الخميس 25 آب (أغسطس) 2011

القذافي.. ليس الدكتاتور الأخير

الخميس 25 آب (أغسطس) 2011 par نصري الصايغ

[**I ـ وداعاً أيتها الأحزان!*]

لا فرح يفوق فرح رؤية الدكتاتور في سقوطه الأبدي. لا سعادة تعلو سعادة إنهاء التاريخ القاتل وإعلان البدء بكتابة التاريخ الأبيض : تاريخ تخفف من حمولة الطغاة، من السلالة الدموية، من التأله السياسي، من الاستعباد المدمر، من الكذب الباهظ، من القمع المبرمج، من الاعتقال ـ الخبز اليومي للطاغية ـ من الأمن الاستباحي، من الإذلال المتعمد، من التعذيب السادي، من السرقة المفقرة، من السحل الإنساني، من... موبقات تجمعت من حقب التاريخ كله، في قبضة الدكتاتور.

لا حدود للفرح العام، للابتسامات البارعة، للعيون الناطقة بنبض الدموع المثقلة بشجن وأمل. لا حدود لفرح العائدين إلى قراهم ومدنهم، كأنهم عائدون لمعاشرة أو محاضنة أو لنوم هانئ مع أحلام بلون الوطن، ولم تعرفهم بلادهم. لا مساحة تتسع لفرح الخائفين من.. المرعوبين من.. المقتولين غداً أو بعد غد. كل فضاء يضيق على أفراح الحرية، فرح الابن برؤية والده منتصب القامة يمشي، فرح الابنة بأمها تنسج من رحيق الضوء عباءة لتكرار المعاشرة ومتابعة الولادات. كل الأمكنة تضيق عندما يخرج شعب بكامل لياقته الانسانية، ليقول بصوت لا يرتجف ولا يرتعد ولا يجبن ولا يمالئ ولا يراهن: «نحن شعب. لقد طلقنا أنفسنا ولم نعد ضحايا رخيصة. نحن شعب يشبه قبضته الممسكة بحقوقه ومصالحه. نحن شعب ولسنا عبيداً أو مشاعاً أو حلبة ثيران تهيج ليسفكها لاعب السلطة بسيف شهوته».

[**II ـ النصر باصبعين والطلقة كذلك*]

إذ يسقط الدكتاتور، لا يكون سقوطه فاجعاً. ان تراه هاربا كبن علي، أو خلف القضبان كمبارك، او في مشفى كعلي عبد الله صالح، أو أن تراه يقاتل حتى اللحظة الأخيرة القادمة، ولا شك في ذلك، فإنك تشعر بأن التاريخ العربي الجديد، حضر بمكنسته الكاسحة، لينظف الأمة كلها، من فلسفة العفن، من لزوجة السياسة، من تقرح المبادئ، من اهتراء اللغة، من سفلس العجز...

اذ يسقط الدكتاتور، يعاد إلى الوطن حضوره، وإلى الدولة طبيعتها، وإلى الحرية فضاؤها. بسقوطه، يعلن الانسان العربي الجديد، الذي شهدناه في تونس ومصر، ولادة عصر، تأخرت ولادته مئة عام على الأقل، ومنعت عنه الولادة ومنه، لأكثر من نصف قرن. بسقوطه يعتلي العربي قامته. يعلن انه وجود ممتلئ وأنه مع نفسه أولا وهو صاحب الامرة في السياسة وهو المرجعية... بسقوط الدكتاتور وزبانيته وأمنه وعائلته ينفتح الوطن على مصراعيه، فيطأ الناس خوفهم، يطلقون لحناجرهم عنان الأصوات، يرفعون شعارات باسلة: الحرية، العدالة، الديموقراطية، الحقوق، المحاسبة، الثواب والعقاب، ولا أحد فوق القانون ولو كان من سلالة الآلهة... يطلق الناس عجزهم، وينهضون إلى واجب الدفاع، بصدور عارية وقبضات ممتلئة وحضور كثيف. ويصل الأمر الصادر من الذات الغضوب، المتفجرة أملاً، ان الحياة النبيلة لا تنال إلا بقوة الشهادة.

إذ يسقط الدكتاتور، يكون سقوطه فاتحة لسقوط الآخرين. ومن علامات السقوط: قوافل من الشباب، يخرجون عراة إلى الساحات والميادين، وهم مستعدون للموت. يا لشجاعة هؤلاء الضعفاء! يا لجبن الدكتاتور القوي! الأولون: يرسمون إشارة النصر بإصبعين، فيخاف الدكتاتور، فيرسم بإصبعيه زناد الطلقة.

[**III ـ لا شبيه له بين الطغاة*]

للدكتاتور الليبي أشباه كثر، لكنه متفرد في عبقرية الاستهتار. لا شيء موجوداً. لا شعب في ليبيا. جموع هلامية عليها ان تؤمن بأن القذافي نبي، وما يقوله «شريف» وفي منزلة «الآية». وعليه ان يتلى كالصلاة، وعلى حرارة اللسان، وعلى المدرسة ان تلقنه لدراويش القراءة من التلامذة، وعلى الجامعة ان تحفر خضرته في رؤوس تصحّرت بفقه الفراغ.

لمعمر القذافي، صورة «الزعيم الفارغ». كأن تقرأه، إذا صبرت على وقتك، كأنك تقرأ دعاية سخيفة لسلعة بائتة. إذا تحدث عن الوحدة العربية، فهو يتحدث عن فراغ. عقد سبع زيجات وحدوية لم تنجب غير الطلاق مع الجميع، والتوحد مع العزلة.. ممثل رديء، يؤدي أدواراً مشينة بماكياج فاخر، وديكور فاسق، وأبهة مستعارة.

(أتساءل، كيف لم يحكموا عليه مذ سرق السلطة؟ مثله، مكشوف منذ البداية. أربعة أشهر كافية لإطلاق رصاص الرحمة السياسي عليه، واعتباره جثة بصورة رئيس او زعيم. لماذا صبروا عليه أربعين عاما؟ ما ذنب ليبيا؟ ما ذنب النفط؟ ما ذنب الشعوب العربية؟ أي عقوبة ان نحكم بدكتاتوريين، وان يكون رأسهم، الرئيس القذافي، بلا رأس، مهما اعتمر من قبّعات متعددة الألوان الطاووسية؟).

لمعمر القذافي ما ليس لسواه. لعله كاليغولا المشوّه. او، لعله نيرون «الأخضر» الذي يعرف كيف يحرق الأخضر واليابس الليبيين. لمعمر القذافي ما لم يرتكبه أحد. ألغى روما برمتها ليكون نيرونها المعاصر. ألغى ليبيا الجماهيرية من فقاعات بشرية مرذولة. ألغى مجتمعا بتقاليد عربية عريقة. ألغى دينا سماوياً لصالح دين دنيء هو السلطة بصيغة الغائب، ذي الحضور الكثيف بواسطة جلاوزته، أحذية النظام الممسوك بحذافير الأنفاس. لمعمر، أسطورة لن يمحوها تاريخ. انه اللانموذج. لا يشبه أحداً، ولا أحد يصل إلى جنونه الفارغ.

[**IV ـ المثقفون الطغاة*]

تقول ليبية مقيمة في باريس، عبر اذاعة «فرانس انتير»: عمري 38 عاماً. لا اعرف ليبيا كوطن. لا اعرف من ليبيا غير القذافي. أريد ان اعود إلى بلادي، واشعر بأن لي وطنا».

ماذا يقول الليبيون اليوم، وهم على وشك التاريخ الجديد: إنهم يقولون، كلاماً طبق الأصل التونسي، المصري، العربي. الجديد الجديد الذي اكتشفه الليبيون، عند اعلان ثورتهم، انهم يشبهون «عصبة بو عزيزي» و«حلقة خالد سعيد»، ويشبهون أكثر، شعوبا عربية، تلهج سراً، بالحرية، وتعمل سراً، لدك الطغاة.

يقول الليبيون: تأخرنا كثيراً. اثنان وأربعون عاماً عجاف. بعض العرب تأخر أكثر منا. البعض يدفع دماً، البعض يدفع سجنا، البعض يدفع صمتاً وقهراً، ذلك البو عزيزي قادم...

لا استثناء لأحد. تونس كانت استثناء مرعياً ومدعوماً مع بن علي. تسقط دول وعروش ولا يسقط. لكنه سقط، لا استثناء مصرياً. مبارك سقط بأسرع مما يتصوّره اشد المتفائلين تعصباً للثورة. والبقية آتية بلا ريب. الثورة لن تستثني أحداً. للتأخر أسباب كثيرة، للتعثر أسباب أكثر، ولكن لا مفر من التغيير، والخريطة العربية، ستشهد ولادة جامعة عربية جديدة، كرابطة قومية، ممثلة لشعوب وليس لأنظمة، المفاضلة بينها، تقوم على من هو أكثر دكتاتورية او أقل استبداداً.

يعتبر المثقفون الثورة بأنها ليست متطابقة مع نظرياتهم. هذا معيب. الثورة العربية الديموقراطية، نسيج خاص، نتاج عربي خالص، إبداع شبابي جديد، ثقافة عملية مدفوعة الثمن بالدم والشجاعة والنبل. المثقفون الذين يريدون ثورة على مزاج أفكارهم الطهرانية والطوباوية، دكتاتوريون أكثر من المستبدين، لأنهم يقصون جماعات من الشعب العربي بسبب هويتهم الدينية او المذهبية او الاثنية. يريدونهم فكرة. الثورة ليست فكرة، هي تجسّد ومنها تولد الفكرة، كما ولدت من ثورات سالفة.

[**V ـ قلق شرعي على ما بعد..*]

الثورة الليبية، ليبية أولاً. دماؤها ليبية. آلامها كذلك، تطلعاتها من رحم معاناتها، فلماذا هذا التهافت على سرقتها من دول غربية، استعاضت عن عجزها في تونس وخسارتها في مصر، بتبني ثورة شعب، كانت على وشك الإجهاض؟

فرنسا الانتهازية جداً، خطر على الثورة. وإذا كان القذافي خطرا وانما مقيما على الليبيين، فإن برنارد هنري ليفي، هو الخطر القادم، لارتباطه الشديد بساركوزي، «قائد العمليات العسكرية السياسية»، ولارتباط بعض رجال الثورة بليفي. وليس ذلك سراً، فعندما كانت قوافل المقاتلين الليبيين تتعرض لنكسات عسكرية على جبهات القتال، كان الاتصال المستعجل طلبا للدعم، يتم ببرنار هنري ليفي، الذي تحوّل من محلل ومتابع ومتدخل إلى صانع «الثورة» من بعيد.

يصعب على من يفرح اليوم ان لا يحس بغصة، لحاجة الثورة إلى دعم خارجي، غير بريء. كيف تتطهر الثورة من مشاريع «الديموقراطية المشبوهة والمشلولة» التي يرغب الغرب بربطها به؟

فرنسا ليست أما حنونا لأحد. هي مستعدة لان ترفع من تشاء، بشرط ان تتولى أمومته وأبوته في السياسات الخارجية وما يمت إلى الربح بصلة مالية.

من حقنا ان نقلق وليس من حقنا ان نتهم. فليبيا في طريقها إلى الحرية، والحفاظ عليها نقية مهمة الليبيين ومن هم في ذمة الحرية وفي صراط الديموقراطية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2165894

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165894 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010