الخميس 15 كانون الأول (ديسمبر) 2011

سوريا في عين العاصفة.. من يوقد الحرائق (1)

الخميس 15 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par غالب ابو مصلح

يمر النظام العالمي، بقيادته الأميركية، في أزمة شاملة، تنذر بسقوطه، أو بإحداث تغييرات جذرية في بنيته وتوجهاته. فقد عصفت أزمة الركود الكبير سنة 1929 بعصبة الأمم المتحدة والفكر المركنتيلي السائد، والمعبر عن مصالح الإمبراطوريات الاستعمارية التي بلغت أوج تمددها سنة 1920. وأسقطت هذه الأزمة والحرب العالمية الثانية التي تخللتها، عهد الاستعمار وفتحت عهد الامبريالية الأميركية، وريثة عهود الاستعمار. كما أنتجت أزمة النظام الرأسمالي في أواسط الستينيات سقوط «الكينزية» كفكر وتوجه اقتصادي وأخلاقي، لمصلحة الليبرالية الجديدة، مع وصول المحافظين الجدد الى السلطة في مراكز النظام. ومثلت الليبرالية الجديدة ثورة أصحاب رؤوس الأموال على القوى العاملة، ونجحت في إعادة اقتسام الناتج لمصلحة رؤوس الأموال وعلى حساب الرواتب والأجور.

وأتت أزمة النظام الرأسمالي الراهنة، في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة، لتعلن نهاية سيطرة الليبرالية الجديدة، التي تقدس حرية الأسواق وعقلانيتها وعدالتها وأخلاقياتها الدارونية، وتدعو الى إسقاط دور الدولة في الاقتصاد، كما الجيلان الثاني والثالث من شرعة حقوق الإنسان.

تواكب أزمة النظام الراهنة انزياحا متسارعا للثروة العالمية من الغرب الأوروبي الأميركي الى الدول الناشئة، وعودة التوازنات الاقتصادية العالمية بالتالي الى ما كانت عليه قبل سنة 1800، إذ كان الإنتاج الآسيوي يساوي أضعاف الإنتاج الأوروبي. وتحدد القدرات الاقتصادية في النهاية القدرات العسكرية والسياسية، وطبيعة النظام العالمي والقوى المهيمنة فيه، وتعمم ثقافتها وقيمها على العالم كقوة سائدة.

ويعيش عالمنا اليوم في مرحلة مخاض وآلام ولادة نظام عالمي جديد ذو سمات غير أوروبية وأميركية. وعسى ان يولد هذا النظام دون حرب عالمية، او سلسلة حروب مترابطة، نتيجة العدوانية الأميركية في مرحلة انكماشها. فتاريخ هيمنة الحضارة الأوروبية لاكتشاف العالم واستباحته، حتى يومنا الحاضر تمثل أقسى درجات العنف والجرائم ضد حقوق الشعوب. وكما قال شاعر الهند الأكبر طاغور : «من الواضح ان شعلة الحضارة الأوروبية لم تكن لتنير الأقاليم الواقعة وراء حدود أوروبا، بل لتوقد فيها الحرائق».

وتزداد أميركا توترا في مرحلة تراجعها النسبي على كل الصعد، ونتيجة هزائمها في أكثر من مكان، وتتصرف كالنمر الجريح، وتـبالغ في استعمال قدراتها العسكرية بأكثر من طاقتها، لعلها تستطيع إيقاف تراجعها الاقتصادي النسبي. فتفرض بضائعها المسمومة على الدول التابعة والصديقة، وتفرض على هذه الدول رؤيتها الاقتصادية التي تتناسب ومصالحها، وأسعار صرف عملتها، وتجبرها في بعض الأحيان على فتح أسواقها أمام تدفق رؤوس الأموال الساخنة، لقنص ثرواتها، كما فعلت في دول جنوب وشرق آسيا في النصف الثاني من التسعينيات.

واندفعت أميركا لتوسيع حلف شمالي الأطلسي شرقا، مطيحة بحلم «بناء البيت الأوروبي الواحد» الذي حلم به غورباشيف. وهذا الحلم مغاير لتاريخ أوروبا وانقساماتها المذهبية والثقافية. ودفع حلف الأطلسي شرقا يعني استمرار التناقض مع روسيا الاتحادية لأسباب غير عقائدية، والعمل على محاصرتها. وعملت أميركا على احتواء الصين ومطاردتها في القارات. وتعمل على توسيع سيطرتها على مكامن النفط وطرق إمداده، من بحر قزوين الى «الشرق الأوسط» الى القرن الإفريقي ودول الساحل والصحراء. وعملت على إعادة صياغة العقيدة العسكرية لحلف شمالي الأطلسي، من حلف للدفاع عن أوروبا الى حلف «للدفاع» عن مصالح أوروبا وأميركا في العالم.

وأميركا المأزومة على أكثر من صعيد تقاتل بكل الوسائل والأدوات المتاحة للإبقاء على النظام الدولي الراهن الذي صنعته ،وعلى هيمنتها على هذا النظام. فرفض استبدال الدولار، كعملة عالمية، بعملة رمزية تمثل سلة من العملات، أي حقوق السحب الخاصة (SDRs) فهي تبتز دول العالم بالدولار كعملة عالمية. وتتخوف أميركا كثيرا من مزاحمة اليورو للدولار، وكذلك من توسيع دور اليوان الصيني، الممثل لاقتصاد نابض قوي وسليم، كعملة عالمية في القريب العاجل. وتمارس اميركا ضغوطا على الصين لرفع سعر صرف «اليوان» للتعويض عن تدني قدراتها التنافسية. كما تعمل على السيطرة على الممرات البحرية الأساسية لتهديد الصين، وفي المحيط الهندي بشكل عام. فعبر هذا المحيط تمرّ نصف تجارة الحاويات في العالم. وتمر عبر مضيق ملقة 40% من التجارية العالمية. ويصر أوباما، بالرغم من عمله على تخفيض موازنة البنتاغون، على تعزيز التواجد العسكري الأميركي في استراليا، والانتشار في بحر الصين الجنوبي، لمحاصرة الصين. كما يعمل أوباما على نشر شبكة صاروخية مضادة للصورايخ في بولندا وتركيا، وفي البحور المحيطة بالاتحاد الروسي، عبر نشر منظومات صاروخية محمولة على سفن حربية في بحور الأبيض المتوسط ،والأسود، وبارنتس والشمال والبلطيق.

شكلت هزيمة حزيران نقطة تحول في مسيرة حركة التحرر العربية الصاعدة، ولم تستطع حرب تشرين رغم انجازاتها ان توقف تراجعها وان تجبه الهجمة الأميركية الصهيونية. فبعد حرب تشرين عقدت المملكة «السعودية» اتفاقاً مع أميركا التزمت بموجبه الأخيرة حماية حكم العائلة السعودية، مقابل التزام العائلة بعدم اللجوء لسلاح النفط في المستقبل، مع إنشاء لجنة سعودية أميركية للإشراف على إنفاق عائدات النفط. وتمّ إسقاط النظام العربي بخروج مصر منه، وتوقيعها اتفاقات كامب دافيد، ولحاق الأردن بها مع توقيع اتفاق وادي عربة. وكان اجتياح «إسرائيل» للبنان لإلحاقه بـ «إسرائيل»، وبإشراف أميركي أطلسي، وتم اجتياح الصومال ثم حرب الخليج الأولى وحصار العراق، وإنهاكه قبل اجتياحه وتدميره. وانتشرت القواعد الأميركية في إمارات الخليج من البحرين الى الكويت، ونمت العلاقات المتعددة الأوجه السرية والعلنية لهذه الكيانات مع «إسرائيل». وتم تقسيم السودان وخلق كيان سياسي في جنوبه حليفاً لـ «إسرائيل» وبإمرة أميركية. وتمت محاصرة إيران بغية إسقاط نظامها وحصار سورية وشن حرب على لبنان لإسقاط مقاومته، وحرب متكررة على غزة. كل ذلك يدل على ان الهجمة الامبريالية الأميركية الصهيونية لم تتوقف يوما على المشرق العربي بشكل خاص، وعلى «الشرق الأوسط» الكبير، أي العالم الإسلامي. توقفت الهجمة العسكرية الأميركية على سورية بسبب تعثرها في العراق وأفغانستان، وعدم قدرة هذه القوة على توسيع ساحة صراعها، لكن الاندفاعة الامبريالية الأمريكية ما زالت مستمرة ولو بوسائل أخرى، او على الأصح بكافة الوسائل الأخرى، بالرغم من مأزقها التاريخي الشامل ومأزق حلفائها وإتباعها المحليين، فأميركا، حسب قول كولن باول، عاجزة عن القيام بأي عملية تتعدى عملية إغاثة من كارثة طبيعية، وذلك قبل انفجار الأزمة البنيوية في آواخر سنة 2007. أما الآن فالوضع مختلف .

عند بداية سنة 2011 (في 15/1/2011) اقترح وزير الدفاع الأميركي تقليص موازنة البنتاغون بمبلغ ماية مليار دولار على مدى خمس سنوات، نتيجة «الوضع الميؤوس منه لموازنة البلاد، وما تمثله من خطر على مصداقية أميركا ونفوذها في العالم»، مما اثار حفيظة رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، إذ رأى ان هذه الاقتطاعات مبالغ فيها. أما في 15/11/2011 فاعترض وزير الدفاع الجديد «ليون بانيتا» على مخاطر اقتطاع تريليون دولار من موازنة البنتاغون على مدى عشر سنوات قائلا : «بعد عشر سنوات من مثل هذا التوفير، سنمتلك اصغر قوة برية منذ سنة 1940،واقل عدد من السفن منذ سنة 1915 (اقل من 230 سفينة، في مقابل 284 سفينة حاليا، وأكثر من 700 سفينة في 1945)، واصغر سلاح جو في التاريخ». ويمكن ان تتخلى أميركا عن مشاريع تسلحيه عديدة منها على سبيل المثال: المقاتلة F35، والدرع الصاروخي الأوروبي، وان تقلص أسطول الغواصات النووية من 14 الى 10.

لكن على اميركا ان تقلص موازنة البنتاغون بأكثر من تريليوني دولار خلال عشر سنوات لمحاولة وقف تدهور مقومات اقتصادها. فالعجز السنوي في الموازنة بلغ حولي 1,5 تريلون دولار ومعدل البطالة الحقيقي بلغ أكثر من 22,7%، وبناها التحتية منهارة، وقدراتها التنافسية متدنية ونطاق الفقر يتوسع، ويبشر كل ذلك ربما بحروب أهلية وتشظي الاتحاد الأميركي.

أما أوضاع شركائها الأوروبيين في حلف الأطلسي فليست أفضل. يقول «روجير أوين» ان تخفيض الموازنة العسكرية البريطانية لا يقتصر على وضع حد «لمهمات بريطانيا العسكرية في الخارج، بل يجعل بريطانيا عاجزة تماما عن الدفاع عن نفسها في حال اي اعتــداء خارجي. وهي ملتزمة الآن على ان تشترك في هذه المهمة مع جارتها فرنسا.» وكانت بريطانيا قد عقدت معاهدة لتعميق التعاون العسكري مع فرنسا في تشرين الثاني 2010. وستجري المشاركة في حاملات الطائرات، وتشكيل قوة تدخل عسكري مشترك، قوامها عشرة آلاف جندي ( The Economist Nov 6/2010).

فالأحلام الإمبراطورية ما زالت تدغدغ مخيلات الدولتين في أرذل أيامهما. وحال فرنسا أسوأ من حال بريطانيا، وهي مهددة باللحاق بايطاليا في إطار أزمة الديون الأوروبية، ووضع مصارفها خطير جدا، بسبب تورطها الكثيف في إقراض الدول الأوروبية المهددة بالإفلاس.

إن القوى الامبريالية وعلى رأسها أميركا، المأزومة على أكثر من صعيد، قادرة على النباح وعاجزة عن العض، ليس بسبب أزمتها الداخلية فقط، بل بسبب نمو القدرات الاقتصادية والعسكرية لعدد كبير من الدول الناشئة ومنها إيران في المنطقة بجانب الاتحاد الروسي، ونمو قدرات المقاومة العربية، التي أثبتت فاعليتها واستعصاء هزيمتها من قبل أميركا و«إسرائيل».

[**للبحث صلة....*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2178566

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2178566 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40