الثلاثاء 27 آذار (مارس) 2012

سلطان العاشقين .. محجوب عمر

الثلاثاء 27 آذار (مارس) 2012 par د. مصطفى اللبّاد

رؤوف نظمي ميخائيل، اسمه الحركي محجوب عمر، وهو «الحكيم»، ليس لأنه درس الطب في الجامعة فقط، وإنما بسبب معارفه الموسوعية، ومعين خبراته الحياتية الذي لا ينضب. يدخل الشاب اليساري الآتي من أعماق صعيد مصر السجن الطويل، وهو في مطلع العشرينات من عمره إبان عهد الزعيم عبد الناصر، فيخرج ولا يصفي الحسابات. في سفره وترحاله، كما في تحليلاته وأفكاره، لم يفقد البوصلة يوماً .. إذ هي دوماً تشير إلى فلسطين. يملك محجوب عمر (رؤوف نظمي) كل مقومات البطل الأسطوري: كاريزما آسرة، تواصل إنساني مع الجميع، إيمان بالقضية إلى حد التضحية بالنفس ورؤية للمستقبل قل نظيرها. لماذا نبحث ـ نحن العرب - عن البطولات من خارج العالم العربي ونحن نملك أمثال محجوب عمر؟ هو «غاندي» و«غيفارا» و«لومومبا» و«مانديلا» في رجل واحد. الزعيم الحقيقي الوحيد الذي قابلته، ولا يطلب زعامة أو يسعى حتى إليها. عاشق الناس والحياة ومصر وفلسطين ولبنان وسائر بلاد العرب. عشقه إلهي يفيض عطاء وخدمة للناس من دون مقابل.

قرر محجوب عمر بعد هزيمة 1967 الالتحاق بصفوف الثورة الفلسطينية، فسافر إلى الجزائر حيث عمل طبيباً في مدينة تلمسان في غرب الجزائر، وفي العام 1968 قدم نفسه للثورة متطوعاً ليبذل جهداً كبيراً لتقريب الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي وفرنسا من حركة «فتح».

التحق بالثورة في جنوب الأردن مفوضاً سياسياً في العام 1969، فاكتسب احترام المقاتلين الذين كانوا يأتمنونه على أسرارهم الخاصة ويحفظ وصاياهم لذويهم في حال استشهادهم. ربطته علاقات وثيقة مع الشهيد أبو علي إياد؛ الذي استشهد في جرش - الأردن أثناء «أيلول الأسود». كان الحكيم هناك في «أيلول الأسود» يعالج جرحى المقاتلين ويشد أزرهم، ويحاورهم في ظل البنادق. ثم انتقل مع المقاومة الفلسطينية إلى لبنان. وبعد عمله في القواعد (جنوب لبنان، شمال لبنان، جبل الشيخ)، شارك في تأسيس مركز التخطيط الفلسطيني. عاد محجوب عمر إلى القاهرة العام 1982 بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، ليؤسس فرعاً لمركز التخطيط الفلسطيني ويواصل العطاء الفكري للقضية بلا حدود. ظل الحكيم مترفعاً عن المغانم لم يرد شيئاً لنفسه، لا مجداً ولا مالاً. لا منصباً ولا جاهاً.

يأخذك، بحنان الأب، من يدك وأنت لم تتجاوز التاسعة من عمرك إلى مخيم «صبرا» في بيروت منتصف السبعينيات، لتنضم إلى «أشبال» الثورة الفلسطينية. هناك ترى رفيقه وصديقه الشهيد جواد أبو الشعر، وهناك تنخرط مع أقرانك في المخيم لتتدرب كي تصبح فدائياً. تحفظ أناشيد الثورة عن ظهر قلب وتتعلم فكفكة الكلاشنات، وفي نهاية التدريب تذهب مع «الأشبال» إلى بحر بيروت. هناك في «صبرا» تذوب الفوارق القطرية.. كلنا عرب وقضيتنا فلسطين. يقول المثل العربي البليغ: «التعليم في الصغر كالنقش على الحجر»، وها أنت يا حكيم تنقش على حجر حياتي نقشاً لا يمَّحي. تسافر أرجاء الكرة الأرضية مستكشفاً عوالم جديدة وتجلس مطمئناً في مطارات الانتظار، لأنك تعرف أنك ستذهب عند عودتك إلى بيت الحكيم في أحد أحياء القاهرة الشعبية. ستقص عليه كل ما صادفت وكل ما جال بخاطرك، ستقص عليه كيف رأيت بلادك من بعيد. يشرق وجهه بإبتسامته الآسرة، بعد أن يعطيك من صلابته وإيمانه ورقته بلا حساب وبلا غرض. تذهب إليه والدنيا قد ضاقت عليك، فتخرج من عنده وقد امتلكتها كلها. وحين اشتد عليه المرض، كان يستمر في التواصل مع الأصدقاء والمحبين بذات الابتسامة الآسرة، ولكن بجمل قصيرة مقتضبة تنفذ إلى الهدف وتفيض بالحكمة الباهرة. حين توفي محيي الدين اللبّاد، صديقه وأبي، أصر على أن يتقبل العزاء معنا وهو على كرسيه المتحرك يكابد أوهان الجسد.

امتلك الحكمة والبصيرة والإيمان ومحبة الإنسان والقضية، كأنه رسول عشق جاء من الأعتاب العلية. والمرتبة الأخيرة لم يبلغها الحكيم إلا بعد أن طوى الأودية السبعة التي رتبها قطب الصوفية الأشهر مولانا فريد الدين العطار: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وأخيراً وادي البقاء. طوى وادي الطلب بسلاسة، فلم يترك سبيلاً يتوسم فيه وسيلة إلى فلسطين إلا وطلبه.

مكث محجوب عمر طويلاً في وادي العشق، فبرع في هذا المقام مستحقاً لقب «سلطان العاشقين». كان عاشقاً لمصر وشعبها ولفلسطين وقضيتها، وعاشقاً تلاميذه وأشباله والأصدقاء. عشق زوجته المناضلة الصابرة منى عبد الله وعشقته، وظلت إلى جانبه لم تفارقه لحظة رغم عوادي الأيام.

في وادي المعرفة كانت له صولات وجولات، فهو موسوعة استراتيجية شاملة، يعرف كلاسيكيات الاستراتيجية الغربية والشرقية مثلما يعرف باطن يديه. شرح لي وأطنب، في نهارات رائعة مجللة بنور الشمس وضوضاء الشارع، كلاسيكيات حرب العصابات الآسيوية عموماً والصينية تحديداً. كان واعياً بأهمية التفكير والتدبر في المسائل الاستراتيجية، محللاً الظواهر المعقدة ودوافعها المركبة. لم يكن الحكيم من أنصار الكليشيهات الجاهزة التي ينزلها على أي موضوع سياسي، فيحللها على أساس الكليشيهات إياها، مستخدماً لغة معقدة أو متعالية. بالعكس قضى وقته وجهده في مركز التخطيط يعلم الشباب مناهج البحث وطرائق التفكير الجديدة، آمن أن مواجهة عدو مدجج بالأسلحة الفتاكة التي تضمن له سيطرة على جواره الجغرافي، غير ممكنة بدون امتلاك الرؤية والبصيرة والتحليل العلمي الاستراتيجي. لكل ذلك لم يكن مستغرباً أن تعمد «إسرائيل» إلى تفجير مركز التخطيط الفلسطيني في بيروت، بما مثله من ركيزة للقرار الوطني الفلسطيني المستقل. تخرج على يدي الحكيم عشرات ومئات الباحثين العرب، من أقطار عربية شتى، وكان لي الشرف والفخر أن اقتربت منه فتعلمت الشيء الكثير. في وادي الاستغناء لم أر زاهداً ومستغنياً مثله، فكان بحق أغنى الأغنياء. عبقرياً في وادي التوحيد، جسد في اسميه تراث هذه الأمة: محجوب عمر ورؤوف نظمي ميخائيل، وفي زواجه النسيج القومي العربي وفي أفكاره وحدة العالم. طوى وادي الحيرة بسرعة البرق، إذ ان إيمانه بالإنسان وبالقضية عصمه من ذلك الوادي.

دخل الحكيم قبل أيام وادي البقاء بصلابة وسلاسة كما عاش. تصلك رسالة هاتفية قصيرة عند الصباح الباكر من زوجته الصابرة والمناضلة: «انتقل إلى رحمة الله فجر اليوم الفدائي رؤوف نظمي - محجوب عمر. البقاء لله». نعشه مغطى بعلم مصر وعلم فلسطين كما يليق، يحيط به تلاميذ وأحباء وعارفو فضله وقدره، في موكب مهيب برئ من الغرض والمجاملة الاجتماعية الزائفة. جاءوا من بلاد العرب: مصر وفلسطين ولبنان، مثلما جاءوا من الاغتراب. سار خلفه شباب وكهول، رجال ونساء، مسيحيون ومسلمون، صبايا وشباب، فقراء ومستورون، جيران وأصدقاء، وكل من لاذ يوماً ببيته. أحمل النعش وأوصيه أن يسلم على محيي الدين اللبّاد. يختفي النعش عند بوابة دار البقاء، يوصد الباب وتوضع عنده باقتي زهور بيضاء.

يا حكيمنا محجوب عمر، ذهبت إلى حيث ذهب رفاقك الشهداء: أبو عمار وأبو جهاد وجواد أبو الشعر وأبو علي إياد، فحسن أولئك رفيقا. تصبحون كلكم على وطن، وإنها لثورة حتى النصر!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2166041

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2166041 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010