الخميس 8 أيلول (سبتمبر) 2011

ذكور ولكن!

الخميس 8 أيلول (سبتمبر) 2011 par د.امديرس القادري

كثيرة هي المفردات الثورية والوطنية التي استطاع القاموس الوطني الفلسطيني امتلاكها في عقود من النضال والكفاح على طريق التحرير والعودة التي لا زال يحلم ويرنو إليها شعبنا المنكوب والمهجر والنازح والمشتت بين أرجاء الكون الأربعة.

مفردات ترسخت وتجذرت عبر هذا المشوار الطويل من الصراع مع العدو الصهيوني الغاصب، كلمات ومعاني كتبت حروفها بدماء الشهداء، والجرحى، والضحايا الذين ما سقطوا ولكنهم ارتقوا وصعدوا إلى السماء التي كانت تستقبل أرواحهم بالعشرات والمئات، وفي بعض المجازر كانت تصل إلى حدود الآلاف كما حدث في صبرا وشاتيلا، وغزة إبان العدوان الإجرامي الأخير الذي شنته عصابات هذا الكيان على أهلها وناسها الأبرياء.

ستة عقود زمنية ونيف تلت النكبة والتي بالرغم من فظاعتها لا يمكنها أن تجعلنا ننسى نضالات الفترة التي سبقتها والتي بدأت مع الانتداب البريطاني الاستعماري والاحتلالي لأرض فلسطين وشعبها. ولكن حتى نبقى في إطار الفكرة التي تسعى هذه السطور إلى تناولها وعرضها فسوف يجري التركيز على مرحلة ما بعد الاغتصاب الصهيوني والنكبة التي نتجت عنه، وهذا ما سنقوم بتقسيمه الى ثلاث فترات.

الفترة الأولى : وبدأت منذ عام 48 وامتدت حتى نهاية الستينيات. وفي هذه المرحلة برزت إلى الوجود والحياة مفردات الثورة، ومنظمة التحرير، والفصائل بمختلف مسمياتها الفكرية والسياسية، وكانت عبارة العودة بعد التحرير على أيدي الثوار والفدائيين هي الشغل الشاغل لكل المنخرطين في الصفوف، فكان السياسي مقاتلاً، والمقاتل سياسياً؛ حيث كان يجب عليه ولو بالحدود الدنيا للمعرفة أن يعي ويدرك لماذا يحمل البندقية بين يديه، وكان المال نظيفاً في أغلبه، لذلك كان يصرف في الاتجاه الصحيح وبعد عمليات تدقيق جادة ومسؤولة.

في هذه الفترة كانت مخيمات اللاجئين هي الحاضنة التي ولد من رحمها المعسكر، والقاعدة، وكل مواقع التدريب والتعبئة والإعداد. وبغض النظر عن ظروف البؤس والشقاء والفقر والحاجة، لذلك كانت الثورة والمقاومة والقيام بالعمليات هي المواضيع الأساسية التي كانت تتردد على الألسن، وهي المجال الذي كان يتبارى في ميادينه الرجال وفيه يتنافسون، ولم يكن مكتوباً على أرغفة الخبز وعلب السردين سوى عبارة (لن نركع ما دام فينا طفلاً يرضع!).

في هذه الفترة كان لفلسطين وشعبها مكانة تليق بها وبقضيتها، وعلى كل المستويات الدولية والعربية والإسلامية، مكانة فرضتها وحمتها بندقية الفدائي الذي ما كانت الدنيا تساوي عنده ذرة من تراب الوطن، وعليه فقد كان للكرامة وللشهامة وعزة النفس معانيها الصادقة والمخلصة التي كانت تمنع وتعيق وترفض الخيانة، والمذلة، والفساد، ونمو المصالح الرخيصة القائمة على التطاول، وعلى مد اليد نحو المحرمات التي كانت تحيط بها أسوار من المبادئ والقيم النبيلة.

الفترة الثانية : جاءت مع بداية السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، وهنا بدأ التضخم السلبي، والسريع، والمرتجل يطغى على كل التفاصيل الكامنة بين السطور، فالثورة وثوارها تحولوا إلى جيوش موزعة على الفصائل، وظهرت الألوية والكتائب والسرايا وبدأت تسطع على اكتاف وصدور كبار القادة والضباط النجوم والرتب، وراحت الملايين والمليارات تتدفق على الخزينة، وتحولت المنظمة إلى إمبراطورية عظمى عبر السفارات، والمكاتب التي فتحت في مختلف العواصم ليدخلها الغث قبل السمين، وتبدلت البطون الملتصقة بالظهور إلى كروش ليس لأصحابها رقاب، كما كان يرسمهم المرحوم ناجي العلي.

وهكذا انتقلنا من السلاح الفردي والعبوة والقنبلة اليدوية إلى عصر الدبابات والمجنزرات والصواريخ والطائرات كما حاول البعض أن يفعل، فتوقفت حرب التحرير الشعبية، وتحولت إلى حروب مواجهة وتوغل وحصار، ما أدى إلى احتلال بعض العواصم التي فتحت أبوابها واستضافت الفدائي الحالم بالوطن، وبالتحرير، والعودة. وتحولت الشهادة إلى روتين، وفعل يجري توظيفه حسب الميول والاحتياجات السياسية التي بدأت تتمركز في رؤوس بضع عشرات من الزعماء والقادة والمكاتب السياسية واللجان المركزية.

وعليه فقد غزت واجتاحت الأمراض كل جوانب البيت الفلسطيني حتى تكاثرت فيه العلل، والمحن، والمصائب وعلى أغلب الأصعدة، وبدأت الأزمات تضرب على جدران البنيان حتى أساساته، ولم تفلح الانتفاضة الأولى التي فجرها وأشعل نارها شعبنا داخل فلسطين المحتلة في التخفيف من المصائب التي كانت تتعرض لها الثورة والمنظمة والفصائل في الخارج، وهكذا بدأ القادة في ممارسة سياسة اللطم على الخدود، والدق على الصدور، إلى جانب العويل والصراخ، ولكن التدهور يتنامى ويزداد، وما كان بمقدور أحد الاستماع إلى صرخات الاستغاثة أو حتى التدخل بهدف الإنقاذ؛ لأن براقش هي التي جنت على نفسها!.

الفترة الثالثة : وكانت بدايتها مع دخول التسعينيات بحرب الخليج الأولى التي مهدت لانعقاد مؤتمر مدريد الذي كان البداية التي دشنت مرحلة العبث وسلام الاستسلام والإذعان، وهكذا أطلت مؤامرة أوسلو برأسها على الصعيد الفلسطيني، فكانت بداية الانطلاق لقطار المفاوضات واللقاءات وشرب الأنخاب، وحتى تمضي الأمور وكما هو مرسوم لها؛ فقد كان لا بد من شطب القاموس الوطني السابق ومحو وإزالة كل مفرداته التي تفوح منها رائحة الدم والنضال والمقاومة والمواجهة، ورحل الكاكي الأخضر، وحلت في مكانه الأطقم الفرنسية وربطات العنق، وأصبح كل شيء معروضاً للبيع والمتاجرة تحت رايات التنسيق الأمني ودايتون وأموال الرباعية الدولية التي بدأت تتدفق من جديد في جيوب بعض السماسرة من الذين ما عادت تعني لهم فلسطين شيئاً.

هذه المرحلة لا زالت تتواصل حتى اليوم، وهاهم بعض «الذكور من الذين أصبحوا يحيضون» يتربعون على سدة عرشها ويمسكون بزمام جميع عناوينها، يحللون ويحرمون كما يشاؤون، ويتهددون ويتوعدون، وبعصي زعران الأمن يضربون بعد أن تكاثرت الأقبية والسجون، حرامية ونصابون، وانتشر الفساد بينهم كالطاعون، ولم يعد لهم من اهتمام سوى بمصالحهم وامتيازاتهم ورواتبهم ورغد العيش الذي هم وراءه يلهثون.

وفلسطين التي كانت في الفترات السابقة قريبة أصبحنا اليوم جداً عنها بعيدين، وهذا الحال لن يتغير حتى يرحل عن قرارها الوطني هؤلاء الذين أصبحوا يتميزون بأنهم وإن كانوا ذكوراً فمن المؤكد أنهم يحيضون حتى ولو كان حيضاً عقيماً لا علاقة له بوظائف الأنوثة.

أما أخيراً فلا بد من تقديم الشكر للكبير خيري منصور الذي أخذت من إحدى مقالاته عنوان هذه المقالة!!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2165235

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165235 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010