الجمعة 10 شباط (فبراير) 2012

الفريضة الغائبة

الجمعة 10 شباط (فبراير) 2012 par د. عبد الحليم قنديل

ربما لا تحتاج مصر إلى مجرد حزب يضاف، بل إلى حركة تجمع، تصون ولا تبدد، تعتز بحضارة الأمة ووحدة النسيج الوطني، وتدرك تواصل الأجيال والمدارس في ملاحم الكفاح والنهضة، تنطلق من عروبة مصر، وتستند إلى مطامح الأكثرية الساحقة من الشعب، وتستلهم أشواق الناس للتوحيد والمساواة

والحرية والتقدم، ولا تتوه في دروب وفروع تلهي عن الأهداف الكبرى الجامعة، ولا تدخل في سجال عقيم يفتت تماسك المجتمعات ويذهب بريح الأوطان، ولا تقف على أطلال الماضي، بل تتطلع لاقتحام المستقبل، وتتقدم بخطى واثقة عارفة لكسر أطواق التخلف والخروج من سجن الهزائم، وتستمسك بنور الأمل تشق به ظلام اليأس، وتؤمن بحق مصر وأمتها العربية في النهضة الممكنة بحيوية أجيالها الثورية الجديدة.

لا نحلق في فضاء من خيال حين ندعو إلى حركة تبدو كالفريضة الغائبة، ولا تشدنا قيود الجاذبية الأرضية إلى ركام المذلة والهوان، ونؤمن بالتجديد في غير ما تبديد، نستلهم حكمة التاريخ في انفتاح على لغات العصر، نصون الثوابت ونتفاعل مع المتغيرات، ونسعى لنهضة عظمى نبتعث بها الأمة من رقاد، نهضة بالاستقلال الشامل وتحرير الإرادة الوطنية وفك القيود الأجنبية المفروضة عليها، نهضة بتحرير الناس وتصفية مؤسسة الفساد وانتزاع الديمقراطية للشعب كله، نهضة بالتوحيد القومي وبناء مجتمع الوحدة العربية بصياغات شعبية مبدعة واعية، نهضة بالتنمية المخططة والاقتصاد الكفء المستقل المتكامل عربيا، نهضة بكفاية الانتاج وعدالة توزيع الثروة ونشر مظلة الضمان الاجتماعي وفاء بحقوق أوسع فئات الشعب وأعرض طبقاته، نهضة بكسر الاحتكار في مجالات الذرة والفضاء وبقفزة علمية وتكنولوجية هائلة تجتمع لها كافة الطاقات والقدرات والإمكانيات، نهضة بتجديد الذات الحضارية وحمايتها من جمود الانغلاق ومخاطر الذوبان ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحية والانفتاح الواثق على حقائق العصر وعلومه ومنجزاته وثوراته جميعا، نهضة بعقد اجتماعي جديد يعيد تنظيم البيت الوطني ويجدد دساتيره ومواثيقه، نهضة بعقد قومي جديد يعيد تنظيم البيت العربي، نهضة بعقد حضاري جديد تؤكد به مصر دورها القيادي الطبيعي في وطنها العربي وعالمها الإسلامي المترامي الأطراف، نهضة تؤهل مصر لدور تستطيعه في تغيير العالم وجعله أكثر إنسانية وتوازنا وعدالة بمد الجسور مع شعوب وحضارات الشرق والجنوب في مواجهة طغيان غربي عصف واستبد.

ونؤمن أنه لا نهضة بدون التغيير، ونثق بقدرة الأمة حين تستيقظ عقولها وتنطلق طاقاتها وتتراص صفوفها، فالأمة التي حققت ما كان تقدر على صنع ما يكون، أمة المجد والعزة والكرامة تقدر على صنع الغد الأفضل، ونحن ننتسب لأعظم ما في هذه الأمة، ننتسب لقدرتها الفائقة على التحمل والصبر والكيد للظالمين، ننتسب لعبقريتها الفياضة في دماء شهدائها وعرق كادحيها وعقول ووجدان المؤمنين بأقدارها، ننتسب لحقائق الجغرافيا والتاريخ والمقدرة على التفاعل الكفء مع فوران الدنيا من حولنا، ننتسب لقدرة إنسانها الحر على رفض المذلة والهوان والقهر والفساد والعجز، لقد آن لنا أن نرفع الرأس وأن نحطم القيود، وآن لنا أن نستمسك ﺒ”العروة الوثقى“ التي تشفع كرامة الناس بكرامة الوطن وكرامة الأمة

أول قولنا: أننا نعتز بتراث الأمة، ونؤكد على وحدة الشعب بمسلميه ومسيحييه واتصال نسيجه الاجتماعي التاريخي، ونؤمن بحق المواطنة الكاملة للجميع، ونعد حركتنا امتدادا ناميا لخط التفاعل الخلاق بين الوطنية المصرية والقومية العربية والإسلام الحضاري في انفتاح على تيارات العصر وثورات العلم والتكنولوجيا، وننحاز لأغلبية الشعب من الفقراء والقوى العاملة والمنتجة والأجيال الشابة، ونسعى لإعادة بناء مصر على قواعد الاستقلال والديمقراطية والكفاية والعدل، وتأهيلها لقيادة حركة التوحيد العربي والتضامن الإسلامي، وبناء ”تحالف المستضعفين“ من شعوب وحضارات الشرق والجنوب في مواجهة طغيان الهيمنة الغربية الأمريكية.

وأول سعينا: كتلة تاريخية تضم الأكثرية الساحقة من الشعب، نعبر عن مصالحها المشروعة في النهضة والتقدم والعدالة، ونؤكد على هويتها الجامعة المتسقة، فلا تناقض بين الانتماء للوطن أو العروبة أو الدين، وحب المصري لمصر لا ينفى عنه إيمانه كمسلم أو كمسيحي، والانتماء لمصر لا يجب الانتماء للأمة العربية، والكل شركاء على قدم المساواة في الحضارة العربية الإسلامية، إنها دوائر انتماء متداخلة ومتكاملة، وهي طبقات متراتبة في جيولوجيا التكوين التاريخي للأمة، ومحاولات إثارة الاقتتال وافتعال التصادم بين جوانب الانتماء الواحد محكوم عليها بالفشل، فهي محاولات يائسة لتمزيق ما لا يمزق، وهي محاولات آثمة لهدم حضارة التوحيد ومنجزاتها عبر التاريخ، ففي ظل حضارة التوحيد نشأت وتطورت قيم المساواة، والمساواة لا تعني المماثلة، المساواة تعني أن تتساوى الفرص وتتكافأ كأساس مقبول للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، ونحن مع أغلبية الشعب الحالمة بمجتمع الوحدة والمساواة، نحن مع أغلبية الشعب المهاجر إلى المثال المنشود، نحن مع الكثرة الكادحة المنتجة ضد القلة المسيطرة، وتلك هي الكتلة التاريخية التي نعتصم بشعابها ومصالحها وهويتها الجامعة.

وأول إيماننا: عروبة مصر، والعروبة ليست شعارا نجتلبه أو نبتدعه، العروبة ليست اختيارا ولا اضطرارا، وعروبة مصر هي أم الحقائق في كتاب الجغرافيا والتاريخ، ولا مجال لمنازعة عروبة مصر بالفرعونية ولا بغيرها، فعروبة مصر كامنة في نسيجها واتجاهات حركتها قبل الفتح العربي بآلاف السنين، موضع مصر أتاح لها ان تكون أول دولة في التاريخ، وبيئتها الفيضية الغامرة جعلتها الأسبق إلى القانون والنظام والحضارة، وإمبراطورية مصر الأولى استمرت قرابة الألف عام، ولم تكن مصر بالموقع في عزلة عن محيطها الذي يعرف الآن باسم الوطن العربي، وقبل ميلاد دولة وحضارة مصر كان عصر الجليد، ومع ذوبان الجليد ذابت المنطقة كلها في هجرات وتفاعلات ثقافية مبكرة، كان الاختلاط العرقي قاعدة للتداخل والتقارب، وتوالت تجليات الاحتكاك في اللغة ومعارك البقاء بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية، فظهرت ”عشرة آلاف ” كلمة مشتركة في سياق التفاعل السامي - الحامي، وكانت مصر في عزها الأول تدق على باب عروبتها في إلحاح وثبات، وكانت معاركها الكبرى أشبه بدوريات استطلاع وبحث متصل عن قدر عربي تأخر اكتماله لآلاف السنيين، كانت أعظم معارك مصر في الشرق، حدث ذلك مع ”مجدو” تحتمس و”قادش“ رمسيس، ثم وقعت مصر فريسة لأطول مراحل استعمار في التاريخ، وجاء الفتح العربي يرفع عنها نير احتلال يوناني روماني دام ألف عام، كانت مصر الصابرة تقدم قوافل الشهداء، وكانت تلتف حول عقيدة التوحيد في الكنيسة القبطية الصامدة، كانت مصر ملجأ وملاذا للسيد المسيح وبشارة القديس مرقس كاتب الإنجيل الثاني، ومع الفتح العربي أصبحت هي أيضا الملجأ والملاذ لعقيدة الإسلام الخاتم، وبعد الفتح - في القرن السابع الميلادي حدث أعظم تطور قطعي في حياة مصر الثقافية والروحية، ودخلت عناصر من المراحل السابقة في شخصية مصر العربية المكتملة، أصبح الكل عربا وافدين أو أصليين مسلمين أو مسيحيين، وانعقدت الزعامة لمصر رغم انها لم تكن دارا لخلافة، وتوالت أعظم معارك مصر دفاعا عن ديار العرب والإسلام، في معارك ”حطين“ و”عكا“ وبراري الدلتا هزمت حملات الفرنجة التي تخفت زورا وراء نصرة الصليب، وهزمت حملات المغول في ”عين جالوت“، وانتفضت على عهود العجز والظلام التركي بحركة على بك الكبير لضم الشام أواسط القرن الثامن عشر، وتأكد الدور القيادي لمصر عربيا بحملات محمد على وإبراهيم باشا لفتح السودان وضم الجزيرة والشام وشمال أفريقيا العربي، وكادت الخلافة تعود للعرب بقيادة مصر لولا أن تدخل التحالف الغربي لمنع سقوط الآستانة، كانت حركة مصر عربية بحقائق الجغرافيا والتاريخ، كانت كذلك رغم أن حكامها كانوا من غير المصريين أو من غير العرب، كانت مصر تمصرهم وتعربهم بالسنن والطبائع والطموح، ثم فرضت عليها العزلة بالاستعمار الأوروبي لعقود طويلة مريرة، وحين تحررت مصر عادت إلى دورها العربي بغرائز الأمن وسنن الجغرافيا والتاريخ.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 45 / 2178420

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2178420 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40