الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012

واختفت توتة الدار

الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012 par أمجد عرار

ذات يوم في مايو/ أيار 1985 تحلّق أسرى الغرفة (5) في سجن الخليل المركزي حول ذلك الفتى الأسمراني وهو يغني باكياً وبصوت متهدّج بكائية مغني الثورة الفلسطينية أبو عرب «يا توتة الدار صبرك على الزمان ان جار .. لا بد ما نعود مهما طوّل المشوار». أجهش الأسرى بالبكاء، كل واحد منهم لسبب أو ذكريات خاصة. منذ تلك اللحظة صار للتوتة شكل آخر، وللتوت طعم مختلف ثمراً وشراباً. منذ ذلك الحين أصبح لأبي عرب وأغانيه وقع غير الذي كان قبل أنشودة ذلك الفتى الأسمر في سجن الخليل الذي أصبح اليوم مقراً لأمن السلطة الفلسطينية.

توتة أبو عرب زرعها صوته في آذان ووجدان الفلسطينيين في الوطن والمخيمات والشتات عندما حملها موال مهّد لأغنية «هدي يا بحر هدي .. طوّلنا في غيبتنا .. ودي سلامي ودي للأرض اللي ربتنا». توتة ابو عرب اقتلعت من ذاكرتي تلك التوتة التي كانت تتوسّط ساحة قريتنا، وقطعها أحد كبار البلد لأن أولاد القرية كانوا يصيدون العصافير عاشقة التوت من فوق أغصانها.

توتة أبو عرب تعود من جديد إلى وجدانه ووجدان الفلسطينيين ايضاً. كنا نعتقد أن التوتة في موال أبي عرب كانت مجرد رمز وجداني في أغنية حنين للوطن، ولم نكن نعلم انها توتة حقيقية كانت مزروعة امام منزله في قرية الشجرة الواقعة بين مدينتي الناصرة وطبريا المحتلتين عام 1948.

عندما كان الثوار الفلسطينيون يكتبون بدمهم ملحمة العودة الحتمية، كان أبو عرب يواكبهم بكتابة الملحمة فناً ووجداناً، كلاماً يردده المقاتلون والأسرى والجرحى في المستشفيات والحالمون بالعودة أينما حلوا وكانوا. غنّى للتوتة وللتين والخروب والمُرار والعكّوب، للثورة والكفاح المسلّح والشهداء والأسرى، مثلما غنى للتحرير والحرية والعودة. بعد أربع وستين سنة على النكبة وسقوط الشجرة في براثن الاحتلال وطرد من تبقى من أهلها إلى سوريا ولبنان، بعد هذه العقود الطويلة من مرارة فقدان والوطن وعذاب اللجوء وحسرة الحنين وحشرجة الصوت المنشد ألماً، يعود أبو عرب إلى قريته الشجرة، ولو في زيارة تشبه السياحة، وتجوّل مستذكراً ملامحها، باكياً فوق أطلالها متحسّراً على المصير الذي آلت إليه القرية والوطن كلّه. ترك قريته في السابعة عشرة، وها هو يعود إليها في الثمانين من عمره، في لحظة لم يتوقّع توقيتها، وكانت بمثابة «بروفة» للعودة الجماعية والنهائية لوطن الآباء والأجداد.

ذكريات الوطن ليست كبقية الذكريات الذاتية. وعندما تكون الذكريات بعمر النكبة وطعمها وآلامها ومعاناتها، تكتسب عمقاً وتزداد توهجاً وتعطي الدموع سخونة ومزيداً من طعم الملح.

لم يكن غريباً والحالة هذه، أن يسرد أبو عرب على مسامع مرافقيه من أبناء قريته، أدق التفاصيل، وأن يعدّد أمامهم أسماء الشهداء الذين قضوا ورأوا جثث بعضهم في الحقول. ليس غريباً أن يتذكّر أن لعين الماء القريبة من المسجد أربعاً وأربعين درجة.

لكن شاعر المخيمات لم يجد «توتة» الدار، بل وجد الكثير من منازل القرية قد سويّت بالأرض التي كساها العشب. بكى «التوتة» رمز البيت في ذاكرته، وهو يتساءل بحسرة في ما إذا تمكنت المفاوضات من إعادة التوتة والدار. بكى معالم الوطن التي تغيّرت تماماً كما تغيّرت الثوابت والمبادئ واستبدلت الثورة بالتفاوض، وأوجد مثقفون متأمركون تخريجات للسياسيين وأصبح التمسّك بالحق تطرفاً والتنازل واقعيّة، وداعمو «إسرائيل» الإمبرياليون الأطلسيون أصدقاء وداعمي حرية لا علاقة لها بآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب، حتى وهم يواجهون خطر الموت جوعاً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2178171

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178171 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40