرفون ذلك ومتيقنون منه، لكنه يبدو ان العقلية العربية هي التي لا تعرف، وتصر على قراءة الأمر برمته بوصفه مؤامرة مخططاً لها منذ البداية، وسيناريو محكماً يجري كما في الأفلام! ما يعطل كل مغزى للصراع... مع أن ذلك هو ما يدور اليوم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165263

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165263 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010