السبت 23 حزيران (يونيو) 2012

العنصرية الخسيسة في لبنان: ثقافة تنمو على ركام المدينة

السبت 23 حزيران (يونيو) 2012 par صقر أبو فخر

بينما كانت امرأة يهودية مسنة من ذوات الحاجات الخاصة عالقة في كرسيها المتحرك في أحد شوارع «نحلات بنيامين» في «تل أبيب»، وبينما كان سائقو السيارات يطلقون الشتائم ضد هذه المرأة التي أعاقت سيرهم، شاهدها شاب أرتيري مهاجر، فترك زوجته وطفلته على الرصيف، وانبرى إلى مساعدتها. وقبل أن يضع يديه على كرسيها راحت المرأة تصرخ وتستغيث وتقول: «سوداني... يريد ان يقتلني». فذهل الشاب، وقبل ان يفيق من ذهوله كان عدد من السائقين «الإسرائيليين» الذين كانوا قـبل برهة يشتمون المرأة، يغادرون سياراتهم وينهالون عليه بالضرب والرفس واللكم. وفي 23/5/2012 اندلعت تظاهرة كبيرة في «تل أبيب» ضد العمال الأفارقة، وهاجم المتطرفون العنصريون حي «هاتيكفا» في جنوب المدينة، ونهبوا البيوت التي يقطنها السود، وحطموا الدكاكين التي يمكلها أرتيريون، وأحرقوا حضانة أطفال للسود، وصعد آخرون إلى حافلات النقل ليفتشوا عن الأفارقة الذين باتوا مذعورين يخافون الخروج من منازلهم والذهاب إلى العمل، في حين ان أجهزة الأمن المختلفة لا تقدم لهم أي مساعدة.

هذا ما حدث في «تل أبيب». فهل تختلف كثيراً هذه الصورة، إلا في الزخم، عما يقع في كل يوم، هنا وهناك، في شوارع بيروت والضاحية الجنوبية وطرابلس وغيرها من المناطق اللبنانية؟ أليست الصورة العنصرية في «تل أبيب» اليوم تشبه، إلى حد ما، صورة لبنان غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري حين قتل أكثر من مئة عامل سوري مسكين، وتعرض آلاف منهم للضرب العنصري المبرِّح، وحُرقت منازل كثيرين؟ وكان كلما أدلى زعيم ديكتاتوري فاسد بتصريح ضد السوريين يقتل في اليوم التالي عدد منهم. ما الذي يختلف ما يجري في «تل أبيب» عما يجري اليوم في لبنان خاصة حين يقوم زعران بشعون بالاعتداء على العمال؟

العنصرية المتجددة

في 9 أيار العام 2006، قرأ لبنانيون كثر البيان الأول لمنظمة وهمية تدعى «لبنانيون من أجل لبنان حر ومستقل». ودعا هذا البيان إلى «تصفية السوريين في لبنان»، ثم تبنت هذه المنظمة «الاستخبارية» اغتيال عدد من العمال السوريين، ثم لم تلبث أن اصدرت في 24 آب من العام نفسه بياناً أعلنت فيه مسؤوليتها عن قتل السوري زكريا راغب ياسين. ومهما يكن أمر هذه «المنظمة» ومن يقف خلف بياناتها، فإن لغتها المبتذلة تشير إلى طراز من العنصرية المتجددة في هذا البلد الموبوء بالعنصرية والكراهية، والمبتلى بزعماء عنصريين.

تمثلت العنصرية «الفكرية» الحديثة في لبنان بأشخاص من عيار مي المر واتيان صقر (أبي أرز) وأمين ناجي (أنطوان نجم) ووليد فارس (وودي) وفؤاد افرام البستاني وسعيد عقل وآخرين. أما العنصرية العملية فقد اتخذت منحى الاعتداء على الفلسطينيين في البداية، ثم على السوريين، علاوة على الأفارقة وعاملات المنازل، وهي تتخذ اليوم نموذج الاستفراد بالضعفاء. والواضح ان ثقافة الميليشيات هي التي تينع في أفيائها روح الاعتداء على الغرباء. والميليشيات، كما تجسدت في اثناء الحرب الأهلية، وكما تتمثل اليوم في «تظاهرات» الغوغاء، إنما هي مزيج من العصابات والمجرمين والمقاتلين في الوقت نفسه. هؤلاء كانوا يديرون صالات القمار الممنوعة، وقاعات الألعاب المحظورة، ويتاجرون بالمخدرات، ويؤسسون حركات عنصرية مثل «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». واليوم هم أنفسهم لصوص السيارات وموزعو المخدرات ورواد السجون. حتى في «التظاهرات» الاحتجاجية لا نرى أي شعار سياسي او مطلبي، بل مجرد رقص بدائي حول النفايات المحترقة والإطارات المشتعلة.

سرسري بزوِنك بابا حسن

لم يكن لبنان سويسرا الشرق قط، ولم تكن بيروت باريس الشرق البتة، بل طنجة. بيروت الحداثة (أي العصرنة) كان لها وجه جميل وأخاذ حقاً هو الصحافة ودور النشر والحريات الفردية والجامعة الأميركية وشارعا الحمراء وبلس، فضلاً عن الميناء والمطار والمصارف... الخ. لكن لبيروت وجهاً آخر في الوقت ذاته، تماماً مثل جميع مدن البحر المتوسط، هو المخدرات والبارولي (رهانات سباق الخيل) والقمار وتجارة السلاح ومحطات الاستخبارات والقبضايات امثال مصطفى الحارس قطايا وأحمد ستيتية وأحمد المغربي (أبو عباس) وإبراهيم النابلسي (التكميل) وأرتين الأسمر والحاج نقولا مراد وحنا يزبك ورشاد قليلات ومحمود وهبي. وقد قضت الحرب الأهلية على القبضايات في صورتهم التقليدية التي تخالطها الشهامة والمروءة، ولم تترك منها إلا الطراز الميليشياوي القبيح الموظف في خدمة الزعماء. ومعظم الزعماء اللبنانيين اليوم يتكلمون دائماً على الديموقراطية، وكل واحد منهم دكتاتور في طائفته. وهؤلاء الدكتاتوريون أقاموا، في ما بينهم، نظاماً يضمن حصة كل دكتاتور، ولبنان، بهذا المعنى، هو بلد الدكتاتوريين الأحرار. وليس الدكتاتور الحالي (أي الزعيم الطائفي) إلا «الملتزم» السابق الذي اسموه أميراً او شيخاً او بيكاً. وهذا الزعيم لا يستطيع حماية زعامته إلا بأفراد من رعاع المدن وأوباش الريف، وهو يضمن استمرار ولاء هؤلاء بتأمين «فيسبا» و300 دولار شهرياً وأرغيلة وكرسي على نواصي الشوارع و«تاتو» و«هات يا خال». وهؤلاء لا عقل لهم، ولا همَّ إلا أكل الكباب واحتساء الشراب، ولسان حالهم يقول: «السمع والطاعة في كل ساعة».

****

العنصرية في لبنان التي طالت العمال السوريين مؤخراً، وقبلهم الفلسطينيون والأفارقة والآسيويون، والتي ستتجدد بالتأكيد بين حقبة وأخرى، لا تنفع معها الورود على رمزيتها الجميلة، لأن العنصرية هي النتاج الطبيعي لمجتمع متأزم يتراجع فيه التطور الحضري، وتتقدم فيه ثقافة الضواحي. وثقافة الضواحي هي الثقافة الجامعة لمجموعة من الناس يسكن أفرادها في أمكنة متقاربة، وتتشابك فيها وشائج القربى والتضامن المذهبي والاقتصاد اليومي (الدكاكين وورش الصيانة وأسواق الخضار والحرف اليدوية والمهن البسيطة)، وتغيب عنها القطاعات الإنتاجية ومراكز الثقافة والفن واللهو. إنها ثقافة تنمو على ركام المدينة، وعلى أنقاض الدولة الراعية. أي ان الضواحي، بصورتها الراهنة، نشأت الى جوار المدينة جراء تشرذم المدينة. وكان من نتائج ترييف المدينة، ولا سيما في الضواحي التي هي أرياف الى حد كبير، ان عاد الشكل القديم للأسرة وللمنزل: الرجل في المقهى، والمرأة في المنزل او عند الجيران، والطفل في الشارع. وما دام الحي لا توجد فيه حديقة، فأين يذهب الأطفال؟ الى الشوارع والأزقة بالتأكيد. وفي هذه الأزقة تظهر روح العصابات، وروح التغلب، وروح الاعتداء على الآخرين، وروح التكاتف ضد الغريب، وروح السطو، ومفاهيم القوة والبأس والتعصب. وفي الشوارع يتعلم الجميع عدم التسامح وأخذ الحق باليد والتقاتل الجماعي. وهذه هي البيئة المثلى لظهور العنصرية في أقبح وجوهها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2176801

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2176801 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40