الخميس 29 كانون الأول (ديسمبر) 2011

العروبة الجديدة

الخميس 29 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par د. يوسف مكي

القول بتاريخية الفكر، تعني أن الفكر، شأن معظم الأشياء، خاضع لقانون الحركة والتعاقب. إنه سلسلة مترابطة، ومتصلة تختلف حلقاتها في حجومها، وأدائها، وطبيعة استجابتها لما يجري من حولها. والعروبة، كمنظومة من الأفكار السياسية التي ترنو لتحقيق وحدة الأمة العربية، ليست استثناء من هذا القانون.

لا يهدف هذا الحديث لمتابعة تطور فكرة العروبة، والمنعطفات التي مرت بها . فذلك يحتاج إلى الكثير من القراءة والتحليل، بما هو فوق طاقته. وما نتطلع له هو أن نتناول الحاضر، وأن نقف عند ما أصبح متعارفاً عليه بـ «الربيع العربي»، هذا المنعطف من التاريخ، حيث تشهد بلداننا العربية أحداثاً كبرى، غير مسبوقة. تسقط أنظمة سياسية وتنهار كيانات وطنية، وتتسلم السلطة في تونس ومصر وليبيا، قوى سياسية معارضة، كانت حتى الأمس القريب تعيش في المنافي والمعتقلات.

أسئلة عدة نطرحها في هذا السياق، ونسعى في هذا الحديث، وأحاديث أخرى مقبلة للإجابة عنها: أين تقف فكرة العروبة الآن؟ وهل حان طي صفحتها؟ وإذا سلمنا بأنها كفكرة خاضعة، كغيرها من الأفكار، للحركة والتعاقب، فأين نضعها في سياق الأحداث التي تجري؟. وما المهام المطلوبة للنهوض بها؟

هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة، لا يمكن تناولها، من دون وعي الظروف والأحداث والقوانين التي حكمت مسار «العروبة»، كاتجاهات فكرية وكحركة أو حركات سياسية. فقد كانت دائماً رهينة للتوترات التي شهدتها الأمة العربية، في مراحل الانتقال التاريخي.

مرت فكرة العروبة، بمراحل عدة، منذ انطلاقتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتأثرت بما يجرى حولها من تفاعلات وتجاذبات. ولم تقف بعيدة عن التيارات الإنسانية : الفكرية والسياسية الوافدة، بل تلاحقت معها وأخذت منها الكثير. وربما لا نجانب الصواب حين نؤكد أنها أحد التعابير عن تفاعل منطقتنا مع سمة طبعت التاريخ الأوروبي المعاصر، تمثلت في بروز عصر القوميات، ونشوء الأمم الحديثة على مرتكزات قومية. تأثرت فكرة العروبة أيضا، بالثورات الاجتماعية الكبرى، وبشكل خاص الثورتين الانجليزية والفرنسية، وبحركة الإصلاح الديني لمارتن لوثر وكالفن، وأخذت عنهما فكرة الحرية والعدل والمساواة، وسيادة دولة القانون، والفصل بين السلطات.

لكن بروز فكرة العروبة، لم يكن نتاج تفاعلات مع تحولات إنسانية فقط، بل كان أيضا استجابة لواقع موضوعي، تمثل في صيغة رد فعل غاضب على النهج العنصري، الذي مارسه الأتراك بحق العرب، أثناء خضوعهم للسلطنة العثمانية، وخاصة إصلاحات التنظيمات الإدارية عام 1839م، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية، في العام نفسه، والتي كان من نتائجها خلق نزوع شوفيني تركي معادٍ للتقاليد الدينية الإسلامية.

يلاحظ هنا، أن القوميين، ركزوا في البداية على استقلال البلدان العربية من الحكم العثماني، وأكدوا أهمية الوقفة العربية، في مواجهة الذوبان والاضطهاد العنصريين. والتركيز على بعث التراث العربي، من دون وضع برنامج عملي لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ . ولم يصاحب هذا التحرك أية مضامين اجتماعية.

وحتى حين دعت حركة اليقظة العربية، إلى تحقيق الوحدة العربية، كما حدث بمؤتمرها الذي عقد في باريس، لم تخرج شعاراتها عن حيز العموميات، ولم تصل إلى حد صياغة استراتيجية واضحة، وبرنامج عملي لتحقيق أهدافها. لقد رسمت الاستراتيجيات والتكتيكات اعتماداً على حسن نيات الحلفاء البريطانيين. لم يتعد مشروع النهضة الدعوة للرجوع إلى التراث والتاريخ؟

لقد جرى الاعتماد في تحقيق أهداف حركة الانبعاث القومي، بالدرجة الأولى على المتغيرات السياسية الدولية، وعلى الصراعات الدائرة آنذاك بين الدول الأوروبية الفتية، والرجل المريض في الأستانة. ونتيجة لذلك، لم يحمل مشروع التحرر من الهيمنة العثمانية برنامجاً للنهوض الاجتماعي والحضاري . ولم يتضمن أي تصور عن المجابهة المحتملة مع الفرنسيين والبريطانيين بعد إنجاز الهزيمة بالأتراك.

وحين تكشف الغدر البريطاني، واتضحت حقيقة اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور لزعماء النهضة، ترك الحدثان بصمات ثقيلة، ليس فقط على مسار «العروبة»، كحركة سياسية، ولكن أيضاً على طريقة تفكيرها وتفسيرها للواقع العربي. فمقص التجزئة الذي لعب دوراً مأساوياً في تقسيم المشرق العربي، وبشكل خاص في بلاد الشام، أدى إلى أن يكون الموقف العروبي من الدولة الوطنية، موقفاً عدائياً. ومنذ الاحتلال البريطاني - الفرنسي للمشرق العربي، بعد الحرب الكونية الأولى، أصبح العداء العروبي موجهاً للدولة الوطنية، وغدت التجزئة سببا لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي، بما في ذلك النزعات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية ... وأصبحت في القاموس القومي «دولة قطرية». مع أن مقص التجزئة البريطاني لم يشمل، بشكل واضح وجلي سوى المشرق العربي.

بقيت الدولة الوطنية، في مصر والجزائر وتونس، قائمة كما كانت لآلاف السنين، لم يمسها مقص المستعمر. وكان بإمكان العروبيين أن ينطلقوا، في مشروعهم الحضاري من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدلاً من القفز على الواقع الموضوعي. وهم بهذا الطرح قد أعفوا أنفسهم، من معالجة القضايا المحلية، وخلق الجسد الصحيح، الذي هو الشرط اللازم للتفاعل والتكامل والتنسيق بين هذه البلدان، كمقدمة لازمة لقيام وحدة عربية بين أجزاء صحيحة.

وكانت النظرة السلبية للدولة الوطنية، هذه أول معضلة واجهها الفكر العروبي، منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، واستمرت معه حتى يومنا هذا.

في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الأولى، وقعت معظم البلدان العربية، تحت هيمنة الاستعمار الغربي، وكانت أهم خصائصه، عمله على تغيير البنى الاجتماعية للبلد المحتل، لمصلحة دولة المركز. والتعامل مع الشعوب تعاملاً استعلائياً، لا يرى في ثقافة البلدان المحتلة سوى الانحطاط والتأخر والهمجية . وهو فوق ذلك، احتلال غريب ومتغطرس. وهو احتلال ثقافي يعمل المحتل فيه على قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله، ثم لا يصل إليها بعد ذلك سوى النزر اليسير.

أدى هذا الواقع المأساوي إلى أن تصبح العروبة رهينة لهذا الواقع البائس، وأن تتأثر أفكارها وأطروحاتها وبرامجها بحالة الارتباك وفقدان التوازن الذي طبع تلك المرحلة. كيف حدث ذلك وما هي إسقاطات تلك المرحلة على فكرة العروبة، ذلك ما سوف تكون لنا معه وقفة في الحديث المقبل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 103 / 2165546

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165546 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010