الاثنين 13 آب (أغسطس) 2012

الفريق الشاذلي وقضيته المجهولة

الاثنين 13 آب (أغسطس) 2012 par عبدالله السناوي

عباراته تجاوزت المسكوت عنه في قضية سيناء والكلام المعتاد عن «كامب ديفيد» وترتيباتها الأمنية. تحدث من زاوية مختلفة كقائد عسكري درس خرائطها ويعرف تضاريسها وأسرارها وحقيقة القيود المفروضة عليها. لخص الموقف كله في جملة صادمة: ««إسرائيل» تستطيع اجتياح سيناء في ٢٤ ساعة». إنها صدمة الحقيقة، ولكنها ضرورية لندرك الأخطار وحجمها ونستعد للمواجهة إن جرت وقائعها، وللتصحيح إن توافرت الإرادة. الكلام فيه تحذير من تبعات الخلل الفادح في موازين السلاح، وفيه قلق على مستقبل سيناء ذاتها. الجملة الصادمة صاحبها رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر الفريق «سعد الدين الشاذلي».

كنا في مطلع القرن الجديد. «أرييل شارون» يتأهب للصعود إلى مقعد رئيس الحكومة «الإسرائيلية»، و«الشاذلي» يحذر من مخاطر تلوح في الأفق.

ربما جالت في خاطره، وهو يتحدث عن اتفاقية «كامب ديفيد» وقيودها، شخصية «شارون» التي خبرها بنفسه في ميادين القتال وبرزت طبيعتها في اقتحامه الهمجي للمسجد الأقصى قبل صعوده لرئاسة الحكومة، وهو نفسه الجنرال الذي قاد في حرب أكتوبر عملية «الثغرة» التي أفضت إلى مواجهة عاصفة بين رئيس الجمهورية ورئيس الأركان في طريقة التعاطي معها، ولكنه لم يخطر له أنه قد يحبس مرة ثانية في عهد «مبارك». الأولى، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية في كتابه «حرب أكتوبر».. والثانية، بتهمة تقويض الروح القتالية للقوات المسلحة بسبب تلك التصريحات التي أردفها بجملة صادمة أخرى أن «سيناء رهينة عند «إسرائيل»».

الكلام وصاحبه أثارا غضباً في مؤسستي «الرئاسة» و«الجيش» لأسباب مختلفة. لم يكن «مبارك» يطيق أن يذكر اسم «الشاذلي» أمامه، لديه حساسيات معه وصلت إلى عقد مستحكمة، بعضها يرجع إلى التجربة المشتركة، فلم تكن الصلات ودية بين رئيس الأركان وقائد سلاح الطيران، بتعبير «الشاذلي»: «كنت أعامله شأنه شأن غيره ممن يتلقون تعليماتي». هذا التعبير بنصه ذكره في برنامج على إحدى الفضائيات العربية، وبعضها رغبة «مبارك» نفسه في إقصاء «الشاذلي» من ذاكرة أكتوبر حتى يمكن تلخيص الحرب في الضربة الجوية الأولى وصاحبها.

أما مؤسسة الجيش فإن غضبها يعود لأمرين أولاهما مجاراة «مبارك»، وثانيهما لأسباب تتعلق بالروح المعنوية في المؤسسة العسكرية، فإذا كان بوسع «إسرائيل» اجتياح سيناء في (٢٤) ساعة فما معنى تدريباتها القتالية؟.. و«ما الذي نقوله للمقاتلين؟» - على ما تساءل المدعى العام العسكري في التحقيقات التي أجريت معي بعد نشر المحاضرة المثيرة في جريدة «العربي».
هذه الحجة ظاهرها مقنع، ولكنها لا تصمد طويلاً، الحقائق تغلب في النهاية، سيناء رهينة فعلاً، وترتيباتها الأمنية تنزع من الحضور المصري سيادته الحقيقية والقدرة على التصرف السريع، على ما جرى في حادث رفح الأخير.

الفريق «الشاذلي» لم يستدع للتحقيق، وقد كان هناك توجه آخر لاستدعاء السيد «حسين الشافعي» نائب رئيس الجمهورية الأسبق للتحقيق معه بذات التهمة بسبب تصريحات مشابهة عن السيادة المنقوصة في سيناء والجريمة التي ارتكبت في «كامب ديفيد». لم يكن «الشافعي» مستهدفاً بذات الدرجة.. فـ«الشاذلي» حالة خاصة.. هو أبرز أبطال أكتوبر على الإطلاق، طور الخطط العسكرية ودرب القوات عليها وقاد معاركها. عباراته لها مصداقية الخبرة العسكرية، يكتب في الصحف المعارضة، يدلي بآرائه في المنتديات العامة، ويعارض توجهات «مبارك» بصورة كاملة.

قصة التحقيقات العسكرية يطول شرحها، القضية كلها لم ينشر عنها من قبل، والعقد الشخصية فيها غلبت موضوع الاتهام.

قضية «الشاذلي» أن نذهب إلى الحقيقة ونعترف بها ونحاول أن نغير الأوضاع المختلة، أن نحذر من المخاطر، وبعضها ضاغط الآن في مجزرة رفح، حتى لا تتمدد بتداعياتها إلى اجتياح عسكري لسيناء ومصر في حالة انقسام ورئاسة في حالة تخبط.

من السيناريوهات المزعجة أن يفضي انفلات السلاح وتنظيماته في سيناء إلى فراغ أمني يستدعي تدخلاً دولياً عبر الأمم المتحدة بادعاء أن السلطات المصرية عاجزة عن الوفاء بمتطلبات السلام والاستقرار. إنه التدويل المحتمل، وهو خطر ماثل لا افتراضي.

مجزرة رفح تؤكد سلامة رؤية «الشاذلي» وحقيقة المخاوف التي حذر منها وكاد يخضع بسببها لمحاكمة عسكرية.

الوضع الآن أكثر خطورة.. سيناء منكشفة استراتيجياً من خارجها وداخلها على السواء. القوات «الإسرائيلية» وصلت أسرع إلى مواقع الأحداث الدامية، تعاملت بالسلاح وطاردت المهاجمين بالطائرات، والصور التي بثت في أعقاب الجريمة مباشرة «إسرائيلية» بالكامل. إنه الحضور الأمني والاستخباراتي والعسكري «الإسرائيلي» في سيناء. توقعت العملية وحذرت منها وتصرفت على أساس المعلومات التي لديها، بينما تضاربت الروايات المصرية في حقيقة المسئولية عن التقصير الفادح الذي أودى بحياة (١٦) شهيداً. الرئيس «مرسي» أقال مدير المخابرات العامة اللواء «مراد موافي» بتهمة التقصير بينما اللواء المقال يؤكد أن المعلومات كانت لديه وأنه أرسلها للسلطات المسئولة، في إشارة إلى الرئاسة والعسكري معاً. الأمر يستدعي التحقيق أمام جهة مستقلة على ما يجري في الديمقراطيات، ولكن الديمقراطية ما تزال بعيدة والنظام القديم يعيد إنتاج نفسه.

المفاجأة الحقيقية في قصة ما جرى أن «مرسي» اعتزم إقالة مدير المخابرات قبل حادث رفح، وكان الحادث هو الذريعة، إنه الصراع على السلطة والإمساك بمفاصل الدولة لا اعتبارات الأمن القومي وضرورات المساءلة عن التقصير. قبل الحادث بأيام حذف الرئيس اسم مدير مخابراته من قائمة مرافقيه في زيارة مقررة إلى الصين بعد عيد الفطر مباشرة.

المشير لم يكن مرتاحاً بدوره لأداء مدير المخابرات، ورأى أنه يحاول أن يستقل بالجهاز الحساس على النحو الذي كان يقوم به اللواء «عمر سليمان» ويقترب من الرئيس بأكثر مما هو لازم. حقيقة ما جرى بالضبط: الرئيس قرر والمشير وافق. الموضوع كله لم يطرح على مجلس الأمن القومي.

حسابات السلطة غلبت اعتبارات الصراع على سيناء. المثير - هنا - أن العمليات العسكرية الجارية الآن تجري بتنسيق أمني مصري «إسرائيلي» على ما تتواتر التصريحات «الإسرائيلية». وهو ما يستدعي بدوره توضيحاً لحدود التعاون الأمني مع «إسرائيل»، وما إذا كانت «ريما عادت إلى عادتها القديمة» باستنساخ النظام السابق في ملف التنسيق الأمني.

في الإقالتين الأخريين لقائدي الحرس الجمهوري والشرطة العسكرية تبدت حجج مقنعة لدى الرئيس وهو يطلب من المشير استبدالهما بقائدين آخرين، فقد تعرض «مرسي» لاعتداء مهين عند عودته لمقر الرئاسة بعد نصحه بعدم الالتحاق بجنازة شهداء رفح. كانت الإجراءات الأمنية هزيلة. المفارقة أن «مرسي» سوف يستقبل بعد أيام اللواء «حمدي بدين» قائد الشرطة العسكرية المقال قبل سفر الأخير إلى عمله الجديد في «بكين» ملحقاً عسكرياً، وبدوره فإن «بدين» سوف يكون في استقباله في العاصمة الصينية.

إنها التباسات وترضيات الصراع على السلطة والنفوذ. «مرسي» يحاول أن يتصرف كرجل قوي، وأن يقول إنه هو بمفرده الذي أقال قائدي الشرطة العسكرية والحرس الجمهوري بالإضافة إلى مدير المخابرات العامة، بينما ما جرى كان تنسيقاً مع العسكري. إنها رسائل السلطة التي تناقض بعض أحوالها حسابات الثورة وأهدافها في التحول إلى مجتمع ديمقراطي حر. المفهوم الرئيسي للسلطة اتخذ معنى الاستفراد بالدولة والعدوان على حرية الصحافة وإغلاق الفضائيات ومصادرة الصحف بالطريق الإداري.. وهو ما لم يتورط فيه «مبارك» ونظامه البوليسي، كأننا بعد ثورة مدنية عظيمة استبدلنا استبداداً باستبداد أسوأ، ونوشك أن ندخل في بحر ظلمات طويل، إما ان تكون هناك دولة قانون أو لا تكون، إما أن يحاسب الرئيس أو لا يحاسب، فليس من حقه أن يمنح نفسه أوسمة الدولة جميعها حتى أنه هناك من يشك أنه قد منح نفسه نجمة سيناء التي لا تمنح إلا لمن قاموا بأعمال بطولية خارقة في حرب أكتوبر!

هذا النوع من التصرفات الرئاسية، مصحوباً بضيق من حرية الصحافة والإعلام، يثير المخاوف على مستقبل البلد والديمقراطية فيه. هذه المخاوف تزكي الانقسام الداخلي وتفتح الأبواب على أزمات لا نهاية لها ولا حدود لكوارثها.

في مثل هذه الأحوال المتفاقمة من الشكوك والهواجس تطرح قضية سيناء نفسها وتتبدى في الأفق بصيغ مختلفة المخاوف التي طرحها الفريق «الشاذلي» ذات يوم بعيد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010