الخميس 29 آذار (مارس) 2012

أسرى يعزون بأنفسهم

الخميس 29 آذار (مارس) 2012 par أمجد عرار

نقرأ في الصحافة كل يوم سيلاً من إعلانات التعازي بأشخاص رحلوا عن عالمنا، منهم من فاجأ أحباءه بالرحيل في عمر الزهور، وآخرون أمضوا من العمر عتياً ولم يبق منه شيء يحتاج نبض قلب وخفقان روح. لم نقرأ لشخص يعزي بنفسه ويطلب فتح بيت عزاء فيه، لكن الأسير الفلسطيني أحمد أبو جابر فعل ذلك وأطلق صرخة غضب وعتب باسم زملائه الأسرى من المناطق المحتلة عام 1948 الذين يقبعون خلف قضبان سجون الاحتلال منذ أكثر من ست وعشرين سنة. صرخة أطلقوها من قبور الأحياء، بعدما ملوا من الهمس والعتاب الهادئ لقياداتهم المتقاتلة والمتقاعسة عن كل ما يعكس وحدة وطنهم وعن كل ما هو جدي في القضية الأولى نظرياً للعرب. صرخة تضمنتها رسالة أبو جابر باسمهم جميعاً في وجه النسيان والإهمال عنونها بـ «دعوة للمشاركة في عزاء».

بمداد من حبر الدم يكتب الأسير الذي جاء للدنيا لأن أمه وأباه نجوا من مجزرة كفر قاسم .. يكتب الأسير الذي نسي كيف تكون السماء بلا أسلاك شائكة وكيف يكون شرب الماء بلا خوف من الدقيقة التي تليه، وكيف يكون اليوم بلا عد ثلاث مرات، وكيف يكون الأكل بملعقة معدنية والشاي بكأس زجاجية.

كان قبل ربع قرن يحمل الحد الأدنى من مواصفات إنسان منخرط في مجتمع بكل علاقاته الإنسانية وتنوعاته الزمنية والمكانية. أصبح الآن مجرد رقم يعدّه السجّان صباحاً وظهراً ومغرباً ثم يلوي جسده في ثوابت الحياة الاعتقالية. كان مناضلاً يحمل قضية تحمله فيقوى بها وتقوى به، صار ملفاً يكسوه الغبار ونسيج العنكبوت. كان عدّة للوطن صار عدّاداً يحصي الأيام التي انقضت ويدونها بتسعة آلاف وأربعمئة وتسعين يوماً، أما الأيام الباقية فتعتمد على ما وقع على الأسير من محاكم الاحتلال، فإن كانت سنوات معدودة يعد أيامها، وإن كان محكوماً بالمؤبد المفرد أو المتكرر بأمره متروك للقدر وللأمل بعمليات تبادل أسرى.

الأسير الغارق في غياهب النسيان يترك العنان لوجدانه في مخاطبة كل من تهمه حياة الإنسان ويحزن لضياع يوم واحد من عمره بعيداً عن الأهل والأحبة وفلذات الأكباد، ويطالبهم بعشم من يثق بالناس البسطاء مشاركته الأسى والحزن ومشاطرته مأساته وفقدانه آلاف الأيام من عمره داخل السجون، يناشدهم بكلمات يقرأونها كل يوم أن «تقبل التعازي في بيت أحد الأسرى الستة عشر من مناطق الداخل الفلسطيني الذين لم يلحظ «اتفاق أوسلو» فلسطينيتهم بل سلّم بأسرلتهم، فيما تعتبرهم «إسرائيل»، كعادتها، إرهابيين وخونة لما تسميه «الولاء».

أفهم أن توجه هذه الدعوة بالتعزية لمسؤولين فلسطينيين ينشغلون بامتيازات المناصب ومغانم الانقسام، لكن ليس للشعب الفلسطيني والعربي الذي يضع الأسرى في شبكيات العيون دونما انتظار لشبكات حقوق الإنسان وحقوق الأسير. ولم تمارس الرسالة الغضب ترفاً وهواية وهي تستثني قبول التعازي من أي مسؤول أو قائد من قادة فلسطينيي الداخل ومنظمة التحرير والفصائل والمؤسسات التي قدّمت لأسرى الداخل كثيراً من الكلام وقليلاً من الفعل. فهم منسيون ومن حقّهم هذا العتب حين يرون الأسيرة هناء شلبي تدخل اليوم الثاني والأربعين في معركة الجوع، تقف في الخط الأول في مواجهة الاحتلال باسم أمتين، وباسم أنظمة تائهة بين الطبع والتطبّع والتطبيع.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2165358

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165358 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010