السبت 12 حزيران (يونيو) 2010

الاتجاه المعاكس في حضرةِ النفاق

السبت 12 حزيران (يونيو) 2010 par عدنان كنفاني

الناس، كلّ الناس في وطننا العربي الكبير، وصلوا إلى نهاية نفق اليأس من صلاح حال هذه الأمّة التي كانت “خير أمّة أخرجت للناس”، إلا قلّة من المنتفعين، والمقتاتين على فتات موائد السلاطين، والمطبّلين المزمّرين بالأجرة والانتفاع، ما دام مصنع القرارات الوطنية والقومية العربية يقوم في “تل أبيب” وفي عواصم دول غير دولنا، بعيدة وغريبة ومعادية.

ولست بصدد تعداد مواطن البلاء الذي صار يستشري في جسد الأمّة، فهي أكثر من أن تعد وتحصى، وعلى مختلف المستويات والاحتياجات.

لقد بدأت تتسرب من بين أيدينا عوامل الانتماء، وصار الارتماء في أحضان العبث أمراً أسهل ألف مرة من سلوك دروب التقويم والتعليم والاجتهاد والعمل، يتهافت شبابنا على برامج في بعض الفضائيات المشبوهة، تبذل بسخاء منقطع النظير، ولا أحد يعلم من أين يأتي تمويلها السخيّ!! على أمل أن تنقلهم بين عشية وضحاها إلى مراتب السموّ المادي والشهرة، أصبح المغني أو المغنيّة رموزاً وأعلاماً ومنارات، ومصادر معلومات ومراجع، ودلالات تعليم ونقد، وأصبحت الراقصات نجوم الفضائيات تلك، والحاضرات في كل محفل، وفي المقابل تراجع إلى الصفوف الخلفية، بل والتغيبية، المثقف والباحث والمدرّس والمؤرّخ والملتزم، ثم أصبحوا في المنظور العام، مجموعة من الغرائزيين الرجعيين المنغلقين والمتخلّفين عن اللحاق بالركب الحضاري الحداثي.

سكنت الهزائم فينا فأوغلت تقطيعاً في قيمنا الاجتماعية والأخلاقية وحتى الإنسانية، فقدنا حتى احترامنا لذواتنا، فشلنا على مختلف المستويات في تكريس وجودنا وأحقيتنا في الحياة، وأصبح الهاجس الطاغي على حركة حيواتنا يقتصر على “الأنا”، والمادّة، وإلغاء الآخر.

نحطم رموزنا، نحوّل انتصاراتنا، النادرة، إلى هزائم، نسخَرُ من عطاءات الشهداء، نتناسى ألوف الأسرى المعذبين، نشارك في تشديد الحصارات على شعبنا، نقف إلى جانب من يوغل فينا قتلاً وتعذيباً وقهراً وإيلاماً، ونلقي بالتهم والصفات والشبهات على الشرفاء الباذلين من أجل نصرة هذه الأمّة، نلوّثهم بشظايا ما يصدّره إلينا أعداؤنا، حتى نصبح نحن المولّدين.!

أين قوتنا.؟ أين صناعتنا، أين مبتكراتنا، بل أين خيراتنا ومواردنا ومصادرنا.؟

على مدى أكثر من سبعين سنة ونحن لم نزل “مكانك راوح”، بل في تراجع دائم، في الوقت الذي استطاعت فيه بعض الدول، أن تحقق في فترة زمنية قياسية قدرات حقيقة، وقفزات نوعية على كافة المستويات، بعض هذه الدول وصل إلى حدود الاكتفاء ذاتياً تسليحاً وإنتاجاً عسكرياً وصناعات أساسية، ونحن نملك أكثر مما تملك تلك الدول من مقومات.

تعمّقت واتسعت الفجوة بين الحكاّم وطواقمهم من جهة، وبين الشعوب من جهات أخرى.

ثم.. يخرج علينا متأنّق وصولي انتهازي على شاشة فضائية يلومنا “كشعب قطيعيّ وغرائزي، متخلّف وجاهل وغوغائي وانفعالي” لماذا نتعلّق بحبال “تركيا” ولماذا تعلّقنا بحبال “إيران”.؟

ثم يهلّل ويطبّل لحكومات عربية ساهمت علناً وسرّاً في تثبيت الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وفي تشديد الحصار على قطاع غزّة، وفي التحريض للقضاء على المقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين، ولا شك في أن تطبيله وتهليله هذا سيُؤجر عليه بسخاء.

لا أريد أن أخوض في شرح سلوكيات هذا المتأنق في موضوعات أخرى، ونصرته، بل ودفاعه المستميت عن (إسرائيل) في مشروع حربها للقضاء على حزب الله في العام 2006.!

ولا في تهجّمه على سورية القلعة الوحيدة الممانعة الباقية ممسكة بثوابت الأمّة.!

هل يمكن أن يتصوّر هذا وأمثاله موقف الشعوب العربية كيف سيكون لو كان “أردوغان” واحداً من حكّام العرب.؟ أو لو خرج حاكم عربي وقال وفعل ما قاله وفعله “أردوغان”؟

نتوسّل، وندعو الله في كل لحظة أن يخرج من قلب هذه الأمّة، وقادتها المفترضين، مثل أردوغان.! أن تقف حكومة عربية موقف تركيا.!

ألم يسمع ذلك المتأنق المثل الشعبي الذي يقول: (القرعة تتغاوى بشعر بنت أختها)، ونحن أيها الساكن في برج الانتفاع والمصلحة أينما وُجِدَت، قُرعٌ بالثُلُث.! فمن أين تريدنا أن نأتي بشَعرٍ يستر عورة قرعتنا، ما دام حكامنا يحلقون رؤوسنا بشفرات القمع، كلما نبتت في قرعاتنا شعرة.؟

وعندما يفرض عليّ الحال أن أشير إلى ذلك المتأنق الرخيص، أشير من خلاله إلى كل الطاقم، أمثاله، المواكب لحركة السقوط والتنازل، والذل والعار، وأحمّله ورهطه، من حكام مستلبين مأجورين وعملاء، المسؤولية التاريخية التي أوصلتنا إلى هذا الدرك المهين.

نحن نعرف إيران، ونتابع مواقفها المتضاربة هنا وهناك، ونعرف أن المصالح الإيرانية، والتركية، ومصالح أي دولة وكيان، يحتلّ أولويات حركة وسياسة وإستراتيجية كلّ منها، وهذا حقّ لا يمكن لأحد أن يشكك فيه، ونعرف أن علينا أن لا ننتظر ولا نتوقّع من يأتي من الشرق أو من الغرب، من الشمال أو من الجنوب ليحارب عنا، أو ليعيد لنا حقوقنا المهدورة، أو ليضع همومنا ومشاكلنا على سلم أولوياته، وهذا حق أيضاً، فلكل دولة إستراتيجيتها ومصالحها.

ولكن، هل مطلوب منا أن نقول لمن يقف وقفة حق مع قضايانا، قف أنت غريب، وأنت طامع، نواياك مشبوهة، فلا تتدخّل في شؤوننا.؟

هل مطلوب منا أن نلقي بأحمالنا وكرامتنا ووجودنا وتراثنا وتاريخنا وأخلاقنا على ظهور حكامنا وحكوماتنا، وننتظر يوم يبيعونا جمعاً في أسواق النخاسة.؟

وهل مطلوب منا، ومن شبابنا مواصلة المضيّ مهرولين فرحين إلى أعشاش “الستار أكاديمي، والسوبر ستار، ومسابقات ملكات وملوك الجمال واللانجري والطبيخ والبطيخ والأزياء، والكليبات الفاضحة، ومسابقات الثراء الرخيص.؟”.

كلما لاح لنا طيف أمل، من هنا أو من هناك، يغلقون في وجوهنا كل فسحات الأمل، يبتدعون أسباباً وغايات ينشدها الآخر “النصير المفترض” على حساب جهلنا وغرائزنا وتخلفنا وغوغائيتنا.

لو كنا أقوياء، ولو كانت الحكومات العربية المتعاقبة حكومات نظيفة، بعيدة عن الفساد، والارتماء في أحضان الآخرين الغرباء الأعداء، ولو عملت حكوماتنا على بناء قوّة “ونحن نملك كل المقوّمات البشرية والمادية والفنيّة لذلك”، ولو أحسنت بناء الإنسان، كنا رفعنا أعلام دولة الإمارات على الجزر الثلاث، وكنا تمكّنا من حماية العراق من الاحتلال والسقوط والتفتت، وكنا أحسنا حماية أمننا القومي، وحدودنا القومية، الشرقية والغربية، الشمالية والجنوبية، وكنا دعمنا بقوتنا ولحمتنا وحدة السودان، ووحدة اليمن، وكنا أرسينا حالة استقرار ونماء في الصومال، وشددنا عرى الأخوّة بين دول شمال أفريقيا العربية، ولو كنا نملك قوانا الذاتية، وقرارنا الوطني والقومي المستقل، لعاد لواء اسكندرون إلى حضن سورية، وتخلّصنا من الغزو الإحلالي العنصري الصهيوني، وكنا فرضنا احترامنا على كل الدول، ولم نكن بحاجة لتلقّف وانتظار مواقف من دول أخرى تساهم في دعم قضايانا، ولم يكن لهذا المتأنق الوصولي وأمثاله، فرصةً للظهور والاسترزاق على وقع هزائمنا وبؤسنا.

إن الموقف التركي الرسمي الحالي، والمتصاعد، عامل دعم ونصرة، واجبنا أن نستثمره وندعمه ونحرص عليه، فهل مطلوب منا أن نستنكر هذا الموقف، ونبقى مرتهنين إلى حكام باعونا بالرخيص، وألقوا أحمالهم في دوائر الآخرين، وهم يدركون يقيناً أن هؤلاء الآخرين هم أعداء هذه الأمّة، وهم السبب والمسبب في كل سقوط وصلنا إليه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2178622

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

50 من الزوار الآن

2178622 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 50


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40