الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012

تركيا بين العلمنة والمذهبية

الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012 par د. محمد نور الدين

تقول الباحثة التركية دينيز أولكه أريبوغان إن أخطر ما يتهدد منطقة «الشرق الأوسط» هو الصدام المذهبي أي الصراع السني - الشيعي. وتتوقع أن تمتد هذه الفتنة بعد أعوام إلى منطقة شمال إفريقيا.

لكن بيت القصيد في حديثها أن تركيا إذا لم تنتهج في سياستها الخارجية خطاً علمانياً فإنها ستجد نفسها حتماً طرفاً في الصراع المذهبي.

وهكذا، تقول أريبوغان، ما سيريح أكثر شيء «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية، وترى أريبوغان أنه في حال سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، فهذا سيفسر أن تركيا لم تتدخل في سوريا لأسباب إنسانية بل لإطاحة نظام علوي وإحلال نظام آخر بدلاً منه. وهذا يضع تركيا في دور مختلف عما يفترض أن تكون عليه. لكن الخطر القائم دائماً هو أن أي صدام مذهبي في سوريا سوف ينتقل إلى تركيا، مضافاً إليه الصدام الإثني القائم في الأساس.

لا يمكن النظر إلى ما يوصف بالنموذج التركي بمعزل عن مسيرة تركيا في القرن العشرين بعد انهيار الدولة العثمانية.

العثمانيون الذين أسسوا إمبراطوريتهم على أساس الإسلام الحنفي، انتقلوا تدريجياً إلى أنظمة حديثة على النمط الأوروبي في الملكية والتجنيد والقضاء في ما عرف بالتنظيمات. لكن «النموذج» الذي يروّج له الآن في تركيا حول الإسلام والعلمانية والإسلام والديمقراطية ما كان ممكناً له البزوغ لولا الركيزة الأولى وهي العلمانية التي وضع أسسها مصطفى كمال أتاتورك. وبمعزل عن الصرامة والتطرف الذي طبقت فيه فقد كانت تجربة رائدة أولى في عالم إسلامي نخرته الفتن المذهبية والصراعات الدينية.

وبعد الحرب العالمية الثانية انضمت تركيا في اللحظة الأخيرة إلى المحور المنتصر في الحرب، ولكنها انحازت إلى المعسكر الغربي المعادي للاتحاد السوفييتي والشيوعية. ومع أن الغرب كان وحشياً في التعامل مع مستعمراته وشعوبها فقد اشترط على تركيا أن تلتزم التعددية الحزبية والديمقراطية ليقبلها في صفوفه. وكان يمكن لهذا الغرب ألا يفرض مثل هذا الشرط على دولة مسيحية تريد الانضمام إليه، لكن تركيا المسلمة تبقى دائماً مصدراً للهواجس لدى المجتمعات الغربية المسيحية التي كان تاريخها القريب صراعات دموية مع الأتراك العثمانيين أنفسهم.

وبذلك أمكن لتركيا أن تمر في مصهر العلمانية والديمقراطية بغضّ النظر عن آليات تطبيقهما التي اتسمت الأولى، العلمانية، بالتطرف، والثانية، الديمقراطية، بالتشوّه، عبر تحكّم العسكر بالسياسة وقيامه بانقلابات عسكرية متعددة.

وقد أسهمت الحركة الإسلامية في تركيا بقيادة زعيمها التاريخي نجم الدين أربكان بدور قوي في ترسيخ النموذج التركي الذي يحكى عنه الآن . فقد التزم أربكان وجماعته بالعلمانية رغم تحفظاتهم عليها. وأكثر من ذلك كان من المستفيدين من العملية الديمقراطية عبر وصوله إلى رئاسة الحكومة عام 1996 ومشاركته في حكومات سابقة وسيطرته على البلديات الكبرى ومنها أنقرة واسطنبول. لكنه في الوقت نفسه كان من أكبر ضحايا النموذج الذي كان سائداً عبر إطاحته في انقلاب مقنّع عام 1997.

لقد مرّت أوروبا عبر عصر الأنوار بحروب مذهبية طاحنة داخل الدين المسيحي. ولم تخرج منها إلا عبر صيغ حديثة للتعايش وفي مقدمها العلمانية. ومع أن العلمانية ظهرت في أوروبا المسيحية وهو ما يجعلها غير قابلة للتطبيق الحرفي في المجتمعات الإسلامية، فإن التجربة التركية حاولت ان تقدم نفسها حقل اختبار لإمكانية التوفيق بين القيم الإسلامية والأساليب الغربية في الحكم والعلاقة بين المكونات المختلفة للمجتمع.

إن استنساخ النموذج الأوروبي في مجتمعات إسلامية سيكون خطأ كبيراً. لكن الاستفادة من مكتسبات الغرب في التعايش بين المختلفين دينياً ومذهبياً سيكون أمراً مفيداً، وهذه ستكون من واجبات النخب الفكرية والسياسية التي عليها ابتداع مثل هذه الصيغ.

ذلك أن انبعاث الحساسيات المذهبية هنا والدينية هناك في عالمنا العربي والإسلامي من وقت إلى آخر ومنذ ألف وخمسمئة عام ما عاد مقبولاً البتة. وما عاد مقبولاً أن تراق دماء المسلمين بذريعة الاختلاف الديني أو المذهبي.

وتركيا اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز النهج غير المذهبي الذي كانت عليه حتى لا تتورط، كما هو حاصل اليوم، في تأجيج الصراعات المذهبية، فتخسر كل ما بنته من إيجابيات على امتداد العقود الماضية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2178263

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178263 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40