الاثنين 26 كانون الأول (ديسمبر) 2011

عن المقاطعة العاجزة المشوهة

الاثنين 26 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par عباد يحيى

تنتشر في شوارع الضفة الغربية لوحات وملصقات لتنظيم سياسي تحت عنوان «بادر بمقاطعة التبوزينا»، و«بدنا نخلّي الاحتلال يخسر». وكما هو معلوم فـ «التبوزينا» تغرق منتجاتها السوق الفلسطينية على الرغم من توفر بدائل محلية وعربية وعالمية وبسعر منافس وبجودة أفضل. الحملة تعكس أول ما تعكس حالة التردي والفشل الذي تبوء به معظم حملات المقاطعة، ولأن مقاطعة البضائع «الإسرائيلية» لم تنجح حتى في الضفة وغزة، تختزل المقاطعة لتقتصر على شركة ما وذلك لتحقيق أي شكل من الإنجاز في الحملات التي لا تخلو من طابع دعائي لتوجهات القائمين عليها وشخوصهم.

وفي ذات السياق تبرز مقاطعة السلطة الفلسطينية وحكومة سلام فيّاض لمنتجات المستوطنات وما اعتراها من مفارقات تصل حد الضحك المرّ على ما وصلت إليه الحال في التعامل مع واحدة من أولويات العمل الوطني في بواكير الانتفاضة، فمثلاً لا تشمل حملة حكومة سلام فيّاض لمقاطعة منتجات المستوطنات شركة الألبان «الإسرائيلية» (تنوفا) لأن مصانعها داخل «إسرائيل»، مع العلم أن جزءاً كبيراً من مزارع أبقار الشركة هي في مستوطنات الضفة!

وتصل المفارقات إلى اعتبار أن ضمّ مستوطنة إلى حدود «إسرائيل» في أي تسوية قادمة سيخرجها من إطار المقاطعة! وأن ختم منتجات المستوطنات بما مفاده أنها أنتجت داخل «إسرائيل» يبيح التعامل معها، دون توفر القدرة العملية على التأكد من مكان الإنتاج والتصنيع. وتصوّر المقاطعة على أنها مجرد مشروع لتكبيد الاحتلال خسائر اقتصادية، وبهذا المعيار يقاس نجاحها وفشلها، في الوقت الذي تكشف فيه دراسات اقتصادية جادة عن حجم الاستثمار الفلسطيني المباشر في «إسرائيل» والمستوطنات والذي يتجاوز المعلن عنه 5813 مليون دولار.

من المبرر والمنطقي التساؤل عن جدوى حملات المقاطعة الاقتصادية والثقافية في ظل اعتماد «إسرائيل» لسياسة تصنيف للفلسطينيين قبلها كثير منهم في الضفة، وتقوم على منح ما تسمى «البطاقة الممغنطة» لمن يشهد لهم سجلهم الأمني لدى الاحتلال بـ «السلوك الحسن»، فيتمكن هؤلاء من تجاوز مئات المركبات الفلسطينية على الحواجز المنتشرة في الضفة، ويعبرون نقاط التفتيش ببطاقاتهم تلك دون اكتراث بحال «أبناء شعبهم»، وتسعى أعداد مهولة من الفلسطينيين للحصول على هذه البطاقة بما توفره من «تسهيلات»، ويغدو تجديدها اختباراً يستدعي كل براهين حسن السيرة والسلوك، ويستخدم جهاز المخابرات «الإسرائيلي» هذه البطاقات وما توفره من إمكانية العمل في «إسرائيل» أو التنقل بسهولة في الضفة لابتزاز الفلسطينيين للتخابر والسقوط في العمالة لقاء منح البطاقة أو تجديدها.

وفي ذات السياق يتهافت آلاف الفلسطينيين من شتى مناطق الضفة مع تركزهم في رام الله وبيت لحم للحصول على تصاريح أمنية صادرة عن أذرع جيش الاحتلال تسمح لهم بالدخول إلى «إسرائيل» والقدس، وتحديداً في فترات الأعياد، فيمضي غالبية هؤلاء إجازة الأعياد على شاطئ البحر المتوسط بموافقة الاحتلال ويسكبون الأموال في عجلة الاقتصاد «الإسرائيلي»، ولا يتورع الكثير منهم في طلب التصريح لتعويض عقدة النقص تجاه «المولات» المنتشرة في «إسرائيل» والغائبة عن الضفة ومدنها، وبالضرورة لن ينال التصريح إلا ذوو «السلوك الحسن والسيرة النظيفة»، ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية بعدد التصاريح الممنوحة في فترات الأعياد إلا أن معلومات تشير إلى تجاوزها الخمسة آلاف في منطقة رام الله وحدها خلال الأيام القليلة الماضية.

وقريباً من الترفيه وقضاء الإجازات والعطلات يفتتح البحر الميت أمام المتنزهين الفلسطينيين بعد سنوات من المنع والإغلاق؛ ليجدوا «حقهم في المشاطأة، كما تسميه وزيرة السياحة خلود دعيبس» يتطلب أن يدفعوا «دخولية» «للإسرائيليين» حتى يصلوا الشاطئ، ويتنزهون جنباً إلى جنب مع المستوطنين ويهود الدولة العبرية. ومنذ أشهر غدا الأمر طبيعياً وتنظم الرحلات إلى البحر الميت وتختفي كل مفردات المقاطعة ويحل محلّها التجاور والتشارك والمشاطأة.

ناهيك عما تقدمه سياسة البطاقة الممغنطة والتصاريح الأمنية من تصنيف للفلسطينيين يمكّن الاحتلال من ممارسة عدوان محدد مركز على الفئة الباقية «غير المرضي عنها إسرائيلياً» وتسهيل عزلها والاستفراد بها؛ فإن هذه السياسات والتوسع الكبير في تطبيقها يفتت أي مشروع للمقاطعة بل ويحيله رماداً، فالاحتلال بجنوده وعتاده وصواريخه يتحوّل إلى مضيفة لطيفة في فندق في حيفا، أو بائع وسيم بشوش في متجر ملابس في أحد مولات القدس، أو مستجمة على رمال شاطئ «هرتسيليا» تراود أحد المشاطئين الفلسطينيين عن نفسه، وقد تدعوه لمقارعة كأس، وسيألف الفلسطيني أو الفلسطينية مع الوقت تجاذب أطراف الحديث مع الصهاينة، ويكتشف فجأة جانباً إنسانياً فيهم ويتخلخل وعيه الجمعي بضغط متواصل من «تجربته الخاصة».

وفي فلسطين المحتلة سنة 1948 تبرز الاستثناءات، وتشكل عقدة تظهر على أنها عصية على الحل، ورغم محاولات الوصول إلى صيغة تتعامل مع الوضع الشائك للفلسطينيين داخل «إسرائيل» إلا أن موقفاً واضحاً حازماً أو هيئة متفقاً عليها لم يتم التوصل إليها لفض الأمر والفصل في تفاصيل المقاطعة الثقافية والأكاديمية، ومن ثغرة تباين الرؤى والتصورات تؤتى المقاطعة وتترنّح، ومن ثغرة غياب البديل الغذائي أو المنتج المكافئ والمنافس تسقط المقاطعة الاقتصادية في الضفة وغزة، وتتكاثر الثغرات والاستثناءات حتى تفقد المقاطعة قيمتها ويعود الفلسطينيون للتساؤل عما كانت بديهات وطنية في الماضي، فيتساءلون عن : ما هي المقاطعة؟ وما هو التطبيع؟

يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية في فتور حملات مقاطعة «إسرائيل» أو فشلها؛ هو استحضار جملة من الاستثناءات عند انطلاق كل موجة مقاطعة اقتصادية أو ثقافية أو أكاديمية، هذا ما جعل المقاطعة تفقد شيئاً فشيئاً نواتها الصلبة القائمة على رفض كل أشكال التواصل والتعامل مع الاحتلال ضمن أي منطق أو سياق ينفي عنه طابعه الاستعماري، ويخرج بعلاقة الفلسطيني مع «الإسرائيلي عن كونها علاقة مستعمَر مع مستعمِره بكل ثقل الظلم والقهر والاضطهاد المشتملة عليه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2178522

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2178522 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40