الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2012

منعطف تاريخي له ما بعده

الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2012 par فيصل جلول

من الصعب المرور على الفيتو المزدوج الروسي الصيني في مجلس الأمن حول سوريا مروراً عادياً . ذلك أنه لم يسبق منذ نهاية الحرب الباردة أن تجرأت دولة دائمة العضوية في المجلس على تحدي الإرادة الأمريكية في ملف دولي مهم، ما خلا فرنسا حليفة واشنطن التي رفضت أن تمنح الرئيس السابق جورج بوش شرعية دولية في احتلال العراق، لكنها عادت ووافقت على إدراج الاحتلال الأمريكي تحت المظلة الأممية، وبالتالي لم تخرج مبادرتها عن إطار التباين في وجهات النظر وتنافس المصالح في إطار الحلف الواحد .

أن تتجرأ دولتان عظميان من خارج الغرب على تحدي الإرادة الغربية في الملف السوري، فلهذا التجرؤ معنى بنظرة عميقة وملائمة . اللافت في هذا الصدد هو الفيتو الصيني أكثر من الروسي لأنه يفصح عن نية بكين خوض المجابهة المفتوحة في الشرق الأوسط انطلاقاً من الملف السوري، وبالتالي الدفاع مباشرة عن المصالح الصينية وليس عبر طرف آخر، ويبدو أن بكين التي رفعت الفيتو عالياً في وقت كانت تستطيع الامتناع عن التصويت ما كانت تخشى رد الفعل الأمريكي والغربي تماماً كموسكو التي ربما أدركت أن اللحظة تاريخية وأن لا خوف من العقاب الأمريكي الأوروبي، باعتبار أن هامش المناورة لدى الغربيين بات ضعيفاً للغاية إلى الحد الذي يتيح الشراكة الفعلية معهم في إدارة شؤون العالم بل منافستهم بقوة في الشرق الأوسط .

الراجح أن البلدين اعتمدا هذا التحدي في ظروف أمريكية وأوروبية شديدة الحرج، فقد تبين للعالم بأسره أن الولايات المتحدة التي احتلت العراق منذ العام 2003 لم تتمكن من فرض كامل أرادتها على الحكّام الذين عينتهم، وقد خرجت من هذا البلد تحت جنح الظلام ضعيفة لا تلوي على تنظيم احتفال تتلقى فيه شكر العراقيين الذين سلمتهم الحكم . وتبين أيضاً أن حرب أفغانستان تمعن في إلحاق الأذى بالحلف الأطلسي الذي لم يتمكّن ليس فقط من السيطرة على هذا البلد الواسع الأرجاء بل لم تتم له السيطرة التامة على كابول، وهو يتحدث عن حل تفاوضي مع حركة طالبان التي فشل الحلف في قهرها . ولا بد من التذكير هنا بأن انهيار الاتحاد السوفييتي قد تم بعد هزيمة الروس في أفغانستان، والراجح أن تكون هزيمة الأطلسي غير المعترف بها بعد سبباً في تراجع أسهم الحلف في موازين القوى الدولية، هذا التراجع المعطوف على أزمة الأسواق العالمية ألحقت أذى كبيراً بالوسائل الاقتصادية للامريكيين وحلفائهم الاوروبيين ولعل انعقاد التراجع العسكري في العراق وافغانستان على التراجع الاقتصادي في أزمة الأسواق التي لم تتم فصولاً بعد تسبب في ظهور لحظة ضعف قياسية في نسبة القوى العالمية، عبرت عنها بكين وموسكو بوضوح عبر الفيتو المزدوج حول الملف السوري .

بيد أن أسباباً أخرى ربما أسهمت في استخدام الفيتو المزدوج من بينها حرص البلدين على الحؤول دون الهيمنة الأمريكية والأوروبية التامة على الشرق الأوسط، وبالتالي الانفراد بشؤون العالم على حدود موسكو وبكين وثانيها التلويح للدول التي ترغب بالتمرد على الإرادة الغربية بأنه صار بوسعها الاعتماد على دولتين عظميين لا تخشيان العقاب الأمريكي، وثالثها الإعلان ضمناً بأن التعددية في القرار الدولي باتت قائمة، وهي في سبيلها لأن تحل محل الأحادية الأمريكية التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة، ورابعها أن الصين وموسكو متضامنتان وأنه ليس من السهل الاستفراد بأي منهما الأمر الذي يعزز الرهان عليهما دون الخوف من العواقب، وخامسها أن الفيتو المزدوج يضيق هامش المناورة الغربي في التدخل في الشؤون الداخلية الصينية والروسية وبالتالي يجعل المعارضين في البلدين يعّدون للمئة قبل الرهان على تدخل غربي في شؤونهما الداخلية عبر نصرة هذا الفريق أو ذاك في مواجهة الدولة المركزية، علماً أن روسيا تخشى من تمرد الأقليات داخل الاتحاد الروسي، والصين تبدي قلقاً متزايداً من التدخل الغربي في ملف التيبت، وربما أيضاً في ملف الأقلية الصينية المسلمة على الحدود مع أفغانستان . وسادسها، أن اللعبة الديمقراطية التي يدعمها الغرب على حدود الاتحاد الروسي التي غالباً ما تنتهي بالانضمام الى الحلف الأطلسي ما عادت ميسرة كما في السابق، وبخاصة في جورجيا وأوكرانيا وآسيا الوسطى، والراجح أن الفيتو المزدوج يبعث برسالة الى الأطراف السياسية في هذه البلدان مفادها أن اليد الروسية باتت طويلة وأن أحداً لا يستطيع حمايتها إذا ما أرادت أن تحصل على مكاسب غربية انطلاقاً من موقعها على الحدود الروسية .

ثمة من ينظر إلى الفيتو الروسي الصيني المزدوج على أنه لحظة عابرة في ظرف عابر، وأن واشنطن وحلفاءها سرعان ما يستعيدون زمام المبادرة بعد الانتخابات الرئاسية في واشنطن وباريس التي من المفترض أن تتم في بحر هذا العام، الأمر الذي يصعب الركون إليه، أقله من هذه الزواية، ذلك أن الانتخابات غالبا ما تكون مناسبة لشتى أنواع المزايدات في الداخل والخارج، خصوصاً عندما يكون المطلوب استعراض القوة والنفوذ وليس حجبها، علماً أن روسيا أيضاً ستشهد انتخابات رئاسية هذا العام، وليس من الصعب على المرء أن يدرك أن الفيتو الروسي قد يكون الناخب الأبرز لمصلحة بوتين في الطريق إلى الكرملين . لا، ليس الفيتو المزدوج لحظة عابرة في العلاقات الدولية بل محطة سيكون لها ما بعدها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2165435

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165435 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010