الثلاثاء 28 شباط (فبراير) 2012

الثورات العربية بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..! - الحلقة الخامسة

الاجتهاد وتراكم المعرفة في الفكر الاسلامي
الثلاثاء 28 شباط (فبراير) 2012 par عمر ياسين

يقوم الاجتهاد في الفكر الاسلامي على استنباط قاعدة او حكم ، لمعالجة قضية ما لم يتنزل فيها حكم في الكتاب او السنة بنص صريح ، او الاخذ من نص عام جاء مجملاً ، فيؤخذ بالتفريع عنه بعلّة تجمع الأصل الى الفرع ، وعليه يمكن الاخذ بالتفريع قياساً على حكم سبق الأخذ به يتماثل معه في مقاصده واهدافه مع الحالة المستجدة .

ونظراً للأهمية القصوى التي يُمثلها الاجتهاد في الامور العقيدية والفقهية ، واتّباع الناس لها في امورهم العبادية والاجتماعية والمعيشية ، والأخذ بالتحرّز في الأحكام ، شدد المجتهدون على انفسهم وغيرهم في الشروط التي يجب ان تتوفر في المجتهد الذي يتصدى لهذا الامر ، فأوجب بعضهم على المجتهد ان يكون عالماً بالكتاب ، ومقاصد النص ، واسباب نزوله ، ومحيطاً بتتابع ورود معانيه في مجمل النصوص حيث أتى ، والأخذ بالثابت من السنة عن الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) قولاً وفعلاً ، ومواقع تطبيقها وحالاتها باعتبارها الاصل الذي يبنى عليه ويستَدُ اليه الاجتهاد.

وبتراكم الاجتهادات في حالات متنوعة وأزمنة مختلفة ، تتراكم المعرفة الفكرية للأنسان وللأمة ، فيستعين بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة .

فالاجتماع البشري خلال بحثه الدائم عن الافضل ، يستكشف معارف نظرية جديدة ، فيأخذ منها ما ينفعه ، وبتكرار الحاجة المجتمعية ، واجتهاد العقل في استنساب الأفضل من المعارف ، يصبح الفكر في تجديدٍ لا يتوقف ، ذلك ان التطور في الفكر الاجتماعي والسياسي في مسيرة كل امة ، ينتج عن حركة المجتمع ومقدرته على إحداث التغير .

وبمقدار ما يستجيب الفكر المنبثق عن الشريعة لحاجة الأمة ، ويصوغ القواعد والقوانين المتوافقة مع مكتسباتها الفكرية والبناء عليها ، لمواكبة التطورات الحادثة ، بقدر ما يحقق لها تواصلاً دائماً في رقيها وتحضرها ، وتأكيد وجودها وهويتها .

فمرجعية المسلمين في التأسيس للقواعد المنظمة لشؤون مجتمعهم ، وما يتمثل فيها من قيم العدالة الاجتماعية القائمة على العدل والمساواة وحقوق الافراد وحريتهم ،التي جاء بها الكتاب جلية واضحة لا تقبل التأويل.

وفي اتجاه أخر ، ربما ارتبط الاجتهاد في الرأي في استنباط بعض القواعد من رؤية مجتزأة من السياق العام للنص ، والترابط بين مقاصده الشاملة ، والتأثير المتبادل فيما بينها ، واجتماعها معاً في المقصد الكلي ، فيؤدي العمل بالمجتزأ منها وتطبيقها في الواقع ، الى خرقٍ في مجموعة الاهداف المكونة للعنوان الأساس ، وهنا يصبح إبطالها ، ووقف العمل بها ، وإحلال قاعدة اخرى مكانها امراً واجباً .

وهذا ما تنبه اليه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، حين تغيّر حال الامة الاقتصادي والاجتماعي ، من حال واهن المقدرة لبيت مال الامة في العهد الاول ، الى حال من السعة والاقتدار في عهد عمر بن الخطاب ، فاقت مقدرة اهل الرأي من كبار الصحابة على التعاطي معها ، ولم يكن لهم سابقة عهدٍ بهذا الطارئ الاقتصادي ، فاجتهد الخليفة في إحلال قاعدة جديدة ، تُفاضلُ بين الناس بأعطاء البعض منهم حقوقاً من بيت المال ، ميّزتْهم عن غيرهم من افراد الامة ، مكان القاعدة السابقة ظنا منه بالتوسيع على الامة فيما يصلحها .

وتبيّن له بعد تطبيقها في الواقع ، آثارها الضارة على المجتمع وما سيتأسس عليها من تمايزٍ طبقي يطيح بقاعدة المساواة ، فأقر بخطأه ، واعلن العودة الى النظام الاول في قسمة العطاء بالمساواة بين افراد المجتمع .

وقال ((والله لو عشت لمثل هذا اليوم من قابل لألحِقنّ اخرها بأولها ، والسابق باللاحق )) فقد اظهر الاجتهاد في استنباط قاعدةٍ لجزء من النص ، وبناء قاعدة عليه ، دون الاخذ بعموميته ، الخروج بالنص عن مقاصده الشمولية التي ارادها الشرع ، وافسد مقاصده الاخرى .

وقد اظهر التطبيق ترابط قاعدة العطاء بقواعد نظرية اخرى جاء بها النص ، مما ادّى الى إحداث فوارق مادية واجتماعية في المجتمع ، وهيأ النفوس لنيْل رغباتها في التملّك ، ثم في القيادة ، ونَزعَ بها الى الحرص على ما امتلكتْ ، وإيثار مصالحها على مصالح المجتمع كله .

ولم يتمكن الخليفة من اجراء عملية التغير( نظراً لتغيبه بالموت ) فقد استثمرت الطبقات الناشئة عامل الزمن لحماية نفسها من التغير ، والحماية تتطلب القوة والمقدرة كمصدر اساس للحماية ، وهذه لن تتأتى لها إلا بسيطرتها على السلطة ، وبتداخل هذه المراحل واجتماع المنتفعين للعمل عليها ، بدأ الصراع بين الامة وحاكمها ومن وآلاه ، وبدأت الأسس الأخلاقية والاجتماعية والسياسية ، التي قام عليها الحكم في العهدين الاول والثاني تتهاوى واحدة تلو الاخرى امام تعنت السلطة .

من خلال هذه الرؤية انطلقنا في مقالتنا السابقة في تاريخ الدعوة لِنتبَيْن ، من استقرائها اين وقع الاجتهاد في النص ، ومدى ادراك مقاصده ؟ وأين التقت الأمة وأين افترقت ؟ وهل كان الاختلاف في الأصول والاركان ، أم في الفروع ؟ وما مدى التدخل الديني في الدنيوي ؟ والأسس التي قام عليها النظام السياسي والاجتماعي في العهد الاول وما تلاه ، وهو الاقرب الى التنزيل ومعايشة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) - قرباً واحتكاماً - بمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى .

وتوخينا من هذا الاستقراء ، أن نتعرف على ما توصل اليه الخلفاء الاربعة من نصوص اجتهاديه ومعرفية ، عملوا بها فأصابوا، إم توقفوا فيها واختلفوا ، أم أن التأويل أخذ طريقه بعيداً عن شمولية مقصد النص واستجابته لمصلحة الأمة ، فأتخذ مساراً آخر ، أسس بعضه لما حدث من بعد ، سياسياً واجتماعياً ، وسنختار لهذا مثالاً من امثلة اخرى سنتعرض لها في بحث اخر ، لنصل من خلالها واستقرائها وتَتبُعها الى تحديد العوامل التي أسست لنظام بديل
الاول : اجتهاد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالرأي في العطاء ، مخالفاً بهذا الاجتهاد ، ما جرى عليه الحال في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة الاول .

وكان عطاء المسلمين من بيت المال في عهديهما ، يقوم على المساواة المطلقة في التوزيع ، لا فرق بين أحد وآخر، فالرجال والنساء والارقاء كلهم سواء ، وحين طُلب منه البعض أن يميز المهاجرين والسابقين عن غيرهم في العطاء قال (( أجرهم على ذلك عند الله ، وأنما الدنيا بلاغ )) .

ثم جاء العهد الثاني من الخلافة ليتعاطى مع معطيات التطور الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع ، آخذاً باجتهادٍ عقلي ، رأى فيه أن يكون الثواب على قدر الجهد والمنفعة ، وفضّل السابق على اللاحق ، وذوي القربى عن غيرهم من الناس في العطاء .

وقد شكل هذا التمايز بين الافراد بداية لنشوء الطبقات المتميزة مادياً واجتماعياً ، وفي التطبيق ظهر عدم صلاحية هذا الاجتهاد ، لِما أحدث من تغيرات حادتْ عن النظرية الاولى ، التي أسست لقيام المجتمع على أسس غير مسبوقة في العدل والمساواة .

وما ان خلا المشهد لهذه الطبقات الناشئة حديثاً - بموت الخليفة - حتى استثمرت عامل الزمن لحماية نفسها فما كانت لتخاطر بالظهور والتعبير عن رغباتها وطموحها ما دام الخليفة حياً بينها ، فقد احاط الخليفة زعماء هذه الطبقات بقيود لا تُتيح لهم حرية الحركة حتى في اسفارهم وخروجهم من - المدينة – عاصمة الخلافة ، تَحَرّزاً مما قد يُحيق بهم من اختلاطهم بالناس في العواصم التي فتح الله عليهم ، وما بها من بذخ في الحياة وزخرفها .

لهذا سنبدأ البحث في مرحلة بداية الانقلاب السياسي ، لنتعرف على مكونات هذا التغير ومدى تصالح الاجتهاد او تصادمه مع النص ، تلك العوامل التي استطاع البعض من خلالها الاستحواذ على السلطة ، والغطاء الذي استترت به ، والاسباب التي نتج عنها تفريق الامة ، والاسس التي تحصّنت بها كل فرقة مُعلنة انها وحدها هي الفرقة الناجية .

وعليه فقد نستكشف سبل الالتقاء المشترك اوالممكنة منها ، للبناء عليها مع التيارات والمذاهب المختلفة ، لتصحيح المسار ما امكن الاخذ ذلك .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2177797

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع عمر ياسين   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2177797 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40