الجمعة 3 شباط (فبراير) 2012

الدولة المدنية بعد صعود الإسلام السياسي

الجمعة 3 شباط (فبراير) 2012 par محمد الصياد

كيف ستتعامل القوى الليبرالية والقوى الحداثية المؤسسة للدولة المدنية المعاصرة في العالم العربي في أعقاب الصعود التاريخي لقوى الإسلام السياسي إلى السلطة في عدد من البلدان العربية، وأرجحية تكرار ذات السيناريو في عدد آخر منها هذا العام، مع اقتراب استحقاق النسخة الثانية من ربيع الشباب العربي الغاضب، المتزامنة مع توالي التصدعات في جدران النظم التقليدية الشائخة التي هي نفسها من فرض التغيير بسبب خصامها العنيد مع التجديد والمواكبة؟

لا شك في أن الصدمة كانت شديدة على القوى الحداثية العربية تلك التي أحدثها الصعود الجماعي اللافت والمتزامن لقوى الإسلام السياسي، لا سيما القوى المحسوبة على حركة الإخوان المسلمين، إلى السلطة في ليبيا وتونس والمغرب ومصر، وربما قريباً في اليمن، ولكأن الحبل صار على الجرار وعلق به .

شدة الصدمة ليست ناجمة عن عدم توقع ذلك “الحصاد المر” للحراك الشعبي الواسع النطاق، فلم تكن تمخضمات الحدث العربي الكبير مستغربة على أية حال بقدر ما كانت تندرج ضمن حدود الترجيحات التي تكاد تكون حتمية الوقوع .

الصدمة، على ما نحسب، ناتجة عن فجائية ونطاق التحول من الدولة شبه المدنية إلى “بشائر” واستهلالات الدولة المأخوذة بالنزعة الثيوقراطية .

لأول مرة يشعر الوسط المديني والتحديثي وطلائعه ونخبه المعبرة عن مصالحه وأمزجته وأنماط معيشته وثقافته بالمجمل، بأن كل مكتسبات عصر “الرينيسانس” (النهضة) العربي، أضحت تحت “رحمة” أجندات “التغيير” لدى حركات الإسلام السياسي التي حملتها احتجاجات “الربيع العربي” إلى السلطة .

فإلي أي حد يمكن أخذ مثل هذه الهواجس على محمل الجد؟

إلى حد كبير، هذا مما لاشك فيه . فكما هو معروف، فإن لدى حركات الإسلام السياسي، سواء الإخوان المسلمون الذين أصبحوا بين عشية وضحاها على رأس السلطة في تونس والمغرب وعما قريب في مصر وفي اليمن، أو السلفيون الذين حلوا ثانياً بعد الإخوان في الفوز بعدد مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات التي أجريت جولاتها الثلاث مؤخراً، لديها أجنداتها الخاصة بها، غير تلك البرامج الانتخابية التي سوّقت بها نفسها انتخابياً، وهي أجندات أفصحَ عن شذراتِ بعضِها، بعضُ رموزها في تصريحات متفرقة .

ومع ذلك يتعين على قوى الدولة المدنية في العالم العربي، أن تحترم إرادة الناس الذين اختاروا التصويت لمرشحي هذه الجماعات، فهم الذين سيحكمون على أدائهم ويقررون سحب الثقة منهم إذا ما اكتشفوا الفارق بين وعودهم وأدائهم على الأرض .

وغني عن القول إن قوى الإسلام السياسي توافرت لها الأسباب الكافية لصعودها إلى سدة الحكم في البلدان العربية التي أجريت فيها لأول مرة انتخابات حرة ونزيهة، وهي أسباب على القوى المدنية التمعن فيها وأخذ العبرة منها . من هذه الأسباب ما يلي:

1- إن جزءاً كبيراً ومهماً من الكوادر التنظيمية لقوى الإسلام السياسي هم نشطاء محترفون، فيما كوادر التنظيمات الليبرالية والمدنية عموماً، في معظمهم نشطاء هواة غير متفرغين، وإنما هم يعولون على “سرقة” جزء من الوقت المتبقي لهم بعد عناء ساعات العمل وقضاء الحاجات المنزلية والأسرية الضرورية . وهم لذلك مشدودون إلى أعمالهم ومصالحهم أكثر من انشدادهم إلى واجباتهم النضالية . وهم بهذا معرضون للتذبذب لدن حدوث أي انعطاف مفاجئ في الأحداث، فيميلون في بعض الأحايين، والحال هذه، إلى ترجيح جانب مصالحهم .

2- تتوافر قوى الإسلام السياسي على دعم مالي هائل في الداخل والخارج، على عكس القوى المدنية، وهو ما مكن الأولى من الاستحواذ على أفئدة وعقول البسطاء ب “مكرماتها الخيرية” .

3- لقد عرفت قوى الإسلام السياسي كيف تستثمر الفرصة التاريخية التي أتاحتها لها ثورات الشباب العربي الجسور فقطفت ثمارها وحققت حلمها، مع الاستدراك هاهنا بأن هذا صار ممكناً بفضل مساعدة ومواكبة ترتيبات خاصة إقليمية ودولية ضمن ما يسمى “غراند بلان” المراد بموجبه تغيير المنطقة شكلاً ومضموناً . فالولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الذين لم يتوانوا في إنشاء تنظيم “القاعدة” (باعتراف وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كيلنتون)، ودعم الحركات الأصولية والتعاون مع طالبان عندما كانت في السلطة، التي اشترت سكوت الغرب على جرائمها بموافقتها على الصفقة الأمريكية لنقل إمدادات الغاز من عشق آباد (عاصمة تركمانستان) إلى باكستان عبر الأراضي الأفغانية، ومنها إلى أسواق الاستهلاك الأوروبية (أطراف الصفقة كانوا زلماي خليل زاد الأمريكي من أصل أفغاني الذي صار سفيراً لأمريكا في العراق ثم في الأمم المتحدة، والرئيس الأفغاني الحالي حامد قرضاي، وشركة يونوكال الأمريكية)، لن يعدموا الوسيلة ولا تبريراتها الأخلاقية للتعاقد مع كائن من كان إذا ما توافرت فيه “شروط كفالة” مصالحها .

وإذا كانت قوى الإسلام السياسي قد حصلت على الفرصة التاريخية التي انتظرتها طويلاً واقتنصتها أخيراً على طريقتها الخاصة، فإن هذه الانعطافة الحادة في شكل ومضمون السلطة الحاكمة في العالم العربي، توفر بنفس القدر فرصة تاريخية مواتية لإعادة اصطفاف وقيام تيار ليبرالي ومدني عريض سوف تبلوره في الأمد القريب وتنتظم فيه تدريجياً، الشرائح الاجتماعية الواسعة المرتبطة مصلحياً ومزاجياً بالدولة المدنية .

لا شك في أن التحدي كبير جداً بالنسبة إلى مستقبل ومصير الدولة المدنية والمجتمع المدني، ومؤسسات ونمط حياة، في العالم العربي، وهو ما يتطلب كثيراً من الجدية والاحترافية من جانب القوى الاجتماعية المرتبطة بهذه الدولة، دفاعاً عن منجزاتها وقيمها الحداثية المتكرسة والمتراكمة عبر عقود من العمل الشاق والمضني .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 65 / 2165870

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165870 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010