الجمعة 10 آب (أغسطس) 2012

ناجي علوش في الذاكرة

الجمعة 10 آب (أغسطس) 2012 par عوني صادق

التقيته أول مرة في دمشق، في صيف العام 1971، كان في ذلك الوقت على رأس ثلة، أصبحت في السنوات اللاحقة تحتل الصفوف الأولى من النخبة الفلسطينية المثقفة، تحاول لملمة جراح الثورة وتصويب مسارها المتعثر. كنت قد قرأت له قبل أن ألتقيه، ووجدت فيه مناضلاً وطنياً فلسطينياً أصيلاً، أوضح ما فيه شعوره القومي، وقومياً عربياً، أصدق ما لديه حسه الإنساني، من دون أن ينفصلا عن إيمانه بمفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. قبل أن ألتقيه، كنت أحس بأنه بقدر ما كان يبدو، أحياناً، «شعبوياً» في كتاباته، بقدر ما كان يصطبغ أسلوبه، في أحيان أخرى، بلكنة «أستاذية». لكنني بعد أن التقيته، اكتشفت أن تلك «الشعبوية» لم تكن تصنعاً، بل كانت تعبيراً صادقاً عن التصاقه الأصيل بهموم شعبه، وقضايا أمته. أما لكنة «الأستذة» التي كانت تأتي في سياقات معينة، فلم تكن غير «طريقة» كان يراها أقصر طريق صالحة للتعبير لإيصال أفكاره وقناعاته، إلى قرائه بأكثر قدر من الوضوح.

كثيرون ممن أساؤوا فهمه رأوه متشدداً، وقد كان كذلك ولكن في الحق والمبدأ، من دون تعصب أو ادعاء. والحقيقة أنه كان متفهماً لمخالفيه، لكنه لم يكن مستعداً للتنازل أو المساومة أو المهادنة. وقد أظهرت الأيام أنه كان ديمقراطياً منفتحاً على الرأي الآخر، وكان مستمعاً ممتازاً، يصغي لمن يحادثه بانتباه شديد، فإذا اختلف معه حول مسألة ما، كان يناقشه فيها باحترام أشد. تشدده كان في ما يتصل بالمبادئ والإستراتيجية، واستعداده للتفاهم كان موجوداً في ما دون ذلك، أي بما يتصل بالتكتيك الذي لا يسيء إلى، أو ينعكس بالضرر على الإستراتيجية والمبادئ. لم تكن له مصالح خاصة، ولم يسع لتكون له مثل هذه المصالح، وكان دائماً جاهزاً للتنازل عمّا هو حق شخصي، لكنه كان أعند ما يكون، وغير مستعد لمناقشة فكرة قد توحي بالمساومة على ما هو حق للناس، أو ثابت من ثوابت القضية الوطنية، أو القومية. من ذلك جاءت مواقفه السياسية الجريئة التي كانت أحياناً توحي بـ«لا واقعية» سياسية، بينما الحقيقة كانت تمسكاً بالمبادئ في تواضع جم، كان يذكرني برمز وطني وقومي كبير، هو الحكيم جورج حبش، فكلاهما كان يشعر من يحادثه بأن الأدوار قد انقلبت، وأن «الأستاذ» قد تحول إلى «تلميذ»، والعكس بالعكس.

منذ لقائي الأول مع ناجي علوش، وحتى آخر لقاء تم بيننا، والذي كان - للأسف - قبل نحو سنتين، وبعد صراع مع المرض لاثني عشر عاماً لم يؤثر في قناعاته أو يوهن من عزيمته، لم تهتز في ذهني صورة «المثقف العضوي» الذي كانه، بل تأكدت بالقول والعمل عبر مسيرته الطويلة. وكل ما آخذته عليه رومانسيته، التي كشفت دائماً عن جيناته الشعرية، ربما أكثر مما كشفت عنها دواوينه الثلاثة. كنت أرى الطيبة المفرطة التي كان يتعامل بها مع بعض الناس، فقلت له مرة: السياسة ليست طاهرة، ولا هي من عمل الملائكة، والنوايا الطيبة كثيراً ما توصل إلى جهنم، فكان يبتسم ويقول: أحسن الظن بالناس يا رفيق. وسألته مرة: كيف يمكن للثائر المقاتل، والمفكر العلماني، أن يكون رومانسياً إلى هذا الحد، فالثورة، قبل وبعد كل شيء، علم. قال لي يومها: الثورة، قبل وبعد كل شيء، حلم. إن لم يحلم الثائر، خصوصاً إن كان فلسطينياً، فسيكف عن أن يكون ثائراً، في ربع الطريق، أو ثلثها أو نصفها، لكنه بالتأكيد لن يواصل المشوار حتى النهاية. بعدها لم أعد أستغرب حجم التفاؤل الدائم الذي كنت أراه في وجهه وكلماته في أحلك الأوقات.

ومنذ خطواته الأولى، بعد أن تحول إلى «سياسي محترف»، كانت «القضية» لديه بسيطة واضحة، لكن الصعب كان تحقيقها الذي كانت دونه أهوال. وفي كل ما ألف من كتب، وكل ما كتب من مقالات، وكذلك في كل أحاديثه، لم يزد على طرح المسألة المعقدة بالفكرة البسيطة التالية: فلسطين جزء من الوطن العربي، كما الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية. تحرير تلك يحتاج إلى تحرير ذاك. وفلسطين اغتصبت على أرضية التجزئة، والوحدة العربية هي طريق التحرير، لكن العلاقة جدلية، وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. وعلينا أن نخوض الحرب الدائرة على جميع الجبهات في الوقت نفسه، ولا يمكن تأجيل أي منها، من دون أن نتجاهل أنها قضية حرية وعدالة وهي وثيقة الصلة بالقيم الإنسانية. هكذا ببساطة كان يضع علوش القضية الفلسطينية في إطارها ذي الدوائر الثلاث، الوطنية والقومية والإنسانية، دوائر مفتوحة بعضها على بعض، والعلاقة بينها أيضا جدلية، والتأثير فيها متبادل.

ناجي علوش بدأ بعثياً، وأصبح فتحاوياً، ثم استقل في تنظيم أنشأه بنفسه، لكن ثوابته ظلت من دون تغيير أو تبديل على طول الطريق، وفي كل المحطات كان مناضلاً عنيداً، ومقاتلاً صلباً، ومثقفاً عضوياً. كانت انتقالاته كلها اجتهاداً دائباً للارتقاء بمستوى نضاله لوضع ثوابته على أرض الواقع الصلبة، بالتفاني والجهد الصادق المثابر، والالتزام الصارم بالثوابت. كم نجح وهل فشل؟ ليست تلك هي المسألة، المسألة أنه لم يستسلم، ولم يلق السلاح، ولم يغادر الميدان، حتى اللحظة التي فارقنا فيها. ناجي علوش .. رائد من رواد النضال الفلسطيني لم يكذب أهله، لذلك لن ينساه أهله، وسيظل رمزاً للنضال الوطني، ومثلاً لثبات المناضلين على المبادئ.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2181426

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2181426 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40