الاثنين 29 آب (أغسطس) 2011

ليبيا بعد القذافي

الاثنين 29 آب (أغسطس) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

طويت صفحة القذافي، تأخرت النهاية لشهور، وإن كانت مؤكدة من البداية، تماماً كما أن نهاية كل الطغاة العرب قريبة، وبشرط أن تثور الشعوب، وأن تدخل امتحان التغيير.

حاول القذافي تجنب النهاية المحتومة، تماماً كما يحاول الأسد وعبد الله صالح، وباستخدام جرعات أكبر من العنف الدموي، وعلى ظن أن نهاية بن علي ومبارك كانت سريعة جداً، ولسبب أن كلاهما أصابه الرعب من هبة الناس، وجرب القذافي كما يجرب صالح والأسد، جرب تجنب ما تصوره خيبة مبارك وبن علي، واستخدم الحد الأقصى من العنف دفاعاً عن سلطته، وكانت النتيجة هي ذاتها في النهاية، وإن كانت بتكلفة أكبر من الدم والدمار والدموع.

ونهاية القذافي مؤشر على قرب نهاية طغاة صنعاء ودمشق، وعلى احتمالات أسرع لانتقال شعلة الثورة الشعبية إلى عواصم أخرى، كان الناس فيها يترقبون نهاية دورة الدم في ليبيا، وربما تكون عواصم كالجزائر والرباط هي الأكثر تأثراً بما جرى في ليبيا، وقبلها في تونس ومصر، فيما تبقى عواصم المشرق والخليج العربي في انتظار الدراما اليمنية والدراما السورية، ومع توقع أن تكون نهاية نظام علي عبد الله صالح هي الأقرب.

وفي ليبيا ما بعد القذافي، ربما تكون الصورة أعقد، فقد جرت فيها حادثة تدخل أجنبي عسكري، وفي وضع فريد غير مسبوق في حالتي مصر وتونس، وقد لا يكون قابلاً للتكرار بذات الصورة في عواصم الثورة، الحالي منها واللاحق، ولا يبدو التدخل الأجنبي في ليبيا مرشحاً للذبول بعد نهاية القذافي، بل ربما تزيد وتيرته على الأغلب، وهو ما قد يحول الوضع الليبي من الفرح الغامر إلى المأساة الحقيقية، فالتدخل الأجنبي مرشح للتحول إلى تحكم أجنبي، ليس فقط في موارد ليبيا الغنية بالبترول، بل في هيئة الحكم الانتقالي الليبي، وفي مصائر النظام البديل لنظام القذافي، كان أصل الخطأ فيما جرى مع اندلاع الثورة في ليبيا، بدأت الثورة شعبية سلمية خالصة، وتمكن القذافي من قمعها في طرابلس وجهات الغرب الليبي، فيما بدت مدن الشرق بعيدة عن مدى مدافعه وكتائبه، وبدلاً من استمرار الثورة الشعبية على سلميتها، وعلى تفوقها الأخلاقي، وبأثر من دموية القذافي المجنونة، وقع بعض الثوار في الخطأ التراجيدي، وتجاوبوا مع رغبات أمريكا وحلفائها في التدخل العسكري، وبدعوى حماية المدنيين، ثم حدث ما يحدث عادة من كل قوة استعمار، فقد طورت دول حلف الأطلنطي تكتيكات التدخل، ولجأت إلى الدعم المباشر لمعارضي القذافي، بالتدريب وصفقات السلاح وبالغارات الجوية، ثم تحولت القيادة العسكرية الفعلية في الميدان إلى اتجاه آخر، وجرى اغتيال القائد العسكري الليبي البارز عبد الفتاح يونس في ظروف غامضة، وأصبح التخطيط العسكري غربياً صرفاً، وصارت تحركات المعارضة الليبية المسلحة تابعة دائماً لغارات حلف الأطلنطي، أي أن العنصر الأجنبي المساعد تحول إلى دور القائد، فيما أصبحت جماعات المسلحين في دور التابع الميداني، وبدت عملية «عروس البحر» لاقتحام طرابلس من تأليف واخراج حلف الأطلنطي، والمحصلة : أن صورة الثوار الليبيين لحظة دخول طرابلس بدت مشوشة، بدت تصريحات القادة الليبيين الميدانيين متضاربة، ومليئة بالأخطاء، وكأنهم آخر من يعلم، فيما بدت الصورة الأدق عند الرئيس أوباما في واشنطن، وعند ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني.

والمؤكد أن نهاية نظام القذافي العبثي مكسب هائل للشعب الليبي، وربما لشعوب الأمة العربية كلها، لكن الفكرة التي تجئ عادة بعد السكرة تطرح نفسها، وفي صورة سؤال بديهي عن الثمن الباهظ الذي تنتظره دول التدخل الأجنبي، وفي يدها كل أرصدة ليبيا المليارية في الخارج، وتملك التصرف بها كما تشاء وفاء لديون تدخلها الحاسم، ثم أنها لن تترك ليبيا الغد، وقد يوفر لها بعض الليبيين غطاء لتدخل أكبر، وبدعوى طلب المساعدة العسكرية في وضع هش، وعلى طريقة إقامة قواعد عسكرية ثابتة، والتدخل في تفاصيل الصورة الجديدة، وتزكية شخوص الحاكمين، أو المرشحين للحكم، خاصة أن الذين يتصدرون المشهد الليبي بعد القذافي أقرب لخليط غير متجانس بالمرة، وفي غياب جهاز دولة جرى تحطيمه، وفي غياب جيش نظامي يعتد به، والمعنى : أن عملية لإعادة بناء دولة سوف تجري في ليبيا، ومن نقطة الصفر تقريباً، وفي بيئة مضطربة، وعلى خلفية توازن قلق بين القبائل والجهات الليبية، ولو كانت الثورة الليبية انتصرت بقواها الذاتية، وبالهبة السلمية المتفوقة التي بدأت عليها، لاختلف الأمر، لكن السيناريو الحربي الذي انتقلت إليه، واللجوء لطلب نجدة أمريكا وحلفائها، هذا التحول يفرض الآن ضرائبه، وقد ينقل ليبيا من وصاية القذافي إلى وصاية الأجانب.

ونتصور أن استعادة المعنى الوطني الذاتي لثورة ليبيا لا يزال ممكناً، فقد تخلصت ليبيا من قوة احتلال داخلي ممثلة بجماعة القذافي وأولاده، وعليها التخلص من قوة احتلال خارجي تتطلع لفرض وصايتها الآن، ونقطة البدء ـ فيما نتصور ـ واضحة، وهي إعلان الفرقاء الليبيين عن الرغبة في إنهاء مهمة حلف الأطلنطي، وترك الشعب الليبي ليقرر مصيره بنفسه، خاصة بعد أن انزاح كابوس القذافي، ويمكن للمجلس الانتقالي الليبي ـ لو استقامت النيات ـ أن يطلب مظلة عربية وأفريقية وإسلامية بديلة عن المظلة الأمريكية الغربية، يمكن للمجلس الانتقالي أن يستعيد ليبيا لمدارها القومي والجغرافي والديني الطبيعي، وأن يطلب العون من الأشقاء الحقيقيين، وليس من الأعداء المتربصين، فأمريكا ـ مثلاً ـ لا تهمها حرية الشعب الليبي، بل بترول الشعب الليبي، والسوابق ظاهرة، وأظهرها ما جرى في العراق الذي تحطمت دولته بالكامل، وسرقوا ثروته البترولية، وتركوا أبنائه نهباً للفقر والعوز والمذلة والإرهاب الغامض، ونصبوا حكومة دمى في عاصمته بغداد، ومن وراء ستار عملية سياسية وانتخابية موبوءة، وبصورة نخشى أن تتكرر في ليبيا، خاصة أن عدداً لا بأس به من المفروضين على المشهد الليبي بعد نظام الطاغية القذافي، عدد لا بأس به من هؤلاء أقرب لطبائع الدمى، وهم مجرد همزة وصل بين أجهزة مخابرات غربية وقبائل في الداخل الليبي، وطبيعي أنه يوجد ـ إلى جوار هؤلاء ـ عناصر وطنية وثورية ليبية حقيقية، أضف إلى هؤلاء ـ وأولئك ـ نفوذاً ميدانياً ظاهراً لجماعات إسلامية ليبية، بعضها من النوع التكفيري القاتل على طريقة تنظيم القاعدة.

والخلاصة : أن ضميراً حرا لا يملك كتمان الفرح بنهاية نظام القذافي، ولا يملك ـ في الوقت نفسه ـ أن يكتم مخاوفه على ليبيا بعد القذافي، فنهاية الطاغية توحي بكسب الحرية للشعب الليبي، ووجود أمريكا وأصدقاء «إسرائيل» في المشهد الليبي يوحي بالعكس، ويثير المخاوف على حرية واستقلالية الوطن الليبي، ويفك رباط العروة الوثقى بين حرية الأوطان وحرية الإنسان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 76 / 2165626

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165626 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010