الأحد 27 أيار (مايو) 2012

حراك مصر الدولة «الثقيلة»

الأحد 27 أيار (مايو) 2012 par علي جرادات

في مواجهة شروط خارجة عن إرادتهم وتحدد لها الممكن من غير الممكن في كل محطة، يصنع الناس بفعلهم ككائنات واعية تاريخهم وأحداثه الكبرى التي لا تعمل، (صيرورة ومسيرة ونتائج)، بالأبيض والأسود، بل لها، (كما هو للتاريخ دوماً)، الكثير من الظلال والمكر والمفاجآت. لذلك، ولأن العرب هنا ليسوا استثناء، فقد كان من الطبيعي حد البداهة توقع أن يكون حراك شعوبهم، وهو حدث تاريخي بكل المعاني والمقاييس، سيفاً ذا حدين، خاصة مع تشابك مسيرته الداخلية المُعقدة مع تدخلات خارجية معادية تقودها الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وتستهدف حرْف مساره وقطْفَ ثماره، وعلى الأقل احتواء تداعياته على ما لها من منظومة سيطرةٍ وتحكمٍ في الوطن العربي وغلافه الإقليمي.

ثمة في ما سبق ما يفسر ويحيل إلى ما يعصف بالحراك الشعبي العربي من أحداث خطيرة تنذر بحرف مساره وبانزلاق أكثر من قطْرٍ عربي إلى ما لا تحمد عقباه من النتائج التي لم يكن وليس ثمة من سبيل لتفاديها وتجنب السقوط في وهدتها القاتلة سوى سبيل الحفاظ على الطابع الشعبي السلمي والوطني لهذا الحراك، وهو السبيل الذي جسدته، (مع أخطاء لم تغير الاتجاه العام)، تجربة الحراك الشعبي المصري، (دون نسيان التجربة التونسية)، أما لماذا؟

فلأن مصر تبقى «ثقيلة» لا بتعداد سكانها وبموقعها ودورها الإستراتيجيين وحسب، بل وقبل ذلك وزيادة عليه بعراقة ما تختزنه من تجربة حضارية تمتد لآلاف السنين، وبعراقة ما بنته من دولة راسخة بعمادين: جيش وطني وقضاء عادل، وهذا وذاك، (على الأقل)، قياساً بنظيريهما السائدين في بقية معظم الأقطار العربية «الآن» و«هنا». ما معنى هذا الكلام؟ كان طبيعياً ألا تتفاعل مؤسسات مصر الدولة «الثقيلة» بالمعنى المشار إليه أعلاه مع حراك شعبها السلمي إلا على النحو الذي تفاعلت به معه، حيث نأى الجيش بنفسه، (كاتجاه عام)، عن قمع شعبه، بل، وحماه من بطش النظام، محافظاً بذلك، (الجيش)، على كونه مؤسسة دولة وليس مؤسسة نظام، وبالمثل تفاعلت مؤسسة القضاء مع هذا الحراك ومجرياته، محافظة بدورها على كونها سلطة قضاء مستقل ومرجعية في دولة وليس مطية للسلطة التنفيذية فيها.

على أية حال، ما انفكت مصر الدولة تعيش مخاضَ عبور طور جديد ومعقد من أطوار تحولها الديمقراطي السياسي والاجتماعي، لكن، ولأنها «ثقيلة»، فإنها تعبر إليه ببطء يراها المرء معه ساكنة كأنها متحركة، ويراها متحركة كأنها ساكنة، مع ذلك يبقى بالتبسيط، (كيلا نقول بالسذاجة)، أشبه توقعُ حسمٍ سريعٍ ومستقرٍ للنتائج النهائية لهذا المخاض الطويل المعقد والشائك الذي انطوى بالضرورة، ولا يزال، على المرور في محطات صراع بين قديم يتهاوى دون أن ينتهِ كلياً بعد، وجديد يتشكل دون أن يأخذ شكله النهائي بعد، لكن هذا الصراع الذي لم يجنح عن طابعه السلمي والوطني، سيصل بأقل خسائر ممكنة، إلى هذا القدْر أو ذاك من النتائج التي ابتغى مفجروه، («شباب مصر الناهض»)، إيصال مصر إليها، لتشكل مستوى نوعياً جديداً في مسيرة نهوضها، وأساساً متيناً للبناء عليه. ويعطي ما يعيشه أبناء مصر، ومعهم أبناء أمتهم العربية، من انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وتعددية لرئيس الدولة في مصر بعد انتخاب مؤسستها التشريعية، الكثير من الأمل والثقة في أن مصر الدولة على الطريق الصحيح والسليم تسير وتتحرك، راسمة بذلك، (مرة أخرى وكعادتها)، النموذج الذي، تقدم الأمر أم تأخر، سيستلهمه أبناء الأمة في أقطارهم المختلفة، التي يشهد عدد منها، بسبب جنوح الحراك الشعبي فيها عن طابعه السلمي والوطني، أحداثاً تنذر فعلاً بتفكيك وتدمير وتقسيم دولها وتحويلها إلى دول فاشلة، ناهيك عما تنذر به من تمزيق لنسيجها الوطني والمجتمعي.

فهناك في سوريا تستمر حالة من النزف الداخلي والاستنزاف الخارجي يصعب تقدير متى، وكيف، وإلى أين، تنتهي، لعل أخطر تجلياتها ما يقع في مدنها من تفجيرات انتحارية مدمرة يشي تكرر وقوعها بأن ثمة خلفها قوى داخلية منظمة ليس من التعسف الظن بأن ثمة قوى خارجية ترعاها، ما ينذر بتكرار ما ذاقه الشعب العراقي على هذا الصعيد لسنوات؛ وهناك بداية انتقالٍ لما يجري في سوريا إلى شمال لبنان وإلى جزء من عاصمته بيروت، لعل من التبسيط الاطمئنان إلى أن احتمال اتساع نطاقه ورقعته وحدته غير وارد.

وهناك في اليمن موجة تفجيرات انتحارية تدميرية غير مسبوقة أودى آخرها بحياة 100 من أفراد الجيش اليمنى فضلاً عن جرْح 300 آخرين منهم، بكل ما يعنيه ذلك من حرْفٍ لمسار استكمال مسيرة التغيير الجاري في هذا القطْر العربي، الذي يصطدم حراكه الشعبي وأهدافه في التغيير الوطني والديمقراطي بمعيقات تدخلات خارجية كثيرة وكبيرة، تستدعيها استثنائية موقعه الإستراتيجي إقليمياً ودولياً.

وهناك في ليبيا حالة من الاشتباك بين مليشيات مسلحة تشحنها أجندات تكوينات سياسية جهوية وقبَلية لديها ما لديها من توجهات الانفصال والتقسيم لليبيا الدولة والوطن والمجتمع والثروة، ما ينذر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الاستقلال، ولها ما لها من ارتباطات، معلنة أو مضمرة، مع جهات خارجية لا يعنيها سوى نهب ما تزخر به ليبيا من ثروة نفطية هائلة، شكل الطمع فيها، (وليس «حماية المدنيين» من بطش نظام القذافي المطاح)، السبب الفعلي لتدخل حلف الناتو العسكري في شؤون انتفاضة شعب هذا القطْر العربي بغرض تحويله بعد العراق إلى دولة فاشلة تابعة ومنهوبة.

وهناك في العراق تتواصل وقائع تصدع نظام سياسي سموه، رغم مضمونه التحاصصي الطائفي والمذهبي والإثني، نظاما ديمقراطياً جديداً، ما يبقي خطر المس بوحدة العراق وتقسيمه واحتراب قواه السياسية وتفسخ نسيجه الوطني والمجتمعي، خطراً قائماً، كيف لا والولايات المتحدة هي مَن صاغ هذا النظام السياسي على مقاس إبقاء العراق بثرواته الهائلة تحت سيطرتها، وفي حالة تبعية لها. تلك بلا ريب لوحة قاتمة، لكن الأمل كل الأمل يبقى معقوداً على مصر، بمعزل عمن سيفوز في انتخاباتها الرئاسية، ما يوجب القول: عمار يا مصر الدولة «الثقيلة».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165825

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165825 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010