السبت 12 حزيران (يونيو) 2010

الجبن والكرامة والتضامن

السبت 12 حزيران (يونيو) 2010 par د. مازن قمصية

أحدثت مأساة “سفينة الحرية” جرحاً عميقاً في نفسي، لأنني أحتفظ بعلاقة صداقة شخصية مع أكثر من 80 من المختطفين . وقد ازدادت آلامنا وأحزاننا مع عدم تمكننا من معرفة أي معلومات حول الناجين . والصور الوحيدة التي تلقيناها بعد الاعتداء الآثم كانت مبتسرة وصادرة من السلطات “الإسرائيلية” التي عتمت تماماً على الأخبار . ولما كانت “إسرائيل” تزعم أن ليس لديها ما تخفيه،

فلماذا لم تسمح للمختطفين بالحديث لوسائل الإعلام أو على الأقل لمحاميهم أو ممثلي بلدانهم؟ وفي أحد مشاهد الفيديو رأينا القراصنة “الإسرائيليين” يقتادون ثلاثة أو أربعة من أصدقائنا المعروفين، وفي تلك اللحظة سرحت بخيالي بعيداً، وهيئ لي أن العدالة تحققت، وارتسم في ذهني مشهد هؤلاء “الإسرائيليين” المجرمين مكبلين ومقتادين للمحكمة الجنائية الدولية .

في الأسبوع الفائت، استبد بنا الغضب عندما اعتدت القوات “الإسرائيلية” على متظاهرين غير مسلحين بالقرب من بلدة قلنديا في الضفة الغربية المحتلة، وأصابوا صديقة لنا، إذ فقدت إميلي هينشوفيتز (22 عاماً) عينها اليسرى بعد تعرضها لهجوم بواسطة رشاشات الغاز التي أطلقها عليها الأمن “الإسرائيلي” . وسبق لنا أن التقينا إميلي في مناسبات عدة هنا في فلسطين . وتعمل إميلي هينشوفيتز مصوّرة ورسامة، وكانت توثق للمقاومة والتظاهرات الشعبية الفلسطينية . ولا شك أن فقدان مصوّرة لعينها أمر لا يمكن وصفه أو التعبير عنه بكلمات .

إن أي شخص من بين المئات الذين تم اختطافهم يعتبر بطلاً لأنه انضم لسفينة الحرية . البطريرك هيلاريون كابوتشي الذي سجن في “إسرائيل” عدة سنوات ويعيش حالياً في إيطاليا كان ضمن المختطفين . وكذلك الشيخ رائد صلاح، وهو من فلسطينيي الأراضي التي احتلت في 1948 ويترأس فرعاً من فروع الحركة الإسلامية، ومن المختطفين كذلك، وهيدي إبشتين (86 عاماً)، وهي امرأة يهودية فقدت عائلتها في أحد معسكرات الاعتقال النازية وترى أن “إسرائيل” تمارس نفس ممارسات النازية “ولذلك أذلها “الإسرائيليون” وأخضعوها لمعاملات مهينة” . كذلك كانت ميرياد كوريغان ما غواير الحائزة على جائزة نوبل للسلام ضمن المختطين . وكذلك جو ميدورس وهو أحد الناجين من الاعتداء “الإسرائيلي” على السفينة “يو إس إس ليبرتي” الأمريكية، العام 1967 خلال العدوان “الإسرائيلي” على الدول العربية .

لا تزعجوا “إسرائيل”

والآن وفي ذكرى الهجوم على “يو إس إس ليبرتي”، تعيد “إسرائيل” مذابحها لتشمل مواطنين أمريكيين بدم بارد، ومن دون خوف من أي عواقب . ومع ذلك تستمر إدارة أوباما في الدفاع عن “إسرائيل” وحمايتها بصورة تدعو للرثاء والاشمئزاز .

وعندما بلغ سخطنا ذروته، قررنا الخروج للاحتجاج في الضفة الغربية بيد أننا اصطدمنا بمعوقات مؤلمة . ففي بيت لحم، أغلق أكثر من 50 عنصراً من عناصر “الأمن الوقائي الفلسطيني” والشرطة، طريقنا ومنعونا من التوجه نحو منطقة جدار العزل العنصري . وأخبرنا بأنه يمكننا التظاهر بشرط أن لا نتسبب في مضايقة مَن نتظاهر ضدهم! وفي الأعوام الأخيرة الفائتة كانت قوات السلطة الفلسطينية المدججة بأسلحة ثقيلة تغلق الطرق، وأحدث ذلك أثراً نفسياً مذهلاً في الفلسطينيين وفي الأجانب أيضاً .

لا يمكن لأي مقاومة شعبية أن تصمد في ظل أوضاع مشابهة .

أثر المقاومة الشعبية

وتعريف المقاومة الشعبية يشمل رفع كلفة الاحتلال للمحتلين، كما أن أنشطة المقاومة المدنية تتضمن إثارة القلاقل والارباكات .

القاومة الشعبية لا ينبغي تقليصها وتحجيمها وحصرها في حمل اللافتات والشعارات والتلويح بها في الطرق والأرصفة . المقاومة الشعبية تشمل أفعالاً جريئة وخطرة مثل التي قام بها الآلاف من الذين هبوا لنصرة “أسطول الحرية” .

القادة والزعماء في رام الله وفي مدن عربية أخرى، أظهروا في خطاباتهم تأييدهم للمقاومة الشعبية التي قدّم “أسطول الحرية” مثالاً حيّاً لها . بيد أن الخطابات والكلمات لا قيمة لها، والكلمات التي تقال في العلن ليست مثل التي تقال خلف الأبواب المغلقة وفي كواليس السلطة . والملاحظ أن الخطابات نفسها ليست متسقة . ففي إحدى المناسبات قال زعيم فلسطيني بارز إن سفن المساعدات الإنسانية عبارة عن مغامرات لا طائل منها ولا تحدث أثراً حقيقياً . والقيادة الفلسطينية التي وعدتنا بعدم استئناف المفاوضات حتى يتم تجميد بناء المستوطنات، عادت مرة أخرى للتفاوض في نفس الوقت الذي نرى فيه أنشطة الاستيطان في كل مكان حولنا في القدس الشرقية وفي أماكن أخرى من الضفة الغربية . وبدلاً من إغلاق السفارات “الإسرائيلية” في الدول العربية، وفّرت لها حكومات تلك الدول حماية أمنية ثقيلة لمنع المتظاهرين من الوصول إليها . وهكذا لم يكن مفاجئاً تنظيم تظاهرة في السويد الأسبوع الفائت (شارك فيها 7000 شخص)، وكانت أكبر من تظاهرات عمان ورام الله .

وثمة تساؤل هنا يفرض نفسه، هل سيكون الاعتداء على “أسطول الحرية” القشة التي قصمت ظهر البعير؟ هل سيؤدي هذا الاعتداء إلى مواجهات أو يمنع حدوث أفعال مشابهة مستقبلاً؟

تياران

إذا نظرنا اليوم للمشهد الجيوبوليتيكي، سنرى تياراً يبعث على اليأس والإحباط، وآخر يقدّم لنا الأمل والتفاؤل . والقيادة السياسية في الدول العربية المتشظية والسلطة الفلسطينية أقنعوا أنفسهم بأنهم ليس لديهم خيار سوى بذل المحاولة تلو المحاولة بلا نهاية للتفاوض مع تل أبيب وواشنطن (الأخيرة نفسها منطقة احتلتها “إسرائيل” منذ أمد بعيد) واللصوص “الإسرائيليون” الذين استولوا على بلد بأكملها، بإمكانهم تخطي القانون الدولي مراراً وتكراراً والإفلات من العواقب . فنحن لدينا 62 عاماً من الوحشية الدموية تشمل أكثر من 33 مجزرة في العام ،1948 “مروراً بذبح القرويين الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون العودة لديارهم بعد حملات التطهير العرقي في الخمسينات”، وانتهاء بالمذابح العابرة للحدود في العام ،1956 وفي السبعينات، وفي ،1982 وفي 2006” .

ومذبحة غزة في العام الفائت . هل سيحمِّل أحد “إسرائيل” المسؤولية عنها؟ هل يمكن اقتياد نتنياهو، وباراك، وليفني وأولمرت للمثول أمام المحاكم الدولية لتحمل تبعات المذابح التي أمروا بارتكابها؟ حتى بمعايير التقرير الذي أصدره القاضي اليهودي غولدستون، تعتبر مذبحة غزة انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي .

جريمة الحصار

والمذبحة الأكبر في السنة الحالية ليست الاعتداء على هذه السفن في المياه الدولية، وخطف 750 من نشطاء السلام . المذبحة الأكبر هي الحصار الإجرامي على غزة، والتدمير الممنهج لحياة الفلسطينيين في المناطق المحتلة . فبعد مصرع 1400 شخص في غزة وتدمير آلاف المنازل، تم تكثيف الحصار الذي عطّل إعادة البناء ومنع وصول المساعدات الإنسانية لغزة . وتدريجياً تتواصل عملية محو القدس العربية من الخارطة . والقرى حول المدينة تتعرض لعمليات عصر ودك “البعض منها مثل الولاجه ووادي رحال مستهدفة بتطهير عرقي كامل” .

وفي السابق كان بعض المسؤولين يبررون إغلاق معابر غزة بالقول إن فتح الحدود والمعابر قبل إجراء تسوية للصراع بين “فتح” و”حماس”، قد يؤدي لتقوية “حماس” وتعميق الانقسام بين “فتح” التي تسيطر على الضفة الغربية و”حماس” التي تهيمن على غزة . وللرد على هذه المبررات أستطيع أن أقول إن إنزال عقاب جماعي على 1،5 مليون فلسطيني أمر غير مقبول بالمرة، وجريمة بكل المعايير الأخلاقية والمعنوية والقانونية . وحتى بالمقاييس النفعية البحتة بالنسبة لأولئك الذين لا تعجبهم أيديولوجية “حماس”، يعتبر إغلاق المعابر تقوية لموقف “حماس” .

والملاحظ أن “حماس” وحزب الله وتركيا يبدون أكثر تجاوباً مع غضب الشارع . ومن الممكن أن لا نتفق مع أيديولوجياتهم ولكنني أعرف كثيرين من أفراد عائلتي، وهم مسيحيون، يهتفون بإعجاب عندما يستمعون لخطب حسن نصر الله أمين عام حزب الله، وأعتقد أن “فتح” و”حماس” بحاجة لأن يبتعدا عن الفخ الذي نصب لهما في أوسلو، وعليهما تفكيك حكومتيهما والعودة لوضعهما السابق كحركات مقاومة . والحركة التي تفعل ذلك أولاً ستصبح محترمة أكثر من غيرها بالنسبة للشعب الفلسطيني . ولا توجد حكومة تعمل تحت نير الاحتلال ولا تكون مقيدة بخدمة أهدافه وتوجهاته . كما أنني أتساءل عما سيحدث إذا اختار بعض القادة العرب اتخاذ مواقف شجاعة مبنية على قيم ومبادئ، وليس على حسابات خاطئة تخشى الامبريالية الأمريكية “الإسرائيلية” . وأعتقد أن الولايات المتحدة انتهت كقوة عظمى “والفضل في ذلك يعود للوبي “الإسرائيلي” الذي جعل أمريكا تنزف بغزارة بعد أن جرها لحروب لا نهاية لها” . وأنا أدرك بأن غالبية السياسيين يحبون أن يشعروا بأمان تام ويخشون أي تغيير . لكنني أتمنى أن يلحظوا حقيقة مفادها أن السياسيين الشجعان يخلدون أسماءهم في كتب التاريخ . أما من يراوحون مكانهم سعياً لحماية كراسيهم يصبح مصيرهم العتمة والنسيان . فالجبن لم يكن يوماً ما فضيلة تحتذى .

فلسطين تجتذب القيم الأفضل من الناس، الذين يحبون العيش بكرامة ويحترمون أنفسهم . ثمة نبل وسمو خارق في حياة راشيل كوري القصيرة، التي فقدت حياتها عندما وقفت في وجه جرافة “إسرائيلية” في رفح . و”أسطول الحرية” أظهر تضامناً بين شعوب لديها عداء تاريخي . إذ جمع بين مواطنين من اليونان وتركيا داخل السفن، وفي مراكز الاعتقال “الإسرائيلية” .

ولو قدر للبشرية بأن تبقى في ال 100 سنة القادمة فسيكون ذلك بفضل أولئك الذين يعملون بنبل وكرامة واحترام للنفس، عوضاً عن الجبن والمصلحة الذاتية . ودروس الكرامة المستهلمة من أمثال راشيل، وباسم أبو رحمة “الذي استشهد عندما أطلقت عليه القوات “الإسرائيلية” رشاشات الغاز في بعلين”، والعبر التي منحتنا إياها سفن الحرية، تصلح كلها دروساً ينبغي العمل بها في كتب التاريخ الجديدة، وأنا على ثقة بأنها ستكون مختلفة جداً عن الدروس المدونة لدينا حالياً . وضمن هذا السياق، بدا ملائماً كون إحدى السفن التي اختطفتها بحرية القراصنة، كان اسمها “راشيل كوري” .

متفائل

وكما قلت في عدة مقالات، أذكر الآن مرة أخرى وأصرح بأنني متفائل بالرغم من التحديات والصعاب . لماذا: الجواب باسم وراشيل “راشيل الإنسانة، وراشيل السفينة”، وأنا متفائل بسبب آلاف الشهداء الذين ضحوا ومازالوا يضحون بأنفسهم في سبيل الحرية والعدالة، وبسبب عشرات الآلاف الذين أصيبوا، والملايين حول العالم المتضامنين، وبسبب غالبية الفلسطينيين والعرب الذين يقدمون أرواحهم وضمائرهم ومازالوا مخلصين لهذه القضية العادلة .

وفي التظاهرات التي جرت مؤخراً، كان هنالك طفل في غزة يحمل لافتة تقول: “نحن نطالب بالحرية”، وثمة طفل آخر في القاهرة كان يحمل لافتة تقول: “الأطفال في مصر وفي غزة يطالبون برفع الحصار” . هذا هو مستقبلنا وليس السياسيين المسنين الذين يجتمعون فقط من أجل الظهور الإعلامي الباهت ولترديد أحاديث فارغة . وفي الأسبوع الفائت، وحتى عندما كنا نؤبن الشهداء، كانت الإنسانية تحقق نصراً جديداً .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2178492

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178492 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40