الأربعاء 4 كانون الثاني (يناير) 2012

العبقرية في الشارع

الأربعاء 4 كانون الثاني (يناير) 2012 par د. نهلة الشهال

في آخر يوم جمعة من 2011، حدث ما كان يليق بهذه السنة التي ستبقى محفورة في التاريخ بوصفها شهدت اقتلاع عدد من أعتى المستبدين، وسجلت استعادة اليقظة والمبادرة والطموح الى التحرر، واستحضرت وجهة ستستمر تصارع لتثبيت نفسها وتحقيق آمالها. يا للتعابير المتفائلة! في سنة 2011، مررنا من استقرار الاستبداد والاضطهاد والفساد، من ذلك البنيان الذي رغم بؤسه الشديد، كان يبدو مكيناً، لا شقوق ظاهرة فيه يمكن الحفر فيها وتوسيعها، الى هذا الصخب الهادر الذي لم يعد أحد يملك إخافته من جديد، ويأبى الانضباط داخل ما يُدعى إليه من قبل «عقلاء» هلعين من انفتاح الواقع على كل الممكنات.

تلك هي العبقرية متجلية في الشارع. لقد تكثَّف الزمن عام 2011 في العالم العربي، وبدا أن كل القهر والاضطهاد والإفقار والإهمال والإذلال المختزن، قد تحول وقوداً محركة تدفع الى تطلب نقائضهم... مهما كان الثمن. ولولا ذلك، فلا شيء يفسر ما جرى، وما يستمر جارياً، ليس فحسب حيث قُطعت اشواط أو خطوات، بل في سوريا على سبيل المثال الصارخ المدهش، وفي البحرين حيث التعتيم اشتراك في الجريمة، وفي أماكن أخرى تتململ بوضوح.

في آخر يوم جمعة من 2011، حدث التالي مما وصل الى أسماعنا. ولا شك ان سواه مثله وقع ولم نعرف به. ولا شك أن هناك من اغتاظ مما حدث. ولا شك أن هناك أمثلة كثيرة مضادة. ولكن هذه لا تلغي تلك، بل هو صراع : في القاهرة، خرجت تظاهرة بعد صلاة ظهر الجمعة من جامع عمر مكرم الى كنيسة الدوبارة. كلاهما يتاخم ميدان التحرير، وكلاهما صرحان دينيان هامان وليسا أماكن عبادة منزوية في حارة صغيرة. دخلت تظاهرة المسلمين الى الكنيسة، يقودها خطيب جامع عمر مكرم، وهو على ما ظهر على شاشات التلفاز شيخ أزهري شاب. كانت جوقة الكنيسة تصدح بتراتيل تلائم مناسبة الميلاد ورأس السنة. اعتلى الشيخ المنبر (منبر الكنيسة!) وقال ما ينبغي له أن يقول. انفجر التصفيق وانطلقت الهتافات وهرع الجميع الى بعضهم يتعانقون. وصرح القس، وهو الآخر شاب كان التأثر يخنق كلماته، أنهم شاركوا في اعتصامات التحرير، وأن مستشفاهم الميداني كان يتعاون طوال الوقت مع مستشفى عمر مكرم، وأطباؤهم يتبادلون الخدمات، وأنهم بالتالي على «معرفة قديمة»! وهكذا علمنا أن واحداً على الأقل من المستشفيات الميدانية السبع التي قامت في التحرير كانت برعاية تلك الكنيسة. والمستشفيات الميدانية تلك واحدة من تجسيدات العبقرية النامية في الشارع، ليس كخدمة ضرورية فحسب، بل لأنها تحفز نشوء شبكة من المساندة الشعبية لها، فيتبرع صيادلة بالمواد، ويتولى أناس لا علاقة لهم بالطب بجمع ما يلزم وبإيصاله. وقد استشهد عدد من الأطباء والطبيبات وعمال التمريض أثناء عدوان الشرطة على المعتصمين والمتظاهرين. ويقال إن بعضهم اغتيل عمداً لردع سواه، تماما كما حدث مع الشيخ عماد عفت. وفي الاسكندرية، جاء آلاف الشباب من المسلمين الى باحة كنيسة القديسين كدروع بشرية لحماية قداس رأس السنة. فكان ذلك هو ردهم على ذكرى تفجيرها المشبوه ليلة رأس السنة الماضية، حيث قُتل عشرات المصلين.

في بغداد، وداخل جامع الإمام أبو حنيفة الهائل الحجم، أكبر جوامع السنة في البلاد، (طالما نحن مضطرون لتعريفات كهذه)، اعتلى المنبر شيخ تحيط به ثلة من رفاقه المعممين، وقال كلاماً لا يحتمل التأويل : فلنحتفل بخروج المحتل الأميركي كما يليق، وليس بالتصارع على إعادة اقتسام قالب الحلوى. هذه أرض الرافدين وهي بلدنا الذي لا نرضى بتفكيكه الى إمارات انكشارية. نحن والشيعة فيه أخوة، نقاتل معاً لتوفير مستقبل زاهر لأبنائه، مستحق وممكن. ثم أعيدت تسمية المقبرة الهائلة الملاصقة لمرقد الإمام والجامع، والممتدة على ضفاف دجلة، حيث ترقد جثامين من قُتل خلال السنوات التسع الفائتة، وبعضهم أو يقال جلهم، ذهب ضحية مذابح وثارات طائفية، فسميت «مقبرة شهداء الاحتلال»، كلفتةٍ تشير الى أن التذابح الطائفي هو من نتائج الاحتلال وليس مكوناً «جينياً» لدى العراقيين، وليس قدراً. وفي بلد بأهمية العراق الموضوعية والمستمرة من ناحية، وتلك الراهنة من ناحية ثانية، وبالنظر الى ما يعتمل في المنطقة من بؤر حرائق تهدد بالاَّ تُبقي ولا تُذر، تغدو هذه المبادرات والظواهر كنزاً ثميناً يستحق ليس فحسب الاحتفاء، بل الإحاطة والحماية برموش الأعين.

وفي اليمن، وبينما كانت طلائع المسيرة الجامعة المنطلقة من تعز في الجنوب تلج «ساحة التغيير» في صنعاء، وجه خطباء الاحتفال، وبعضهم من رجال الدين وبعضهم الآخر من وجهاء قبائل، كلامهم الى «أخوتنا وأخواتنا اليمنيين واليمنيات»! وهكذا فرضت النساء اليمنيات حضورهن، والاعتراف بهن على قدم المساواة كمواطنات ثائرات. وظهر أن توكل كرمان، الصحافية الشابة التي حازت على جائزة نوبل للسلام هذا العام، ليست استثناء، وإنما ممثلة شرعية لحالة مدهشة، حيث حضرت نساء اليمن الى ساحات الاعتصام، كما هن، بالحجاب والنقاب، فنصبن خيامهن هناك وشاركن في كافة التظاهرات، وتكلمن أمام إذاعات وتلفزيونات العالم قاطبة عن آمالهن. ورأينا طبيبات يسعفن الجرحى في المستشفيات الميدانية، ونساء أخريات ينظمن سائر الفعاليات. ولم يقتصر الأمر على العاصمة صنعاء، بل كن حاضرات، مشاركات أو قائدات، في تعز وعدن وفي 35 موقعاً متفرقاً أحصيت في طول البلاد وعرضها، حيثما انفجر الغضب.

وهنا كما في العراق، تخرج أصوات تستسهل تقسيم البلد حسب المصالح والأهواء، وكأن كياناً جنوبياً يحل المشكل (هل نسينا نهاية تجربة جنوب اليمن المريرة؟)، وكأن كيانات سنية او شيعية في العراق تحل المشكل. وهنا كما في مصر، جرت محاولات حثيثة لضبط إيقاع الاعتراض وتوظيفه في قنوات متحكم بها. ولكن الحركة فاضت عن تلك الحدود، ووجهت حين لزم الأمر نقدها اللاذع لأحزاب «اللقاء المشترك» المعارض، وأصرت دوماً على العودة الى الأساسيات، رغم إدراكها لقوة العوامل الدافعة الى الوقوع على تسويات. وكان ذلك من أسباب الانتصار على مكر علي عبد الله صالح، وفي الآن نفسه على مخاطر انجرار اليمن الى اقتتال قبلي يحرف الانتفاضة عن أهدافها ويحولها الى صراع على السلطة بين متشابهين في نهاية المطاف. وما زال الثائرون ينظمون صفوفهم ويتأهبون لمرافقة ما سمي بالمرحلة الانتقالية، وواحدة من محطاتها الحاسمة في21 شباط المقبل. مثلهم مثل المصريين، الذين يريدون فعلاً الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فاليوتوبيا الثورية ليست حلماً فحسب، بل هي تؤمن بقدرتها على التحقق، وتقاتل من أجل ذلك!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2177895

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2177895 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40