الأحد 13 حزيران (يونيو) 2010

آخر انتصارين!!

الأحد 13 حزيران (يونيو) 2010 par د. بثينة شعبان

تعددت الانتصارات الأميركية مؤخراً، وفي كل مرة يعلن رئيس أميركي انتصاره فإن ملايين المدنيين في بلدان بعيدة تدفع أرواحها وحياتها ثمناً لذلك. بدأت مسيرة هذه الانتصارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بغزو أفغانستان، وبعد ما يقارب عشر سنوات من تدفق أنهار الدماء هناك لا يزال المدنيون الأفغان يُقتلون يومياً بالطائرات، بطيار أو بدونه، وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق لأبناء ذلك البلد الجميل حيث يزداد الاتجار بالمخدرات، ويعم الفساد كل مفاصل البلد. وانتشر قتل المدنيين عبر الحدود إلى باكستان حيث يدفع الآلاف ثمن “الديموقراطية” و“حرية التعبير” و“تمكين المرأة” وغيرها من الشعارات القادمة من واشنطن ودوائرها الإعلامية لتصنع تصوراً منفصلاً تماماً عن واقع ومعاناة المدنيين الأفغان والباكستانيين المثخنين بالقتل والتهجير والقصف والتفجير والعنف والحروب. الأكاذيب التي رددها الرئيس بوش لغزو العراق واحتلاله: من أسلحة الدمار الشامل إلى استيراد اليورانيوم إلى دعم القاعدة أدت إلى تحقيق “انتصاره” الخاص به رغم أنهار الدماء التي سالت من أجساد مليون مدني عراقي والخراب الذي أنزلته آلة الحرب الأميركية بهذا الشعب دعماً “لأمن إسرائيل”.

وقد برهنت الأحداث كذب كل هذه الادعاءات وصدقية حقيقة واحدة عبّر عنها دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي السابق، المعروف بشرعنته التعذيب، وبإنشاء معسكر غوانتانامو المشين، وهي أن الخطة لغزو واحتلال العراق كانت موجودة على الرفّ منذ السبعينيات وكل ما فعلوه هو أنهم نفضوا عنها الغبار وحدثوها بما يتلاءم وغرائز المتطرفين من الليكود وكاديما، الذين يحكمون إسرائيل منذ اغتيالهم رئيس وزرائهم رابين، والذين يتبنون سياسة إخضاع المنطقة عرباً وأتراكا وإيرانيين وأفغانا بالقوة العسكرية وحسب، والذين يرفضون الحوار والسلام بشكل معلن.
العيش في العراق وأفغانستان وباكستان اليوم هو الأخطر بين دول العالم مع تدمير كامل لبناها التحتية.

وامتدت الانتصارات الأميركية على المسلمين إلى الصومال واليمن والسودان من زرع للفتنة، والاقتتال، والحصار، وتدمير لحياة المدنيين، والعمل جار لاستلاب بلدين عربيين هما مصر والسودان حقهما التاريخي في مياه النيل، مع استمرار التنكيل والقتل اليومي للفلسطينيين وهدم منازلهم وقتل حتى من يجرؤ ويخوض عباب البحر لتقديم العون الإنساني لهم.

وفي الحلقتين الأخيرتين من مسلسل الانتصارات الأميركية التي حصدت الملايين من أرواح المدنيين المسلمين، ركّزت الولايات المتحدة انتصارها على قطبين أساسيين هما إيران وهيلين توماس.

ففي الوقت الذي يعلم الجميع، وأولهم الولايات المتحدة وأوروبا، أن إسرائيل هي وحدها التي تمتلك برنامجاً نووياً عسكرياً في الشرق الأوسط، لأنهما من موّل وزوّد إسرائيل باليورانيوم والمفاعلات والماء الثقيل والخبرات والعلماء، وبالرغم من دعوتهم إيران طوال سنوات للموافقة على تبادل اليورانيوم مع دولة أخرى، فقد كان الرّد المستغرب للولايات المتحدة على اتفاق إيران مع البرازيل وتركيا بتبادل اليورانيوم هو تأجيج ملف العقوبات على إيران من جديد وبذل جهود مضنية على مدى أشهر مع الصين وروسيا لتأمين مستلزمات موافقتهما لإنزال عقوبات شديدة تلحق الضرر بحياة المدنيين الإيرانيين رغم التصريحات اللفظية أن هذه العقوبات ليست موجهة ضد الشعب الإيراني.

العقوبات ضد إيران موجهة ضد شعبها بالتأكيد، كما كانت العقوبات موجهة ضد الملايين من المدنيين العراقيين والتي مات بسببها مليون طفل عراقي بسبب نقص الغذاء والدواء، وكما هي العقوبات على غزة موجهة ضد المدنيين الأبرياء.

المراجع الدينية الإيرانية تؤكد أكثر من مرة أن إيران تؤمن بتحريم السلاح النووي للجميع، وحق الجميع في امتلاك الطاقة النووية السلمية. كما أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد أرسل رسالة خطية إلى كل من تركيا والبرازيل طالباً منهما التوسط لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحل المتعلق باتفاق تبادل الوقود العالي التخصيب، ولهذا فقد فوجئ الجميع بالدعوة السريعة لمجلس الأمن إلى إقرار الوجبة الرابعة من العقوبات على إيران. ولكنّ ردة الفعل الإسرائيلية الأولى على الاتفاق الثلاثي بين تركيا والبرازيل وإيران كانت توحي بهذه النتيجة، حيث “شكّكت” إسرائيل فوراً بجدوى هذا الاتفاق بعد دقائق عدة على توقيعه. وبما أن إسرائيل “شككت” وبقيت مصرة على إلحاق العقوبات بإيران والشعب الإيراني فلم يكن هناك من مجال أمام وزارة الخارجية الأميركية والإدارة الأميركية إلا أن تستمرا بجهودهما لإقناع الصين وروسيا بالموافقة على هذه العقوبات، خاصة أن إقرار هذه العقوبات في هذا التوقيت بالذات أيضاً يُحيدُ الأنظار عن حملة الإدانات الدولية التي توالى صدورها من كافة أنحاء العالم على الجريمة الدموية النكراء التي ارتكبتها قوات الاحتلال باغتيال عدد من ناشطي حقوق الإنسان العزّل على ظهر سفينة مرمرة ضمن أسطول الحرية.

وربما لم يكن مصير هيلين توماس منقطع الصلة بالملف الإيراني، أو ليست هي التي سألت الرئيس أوباما: “من هي في رأيك الدولة التي تمتلك رؤوساً نووية في الشرق الأوسط؟”. وكان ذلك السؤال بداية النهاية لسيدة الصحافة في البيت الأبيض والتي عاصرت الرؤساء من كندي إلى أوباما والتي عُرفت بمواقفها الجريئة وأسئلتها الذكية اللامعة.

فماذا فعلت حين دعت إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وإعادة الحقوق لهذا الشعب؟ لم تكن هيلين توماس قد أطلقت النار على رأس أو صدر أحد عن قرب وبدم بارد كما فعل الجنود الإسرائيليون على ناشطي حقوق الإنسان الذين كانوا ينقلون الغذاء والدواء والكراسي المتحركة على متن سفينة الحرية لضحايا الحصار على غزة من الأطفال والأمهات. لم تهدم هيلين توماس منزلاً أو تدنّس مسجداً أو كنيسة، ولم تقتل طفلاً كما يفعل المستوطنون في الضفة الغربية كل يوم، ولم تعذّب أحداً في السجن إلى حدّ الموت كما فعل الجلادون الإسرائيليون في سجن الخيام وفي سجونهم الكبيرة والصغيرة، السرية والعلنية.

بلحظة واحدة اعتبر الناطق باسم الخارجية الأميركية تصريحاتها “مشينة” وامتنعت فوراً المطبوعات “الحرة” عن استقبال كتاباتها!! وعُزلت في حادثة تليق بالحكم الستاليني في أوائل القرن الماضي في روسيا السوفياتية. أين هي إذاً “الديموقراطية” و“حرية التعبير” إذا كان هذا هو عقاب من يعبّر عن رأيه في موقف سياسي بحت؟. ومن ذا الذي يجرؤ بعد على اتخاذ موقف لصالح شعب معذّب، وتحقيق العدالة له؟ أم أن “الديموقراطية” و“حرية الرأي” متاحتان في الولايات المتحدة طالما أنهما قابلان أن يكونا منسجمين مع سياسة الدولة في “حماية أمن إسرائيل”، ولكن طالما يقارب أحد المحرّمات الصهيونية فإن أبواب الجحيم ستنفتح حماية لـ“أمن إسرائيل” التي أصبح مؤكداً أن الإدارات الأميركية مستعدة لإنفاق المليارات من أموال الشعب الأميركي، ولإزهاق أرواح الآلاف من الشباب الأميركي في الحروب التي تشنّها نيابة عن إسرائيل مرة ضد العراق، والآن تشديد العقوبات على إيران يشير إلى حتمية المسار نحو الحرب عليها، وقد بدأت الدوائر الصهيونية بالقول إن الإدارة الأميركية غير مقتنعة بجدوى العقوبات، في تمهيد عملي لحرب قادمة على إيران، تماماً كما فعلوا بالعراق، إنهاكه أولاً بالعقوبات ومن ثمّ مهاجمته عسكرياً.

إذاً، المسموح فقط في الديموقراطية الأميركية هو الإشادة بالانتصارات التي يحققها “الأخ الكبير”، أما من يساور له عقله بانتقاد أي خطوة من خطوات “الأخ الكبير” فإن محاكم التفتيش معقودة دوماً وجاهزة للمحاسبة والمحاربة. وحتى إذا تجرأت أوروبا على التأكيد على ضرورة كسر الحصار المفروض على غزة فإن أميركا تتهم أوروبا فوراً بأنها لم تكن “عاملاً مساعداً” وأن مواقفها تقوّض جهود الولايات المتحدة “للسلام”!!

ولكلّ الذين يعتقدون أن الموقف من إيران بُني على أساس أنها من الشيعة، ويسعدون بذلك لأنهم ليسوا شيعة، فإن المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال والسودان واليمن ليسوا من الشيعة، وإن مسار “الأخ الكبير” لا علاقة له بالسنة أو الشيعة، بل بدعم “أمن إسرائيل” الذي يجب أن تسخّر الولايات المتحدة كل إمكاناتها المالية، وعلاقاتها الدولية، وسمعتها الوطنية، وصدقيتها السياسية له.

سيستفيق الأميركيون يوماً ليدركوا أن خطر انصياع حكومتهم وكونغرسهم الكامل لمطالب الصهيونية وإملاءاتها، التي تمثل “الأخ الكبير” المهيمن على عالمهم، بات يشكل تهديداً ليس على أمن وسلامة الشعوب الأخرى وحسب، بل وعلى حرياتهم الفردية ومنها حرية التعبير.

ليس في الولايات المتحدة الكثير ممن يجرؤ على أن يتحلى بشجاعة امرأة قاربت التسعين، مثل هيلين توماس، التي أمضت عمرها تعبّر عن قناعاتها، إلا أنها اصطدمت في زمن المكارثية الصهيونية المهيمنة على كواليس الحكم في واشنطن بمحاكم التفتيش التي يقيمها اللوبي الإسرائيلي بإمكاناته المالية الأسطورية القادرة على شراء الذمم وابتزاز السياسيين والإعلاميين.

الانتصارات التي حققتها حكومة الولايات المتحدة بإصدار المزيد من العقوبات على بلد مسلم آخر، والتي تتباهى بها اليوم، سيكون لها حساب يوماً ما مع الملايين من الشعوب التي تسبب لهم المآسي والكوارث خدمة لمتطرفين متعصبين مدججين بالأحقاد العنصرية الذين لا يعرفون للأخلاق أو للحياة البشرية قيمة أو معنى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2178445

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2178445 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40