الأحد 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

«احتلوا وول ستريت»

الأحد 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par د. محمد السعيد ادريس

يبدو أن قيماً سياسية جديدة تتجه لأن تفرض نفسها على مجمل منظومة القيم السياسية الحاكمة لأداء النظم السياسية في العالم. من أبرز هذه القيم تلك المراجعات التي تحدث الآن في الفكر الغربي الديمقراطي، وبالذات ما يتعلق بالتوافق السائد حول مبدأ ما يسمى بـ «التمثيل السياسي» أو «الإنابة السياسية» الذي يعتمد الانتخابات وسيلة أساسية، فالشعوب لم تعد تثق بهذا كله، لا في التمثيل السياسي ولا في الإنابة السياسية ولا في الانتخابات، بعد أن أدركت أن من يتم اختيارهم كممثلين لهم ولمصالحهم في البرلمانات ليسوا أمناء على ما يتعهدون بالدفاع عنه من مصالح تخص جمهرة الناخبين، بل إنهم سرعان من ينقلبون على هذه المصالح ولا يعملون إلا من أجل مصالحهم الخاصة وحرصهم على خلق السلطة، وأن يكونوا أدواتها بدلاً من كونهم ممثلين لمن قاموا بانتخابهم.

كما أن الشعوب لم تعد تثق بالانتخابات كوسيلة مثلى لاختيار من هم الأفضل والأكفأ والأكثر أمانة وصدقية في أن يكونوا ممثلين عنهم في ممارسة السلطة جنباً إلى جنب مع السلطة التنفيذية، بعد أن تأكدت الشعوب أن الانتخابات عادة ما تأتي بمن يملكون المال والدعاية والوجاهة من دون التزام شروط الإنابة، فضلاً عن أن هؤلاء ينسون أو يتناسون دائماً أنهم في مواقعهم داخل البرلمان نواب عن الشعوب، وأن دورهم في التشريع يجب أن ينطلق من مصالح الناخبين وليس مجاملة الحكام، وأن دورهم في الرقابة والمحاسبة للسلطة التنفيذية هو من أجل ترشيد القرار الوطني وجعل الحكم باسم الشعب ومن أجل الشعب.

ومع تداعي هذه الأمور تداعت أيضاً قيمة الأحزاب السياسية أمام الوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي، وبدت الشعوب أكثر حرصاً على أن تمارس حقها في المشاركة مباشرة ومن دون إنابة أو من دون اختيار ممثلين، وبدأ التوجه نحو الديمقراطية المباشرة يفرض نفسه خطوة خطوة بدلاً من الديمقراطية التمثيلية أو ديمقراطية الإنابة، أو الديمقراطية بالإنابة، وكانت الحركات الاحتجاجية هي الرائدة لهذا التوجه، ومنها وجدت الشعوب نفسها تنزل إلى الشوارع لتعبر عن نفسها من دون إنابة ومن دون تمثيل، لكن المشكلة أن الثقافة السياسية السائدة والمؤسسات الإعلامية والثقافية مازالت عاجزة عن فهم خصوصية وآليات إدارة هذه العملية السياسية، ومازالت حريصة على التحليل بالأدوات التقليدية ذاتها، على نحو توجيه انتقادات للحركات الاحتجاجية والثورات الشعبية على أنها تفتقد القيادة أو أنها ليست لها زعامات واضحة، متجاهلة أن هذا كله من أهم خصائصها ومميزاتها، وإن كانت هذه الخصائص لها مشكلاتها وسلبياتها التي لم تجد حلولاً حتى الآن.

وإذا كان الغرب يتباهى بأنه مبتدع الفكر الديمقراطي بأشكاله التقليدية المذكورة؛ فإن الشعب العربي استطاع أن تكون له المبادرة والمبادأة في قيادة التغيير الجديد في الفكر الديمقراطي والحركة السياسية الديمقراطية، عندما استطاعت حركات الاحتجاج الشعبية أن تفرض نفسها كمتغير سياسي جديد، ابتداء من حركة «كفاية» التي انطلقت عام 2004 من مصر، وبعدها امتدت الحركة بمدلولاتها إلى آفاق عربية وعالمية واسعة، إلى أن جاء ربيع الثورات العربية ليفرض نفسه، ويفرضه «الشارع السياسي» كمتغير جديد في إدارة العملية السياسية.

وإذا كانت بعض الدول قد حرصت على تأكيد «استثنائيتها» من هذا التطور إلا أن الواقع شيء آخر، وما يحدث الآن في الولايات المتحدة أكبر دليل على ذلك، فقد تفجرت حركة احتجاجية هائلة تطالب بالتغيير معتمدة على معاناة المحرومين والمظلومين من جبروت النظام السياسي والاقتصادي الحاكم الذي فرض حزبين كبيرين هما: الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي على الشعب الأمريكي من خلال أدوات المال والإعلام الجهنمية التي جعلت أعداداً محدودة من كبار الأثرياء أو من يمثلونهم يسيطرون على الحكم من دون مشاركة شعبية حقيقية أو احترام لمصالح القطاع الأوسع العريض من الشعب الأمريكي الذي يعاني الفقر والتهميش، في حين يسيطر 1% فقط من الأمريكيين على الثروة والسلطة معاً.

إن حركة «احتلوا وول ستريت» التي بدأت نشاطها الفعلي يوم 17 سبتمبر/ أيلول الفائت بأعداد وفعاليات متواضعة، بدأت تتحول إلى ظاهرة سياسية اجتماعية بانتشارها في أكثر من مئة وخمسين مدينة أمريكية وبانضمام قطاعات شعبية واسعة خاصة من طلاب الجامعات ونقابات العمال والمثقفين، يؤكد أن المجتمع الأمريكي في طريقه إلى أن يشهد بعض رياح ثورات الربيع العربي بعد أن ظل يعاني لسنوات من ضغوط الكساد الاقتصادي وسوء إدارة الاقتصاد الوطني وانعكاساته السلبية الشديدة على الطبقة الوسطى والفقراء، بينما أخذ بأيادي الطبقة الغنية إلى مزيد من الانتعاش والازدهار.

قبل أن تنطلق حركة «احتلوا وول ستريت»، حاول الرئيس الأمريكي جاهداً إيجاد حلول لمشكلات البطالة، وحاول رفع سقف الدين العام، لكن أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري أفشلوا كل محاولاته لأنهم يتعمدون إسقاطه في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2013، وحتى بعد اندلاع حركة «احتلوا وول ستريت» لم يكترث الجمهوريون لما يمكن أن يحدث جراء تنامي هذا التيار السياسي الرافض للمظالم الاجتماعية والمطالب بالعدالة الاقتصادية، وأصروا على رفض خطة الرئيس باراك أوباما لخلق الوظائف ومعالجة البطالة، حيث لم يتمكن مشروع قانون الوظائف من تخطي عتبة الستين صوتاً اللازمة للمضي في بحثه بمجلس الشيوخ وبقي عند حدود الـ 49 صوتاً.

أوباما الذي يسعى الآن إلى اقتراح مشروع قرار بفرض ضريبة جديدة على أثرياء الولايات المتحدة بنسبة 5% لتمويل خطة التوظيف التي يريدها لمعالجة البطالة المتفشية بين الشباب على وجه الخصوص، لم يجد بديلاً أمامه غير الانحياز لمطالب المتظاهرين من حركة «احتلوا وول ستريت»، الأمر الذي زاد من غضب الجمهوريين على هذه الحركة، وحاولوا النيل منها وانتقادها باعتبارها «لا تحمل رسالة وليست لديها سياسات محددة واضحة»، وحفزوا الإعلام الأمريكي الموالي إلى فرض تعتيم على أنشطة وتطورات تلك الحركة وتشويه مطالبها، لكن الأهم هو ما جاء على لسان خبير الاستراتيجيات بالحزب الجمهوري ديفيد جونسون بأن «هناك يداً كبيرة مرشدة لتلك الحركات، وأن القيادة في هذه الحالة تمسك بزمام الأمور من وراء ستار، وهي مقربة من الحزب الديمقراطي والتنظيمات الديمقراطية الأخرى».

ربما جاء هذا الاتهام رداً على تعليق للرئيس أوباما حول نجاحات الحركة واعتباره أنها «تعبر عن إحباط الشعب الأمريكي من كيفية عمل النظام المالي».

الأمريكيون مشغولون الآن بالحركة التي يتعاظم انتشارها في كافة أنحاء الولايات الأمريكية ويزداد أعداد المنخرطين فيها في مواجهة ما يعتبرونه أساس أزمة أمريكا الاقتصادية والاجتماعية، وهو «الخلل في توزيع الثروة في الولايات المتحدة وهيمنة الشركات الكبرى والأغنياء على الاقتصاد وارتفاع البطالة».

والسؤال الذي يشغل الجميع هو، إلى متى ستستمر الحركة؟ وهل يمكن أن تتحول إلى ظاهرة سياسية تكون قادرة على تخليق ثورة شعبية اجتماعية في الولايات المتحدة تعيد فرض نظام سياسي واقتصادي بديل أكثر كفاءة وعدالة؟

المنتسبون للحركة يؤكدون الاستمرارية، ويراهنون على أن الشعب الأمريكي سيثور حتماً ضد سيطرة 1% من الأمريكيين الذين يسيطرون على الثروة، وهم أنفسهم من يسيطرون على إدارة العملية السياسية والقرار السياسي في الولايات المتحدة.

هل يمكن أن تقود المطالب والمظالم الاقتصادية حركة شعبية تطالب بالتغيير السياسي، وتفرض الجماهير رقماً صعباً في إدارة السياسة والحكم بدلاً من مظالم الديمقراطية التقليدية الفاشلة، ذلك هو التحدي الذي يواجه حركة «احتلوا وول ستريت» الآن.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2176495

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2176495 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40