الاثنين 28 أيار (مايو) 2012

ظاهـرة حمدين صباحي

الاثنين 28 أيار (مايو) 2012 par عبدالله السناوي

لساعات طويلة تعلقت أبصار ومشاعر بآمال أن يدخل المرشح الرئاسي «حمدين صباحي» جولة الحسم.

سادت كلمة واحدة شبكة التواصل الاجتماعي: «يا رب». كانت المؤشرات تتأرجح ونتائج الصناديق الأخيرة تعلن واحدة إثر أخرى، وعندما خذلت الأرقام المعلنة المشاعر المتوقدة أخذت اللحظة قطاعات واسعة من الشباب المصري إلى نوبات كآبة مدفوعة بتصورات متعجلة أن الثورة قد انتهت وتضحياتها ذهبت سدى.

في تلك اللحظة بتفاعلاتها السياسية والإنسانية تأكد حضور الأجيال الجديدة، النواة الصلبة للثورة المصرية، في المشهد التاريخي.

رائحة الدموع في نبرات الكلام رسالة إلى المستقبل.

بعض الهزائم أشرف من بعض الانتصارات، والبطل التراجيدي المهزوم هو مشروع انتصار مستقبلي.

المهم في هذه اللحظة أن تدرك الأجيال الجديدة أنها المستقبل، وأن التجربة العميقة التي خاضتها منذ الثورة وحتى الآن لن تمحى، وأن الثورات قد تنتكس ولكن حركة التاريخ تصنعها في النهاية الحقائق الأساسية. لا رجعة للخلف أو عودة للاستبداد. هناك مخاوف أن تسفر الانتخابات الرئاسية في السيناريو الأسوأ الذي أفضت إليه الجولة الأولى عن أحد مصيرين: الانقضاض على الثورة أو الاستحواذ على الدولة. هذه مخاوف كابوسية يصعب أن تستقر على أرض. قد تطول المعارك وتشتد المعاناة، ولكنها تصطدم مع المستقبل وحقائقه الأساسية وأجياله الجديدة.

هنا صلب ظاهرة «حمدين صباحي»: الرهان على المستقبل.. ومصدر قوته التصويتية المفاجئة التي كادت تحسم مقعد الرئاسة هو هذا الرهان بالضبط.

قضيته تتجاوز شخصه وظاهرته تتعدى مصيره.

الأجيال الجديدة راهنت عليه ورموزها انضمت إليه.. وهذه قضية مستقبل، وأسر الشهداء ومصابو الثورة وثقوا فيه.. وهذه قضية ضمير.

كان وجود والدة «خالد سعيد» الشرارة الأولى للثورة بجوار «أحمد حرارة» أيقونتها في التضحية ضمن مؤيديه ملهماً قبل أن يتأكد انضمام أغلب القوة الضاربة في ائتلافات الشباب، ثم بدا مؤثراً أن القوة الناعمة المصرية بأغلب مثقفيها ومفكريها وعلمائها وفنانيها انضمت إليه، وكانت تلك رسالة واصلة إلى كل بيت ومؤثرة فيه.

كانت ظاهرته محدودة في بدايتها.. لكنها أخذت تكبر من يوم لآخر حتى بدا أنه يمكن أن يحقق ما يسمى بـ«انتصار الانهيار الصخري»، أو أن يكون ساحقاً وسريعاً ومدوياً.

شيء من هذا القبيل حدث لكن دون أن يدفع صاحبه إلى المقعد الرئاسي.. ومما شاع وتردد قبل الاقتراع مباشرة أن «صباحي» في حاجة لأسبوع إضافي لحسم هذا المقعد كجواد أسود لا سبيل إلى إيقافه.

تشكلت بامتداد البلد كله لجاناً تطوعية لا صلة لها بحملته، كانت تدفع تكاليف ملصقاته حتى يمكن تدوير الأموال المحدودة في طباعة ملصقات أخرى. بدت المسألة كلها خارج الحسابات المنظورة. شيء ما كامن وعميق في المجتمع تحرك ووجد في خطابه ما يقنع وفي طلته ما يأسر. الحركة تحولت إلى اندفاع والاندفاع إلى قوة تمكنت من أن تنازع على المقعد الرئاسي دون ضخ أموال لشراء أصوات أو اللجوء إلى أساليب غير مشروعة وغير أخلاقية. إنه «الصوت الحلال» على ما وصفه شبان انضموا إلى حملته. كل صوت ذهب إليه كان طوعياً عن اقتناع وإيمان.

قوى واسعة رأت فيه خياراً آمناً لانتقال السلطة يجنبها الاستقطاب ما بين مشروعين: مشروع الاستحواذ على مفاصل الدولة الذي تمثله جماعة «الإخوان المسلمين» ومشروع إعادة إنتاج النظام السابق الذي يمثله الحزب الوطني المنحل ورجال أعماله والمصالح المرتبطة به وقطاعات نافذة في الأمن والدولة.

ما هو كامن وعميق له مصدران رئيسيان ينتسبان إلى ثورتين. المصدر الأول، ثورة يناير وأجيالها الجديدة وتطلعاتها إلى مفارقة الاستبداد والتحول إلى مجتمع ديمقراطي حر يتأسس على مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. انضبط خطابه على مبادئ يناير، شرحها ببساطة ويسر، لغته سليمة وحججه تلازمه، نجح في اختراق العزلة التي أريد لها أن تفرض على الثورة ومد جسوراً مع شعب فقير ومهمش يتوق للعدالة.

هنا تجلى المصدر الثاني للقوة الكامنة في المجتمع.. ثورة يوليو، فمثله الأعلى «جمال عبد الناصر»، لا يسعى إلى تكرار تجربته التاريخية، فالعصور تغيرت، ولكنه يستلهم انحيازاتها الاجتماعية الكبرى، وهو الوحيد الذي صدقه الفقراء عندما تحدث عن حقوقهم المهدرة. فالتجربة التاريخية تسند خطابه وصورة «عبد الناصر» تزكيه.

هناك شوق مكبوت للعدالة وتطلع قديم لإنهاء الظلم الاجتماعي. كانت الرسالة واصلة إلى المستقبل في قضية العدالة الاجتماعية، وتلك القضية تستدعى الالتزامات الواضحة والمصدقة لا موضوعات إنشاء سياسي في النهضة الموعودة!

كانت التجربة التاريخية حاضرة ومؤثرة في القطاعات الشعبية. لخص خطابه مراجعات فكرية وسياسية داخل التيار الناصري خلال أربعين سنة: عدالة اجتماعية واستقلال وطني مع ديمقراطية سياسية وضمانات حقوق إنسان لا سبيل للتفريط فيها أو المساومة عليها.

حدث تحول دراماتيكي في اتجاهات الرأي العام لخصه التعبير السياسي لسائقي التاكسي في القاهرة.. من الميل العام إلى مناهضة الثورة والشكوى من وقف الحال عند التظاهرات المليونية في ميدان التحرير إلى التأييد الكاسح لمرشحها في انتخابات الرئاسة. إنه الخطاب الجديد بلا استعلاء على المواطن العادي ساعياً إلى إقناعه أن مصلحته في الثورة وأهدافها.

اعتبار العدالة الاجتماعية من الروافع الكبرى لظاهرة «صباحي»، فالاتجاه العام للمشروعين الآخرين يميني، ولا توجد فوارق حقيقية بينهما في هذه القضية بالذات.

تبنى «صباحي» منحى يسارياً زاوج ما بين مواريث يوليو وعدالة الإسلام، يوليو بتجربتها الاجتماعية العميقة مع مراعاة الأحوال والعصور المتغيرة والإسلام بثقافته الوسطية المتسامحة المنفتحة على شركاء الوطن. هذا الخطاب دعا قطاعات كبيرة من الفقراء والمحرومين أن يضعوا أصواتهم في صندوقه وأن يصفوه على نطاق واسع بـ«مرشح الغلابة»، وهو تعبير كاد يبهت ويغيب عن المسرح السياسي المصري بميوله اليمينية الواضحة.

أحياء فقيرة ومدن كبرى تعد تقليدياً من قلاع جماعات الإسلام السياسي منحته أصواتها باكتساح، وهو تصويت عقابي لتلك الجماعات من جماهير محبطة من أدائها السياسي في البرلمان من ناحية وتصويت لأحلام العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى، وهي أحلام تقودها فكرة تلهم: حقوق تؤخذ لا صدقات تمنح.

كسب «صباحي» أصواتاً تطلب الحق في الحياة والكرامة والمستقبل دون أن يكون في حاجة إلى رشى بزجاجات زيت أو أجولة بطاطس، جاءت إليه دون أن يحملها أحد على باصات.

كل صوت وصل إليه فيه رهان على المستقبل، وهو رهان أفضت خسارته إلى مشاعر حزن سادت المشهد.

وهذه مسألة محيرة أن يكون الخاسر في وضع معنوي وشعبي أقوى من اللذين وصلا إلى حلبة النهاية، كلاهما يعتقد بداخله أنه ليس صاحب حق أصيل في المنصب الرفيع وأنه وصل إلى جولة الحسم إما بقوة التنظيم وموارده المالية أو بقوة الدولة وأجهزتها الأمنية ورجال أعمال النظام السابق.

شعار حملته الانتخابية من ضمن أسباب صعود ظاهرته. هناك من راهن على أنه يقدر على التحدي (عمرو موسى)، أو يستطيع بناء الدولة القوية (عبد المنعم أبو الفتوح)، أو أنه يحمل مشروعاً للنهضة (محمد مرسي)، أو الأفعال قبل الأقوال (أحمد شفيق)..

كلها حاولت بدرجات مختلفة أن تراهن على صورة الرئيس القوي، «صباحي» وحده راهن على المواطن العادي..

وعند فرز الصناديق الأخيرة والآمال المعلقة عليها تعدل على شبكات التواصل الاجتماعي شعاره الانتخابي من «واحد مننا» إلى «حلمنا كلنا». منح الثورة نفساً جديداً وثقة في النفس وأن صوتها يدوى في بيوت الفقراء لا على شبكات التواصل الاجتماعي وحدها.

هذا بدوره درس عميق في حاجات المجتمع المصري، لا يريد خبرة يدعيها أصحابها، ولا يريد كلاماً عن نهضة لا يعرف ما هي أصلاً، يريد من يحدثه عن حقوق الفقراء في هذا البلد، وأن يكون كلامه مصدقاً، أن يحدثه كإنسان عنده احتياجاته لا كموضوع انتخابي عابر.

المثير في الظاهرة كلها أن «حمدين صباحي»، وهو شخصية سياسية لها تاريخ طويل يمتد لأربعين سنة، لم يتسن لقطاعات كبيرة من التي انتخبته أن تتعرف عليه من قبل. تمكن في وقت قصير للغاية أن يحوز ثقتها.

قدراته على الإقناع أنضجتها السنين. كان مثيراً أن تجد سيدة بسيطة تبيع الخبز على الطرقات ترى فيه «واحد مننا» وهي تنطق اسمه بصعوبة بالغة وتتحسس حروفه حتى تتأكد من أنها نطقته بصورة سليمة.

«مدد الله وإرادة الشعب»، هكذا يفسر «حمدين صباحي» بعباراته المتصوفة ظاهرته التي فاجأت الجميع.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2165694

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165694 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010