السبت 17 أيلول (سبتمبر) 2011

الطغاة وداء الصمم التاريخي وعماء القوة

السبت 17 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. احمد برقاوي

ما ان يستولي الطغاة على السلطة حتى يصابوا بداء عضال لا براء منه على الإطلاق ألا وهو داء الصمم التاريخي.

وداء الصمم التاريخي هذا، فيروس قاتل يشل حاسة سمع الأصوات التي لا ترضي الطاغية. وتقوي حاسة سمعه للأكاذيب والمدائح. وكلما قويت حاسة سمعه للأباطيل تفاقم مرض فقدان حاسة السمع للواقع وللحقائق.

ولمن لا يعلم، فإن التاريخ وفيٌّ لذاته، فلا يطيق توقفاً طويلاً أو قصيراً، وإذا ما اعترضه عارض سرعان ما يدق ناقوسه الدائم معلناً، أن أوان جريانه قد حان، وانه على وشك أن يجرف من أمامه كل ما يعيق مساره.

ولم يحصل أبداً في التاريخ أن سمع الطاغية ناقوس التاريخ حتى لو كان ضربه ضجيجاً. ينمو التاريخ خفية، ويظن الطاغية أن السكون هو الحال. ويترافق داء الصمم التاريخي مع عماء القوة. وعماء القوة أشبه بعماء الألوان، حيث العين لم تعد ترى إلا لوناً واحداً، وما عادت تميز بين الألوان وبخاصة اللون الأحمر. وجميع حكام العرب مصابون بداء الصمم التاريخي الناتج عن عماء القوة، عماء القوة المؤسس لاحتكار القوة، واحتكار القوة المؤسس للديكتاتوريات بكل أنواعها الملكية والجمهورية.

وبالمناسبة فإن «إسرائيل» هي الدولة التي استفحل فيها داء الصمم التاريخي وبالتالي فهي إلا زوال لامحال، فالتاريخ بالنسبة إليها هو تاريخ عام 1948 وما قبله فقط.

منذ بداية السبعينيات - وهو تاريخ بدء ثبات السلط العربية دون انقلابات وحركات معارضة فاعلة - والسلط العربية فاقدة للحس التاريخي. ولم تسمع أي ناقوس من نواقيس التاريخ. فلقد استفحل فيها داء الصمم التاريخي إلى الحد الذي اعتقدت أن بنادقها وعسسها أبدية. كان أول ناقوس قد ضرب تاريخياً هو ناقوس الحركة الأصولية العنفية. الصم لم يروا في هذه الحركة سوى أنها حركة إرهابية لا بد من القضاء عليها قضاء مادياً وبالقوة. لم يتساءلوا لماذا ظهرت هذه الحركة وما هي مسؤوليتهم عن ظهورها ودورهم في ظهورها.

لم يروا فيها أنها حركة فئات وسطى قادها سوء وضعها الطبقي وإحساسها بالاضطهاد السياسي. وغياب أي مجتمع سياسي ومدني يستوعب طاقاتها إلى التعويل على الخلاص الإلهي المسلح بالبندقية، بل حركة لا تحتاج إلا إلى قمع وبطش وقتل.

ووضعت المجتمع في خيار أما السلطة القائمة أو حكم الأصوليين.

لا شك في أن الحركة الأصولية ـ بما هي قليلة العدد وسرية وعنفية ـ أضعف من أجهزة الدولة، فكان أن تفوقت السلطة على الحركة وانتصرت على جانبها المسلح. فاستراحت لهذا النصر وراحت تزيد إمعاناً في قهر المجتمع الذي لم يتخل عن الإله بل لم يعد يفكر بالسلاح ـ البندقية. فلم تعمل على تغيير الشروط التي تنتج وأنتجت الحركات الأصولية. ولم تسمع الناقوس.

في التسعينات من القرن الماضي حدثت أكبر وقائع التاريخ المعاصر الوقائع التي يفوق تأثيرها تأثير الحرب العالمية الثانية. ألا وهي وقائع انتهاء المعسكر الاشتراكي وسلطاته الديكتاتورية وتحول بلدان أوروبا الشرقية جميعها إلى النظم الليبرالية .

زال الاتحاد السوفياتي وغرقت روسيا بمشاكلها التي ما زالت تعاني منها. كان هذا من اكبر نواقيس الخطر على النظام السياسي. لقد تردد الصوت وصداه في كل أنحاء المعمورة لكن أحداً من الحكام العرب لم يسمعه إطلاقاً، ومر عليهم ـ كما اعتقدوا ـ بسلام، فازدادوا صلفاً واستهتاراً بالناس. مطمئنين إلى سجونهم وأدوات قمعهم.

منذ التسعينات في القرن الماضي والثورة النيوالتكرونية تزداد اتساعاً وشمولاً وملايين الشباب العربي راح يجوب العالم بكبسة زر على شاشة صغيرة. فازدادت حاجاته الروحية والمادية. ازدادت معارفه ووعيه الصحيح بالعالم. لم يلتفت احد من الصم إلى هذه الفئة العمرية وعلاقاتها الجديدة بالعالم. لم يفكر أحد بسوق عملها ومستقبلها مع أن أصوات نواقيس الخطر التاريخي كانت عالية جداً وتسمع حتى من به صمم. فاستهانت بهذه الطاقة الهائلة للشباب ورمتهم في أتون البطالة فاقدي القدرة على التفكير بالخلاص في ظل هذا الوضع الراهن.

نواقيس التاريخ دقت في العراق يوغوسلافيا. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يقوم الغرب وأمريكا باحتلال بلد واسع وتدمير دولة كالعراق والقضاء على تشكيل دولة كيوغوسلافيا وتفتيتها وتغير سلطتها. لقد أعدمت قوات الاحتلال الأمريكي والسلطة العراقية رئيس دولة عربية طاغية بامتياز وأمام العالم.

لقد قيد مليوسوفيتش إلى محكمة الجنايات الدولية ومات في سجنه دون أن يكترث به أحد.

لم يسمع أحد من الطغاة العرب هذا الناقوس، بل ولم يكترثوا به، فلم يلتفتو الى الشعب. الشعب أقوى قوة في الوطن.

الناقوس الأكبر، ذو الصوت الأكبر، الذي تردد في كل إرجاء المعمورة، ناقوس العولمة ولم تنظر هذه الأنظمة إلى العولمة إلا بوصفها استيراد تقنية متقدمة، وعلاقات تبعية بوصفها هوامش للغرب. لم ينظر إلى التكتلات الكبرى في العالم. إلى الوحدة الأوروبية واليورو إلى آسيا إلى دول التعاون لم يفكروا أبداً بالسوق العربية بالعملة العربية الواحدة بفتح حدود السفر الحر للمواطن العربي لم توظف الدول الغنية أموالها في التنمية في بلدان عربية أخرى.

لم تشكل قوة عربية قادرة على التدخل السريع. لم يعدل ميثاق الجامعة العربية المتخلف. ظلت هذه الأنظمة قاعدة راقدة لا تهش ولا تنش يأكلها العفن والاستنقاع. لم تسمع الناقوس القوي الذي يقول لها: لا وجود في هذا العصر للدول الصغيرة، بل للتكتلات الكبرى. كل نظام راح يفكر فقط بالجواب على السؤال: الوحيد كيف السبيل للبقاء في السلطة عبر القوة والقوة فقط لمدة لا نهاية لها.

العولمة التي دفعت الدول الرأسمالية إلى القضاء على دولة الرعاية تشهد تململاً من فئات الشعب جميعها وراحت تعاني من أزمات سيطرة رأس المال المالي العابر للحدود. لم توحِ للنظام السياسي العربي بأي شيء ذي علاقة بحياة الناس.

أميركا اللاتينية التي هزمت الديكتاتوريات وراحت تسعد بالأنظمة الديموقراطية لم يسمعوا ناقوسها.

لم يسمعوا خطر الإحباط المستمر الذي ما ان يصل إلى درجة الانفجار حتى يصير ما لا يتوقعه عقل سليم.

الحرية التي تنتشر كالنار في الهشيم وبخاصة حرية القول والكتابة والإعلام لم يسمعوا صوت ناقوسها.

أي صمم تاريخي هذا! إنه صمم لم يسبق له مثيل أبداً في التاريخ وقد آن أوان الحياة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2165586

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165586 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010