السبت 20 آب (أغسطس) 2011

عندما يتهاوى الكيان من أسطورته

السبت 20 آب (أغسطس) 2011 par د. محمد السعيد ادريس

منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت، وفي أوج الانشغال العربي المكثف في المرحلة التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، بحقيقة «العلاقة اللغز» التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني، كلفت من إدارة مركز «الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، إعداد دراسة عن الإدراك أو التصور الأمريكي لهذا الكيان. السؤال عن حقيقة هذه العلاقة والغاية من إعداد هذه الدراسة كان الغرض منه الرد على من يحاولون الترويج لأكذوبة احتمالات حدوث تغيرات في السياسة الأمريكية نحو «إسرائيل» إذا ما قبل العرب بخيار السلام. وقد صدرت هذه الدراسة ونشرت في كتاب من إصدارات المركز في أغسطس/ آب عام 1979 تحت عنوان ««إسرائيل» في التصور الأمريكي .. الإطار الاستراتيجي واتجاهات التغير».

الدراسة التي اعتمدت على الوثائق الأمريكية الأساسية وخاصة تسجيلات الكونغرس الأمريكي وغيرها، وركزت على دراسة إدراك كل من الإدارات الأمريكية والكونغرس الأمريكي والرأي العام الأمريكي (من خلال تحليل قياسات واستطلاعات الرأي العام وتحت مضمون الصحف والمجلات الأمريكية)، استطاعت أن ترصد وقتها إدراكات أربعة أساسية للكيان الصهيوني في العقل السياسي والاستراتيجي الأمريكي هي على الترتيب :

- «إسرائيل» تجسيد للدولة اليهودية المنشودة.

- «إسرائيل» أداة للمحافظة على المصالح الأمريكية في «الشرق الأوسط».

- «إسرائيل» مصلحة أمريكية.

- «إسرائيل» قوة غربية في «الشرق الأوسط».

هذه الإدراكات الأربعة كانت موجودة بنسب مختلفة عند المستويات الثلاثة التي جرت دراستها وهي الإدارات الأمريكية، والكونغرس، والرأي العام، وكانت حاكمة لتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية في «الشرق الأوسط» على وجه العموم، ونحو الكيان الصهيوني على وجه الخصوص، وكانت أهم استخلاصات الدراسة أنه طالما ظل الكيان الصهيوني يروج لنفسه على النحو الذي يجري به إدراكه في العقل السياسي الأمريكي وفق تلك الصور الإدراكية الأربع، فلن يحدث أي تغير في السياسة الخارجية الأمريكية مهما حاول العرب استمالة الولايات المتحدة، ومهما قدموا من مبادرات سلام. وقد ثبتت فعلاً صحة هذا الاستنتاج ويكفي قراءة ما آلت إليه كل مبادرات العرب السلمية وما نتج عن تطبيع دول عربية علاقاتها مع هذا الكيان لتأكيد صحة هذا الاستنتاج.

ربما تبدو، للوهلة الأولى، أن هناك إشكالية في الحديث عن التاريخ بمنظور مستقبلي في حين أن التاريخ هو صورة الماضي، لكن المقصود هنا هو أن نضع الكيان أمام حتمية تطوره التاريخي ونقرأ مآله اجتماعياً وعلى مدى تاريخي قد يمتد لعقدين أو ثلاثة، ونسأل: ماذا لو أصبح هذا الكيان دولة «شرق أوسطية» له ما لكل دول هذا الإقليم من صفات سواء كانت إيجابية أو سلبية، لكن الأهم أن يقطع صلته بالغرب عموماً والأمريكيين خصوصاً، وبالتحديد يقطع صلته بكونه «قوة غربية» في «الشرق الأوسط».

فمنذ عامين تقريباً تحدث الجنرال بيترايوس القائد الأمريكي السابق في العراق ثم في أفغانستان، عن أن «إسرائيل» أخذت تتحول إلى عبء ثقيل على كاهل الولايات المتحدة. وهناك من اتهموا الكيان بأنه المسؤول عن توريط الأمريكيين في غزو العراق واحتلاله. الشعور بالعبء الثقيل للكيان قلل من وطأته عدم وجود موقف عربي قوي رافض للسياسة الأمريكية المنحازة والداعمة لهذا الكيان، لكن ما يحدث من تحولات الآن في بعض الدول العربية ربما يؤدي مستقبلاً إلى إجراء مراجعات في العلاقات العربية الأمريكية عما هي الآن، وربما تتراكم الضغوط داخل الولايات المتحدة من جراء الفشل في إدارة الكثير من ملفات السياسة الخارجية، ومن جراء الأزمة الاقتصادية الأمريكية المتصاعدة، ما يضطر الإدارة الأمريكية إلى مراجعة بعض سياساتها الخارجية ومن بينها العلاقة مع «إسرائيل»، لكن الرهان الأهم هو على الداخل «الإسرائيلي».

فالأزمة الاقتصادية الراهنة وتصعيد المطالب الاجتماعية والإضرابات المتتالية لقطاعات مهنية واسعة أخذت شكل الاحتجاجات الشعبية في الدول العربية، وتتجه نحو مظاهرة مليونية محددة المطالب، توحي بجدية تلك الفرضية النظرية التي تقول فيها «ماذا لو أصبحت «إسرائيل» دولة «شرق أوسطية»؟».

فقد أعد قادة الاحتجاجات على أزمة السكن في الكيان وثيقة تحدد مطالبهم التي تضمنت مطالب في مجالات سياسة الميزانيات الحكومية والسكن والتعليم والصحة والعمل والرفاه. ونشرت صحيفة «هآرتس» الصهيونية أن وثيقة المطالب تضمنت العديد من الخطوات التي يتوقع قادة الاحتجاجات تقديمها للحكومة، ومن بينها إلغاء الضرائب غير المباشرة وإصلاح الضريبة وإخضاع دخل الفرد كله للضرائب، واستثمار فائض الضرائب بخدمة المواطنين وخفض نسبة القيمة المضافة، ووقف إجراءات الخصخصة وبناء مساكن شعبية جديدة، ورفع الحد الأدنى للأجور.

مطالب لا تختلف كثيراً عن مطالب مظاهرات الاحتجاجات في بعض الدول العربية المجاورة أو غير المجاورة للكيان، وهذا معناه، أن التاريخ يجري «تطبيع» الكيان لتسقط الأسطورة عنه، وهنا يكون قد أخذ يبتعد تدريجياً عن صورته النمطية في الإدراك الأمريكي السياسي كقوة غربية، في وقت تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة، ولأسبابها الخاصة، إلى أن تبتعد هي الأخرى تدريجياً عن «شرف» كل هذا الانحياز فائق الخيال للكيان الصهيوني، عندها سيتحول الكيان إلى دولة ككل الدول في «الشرق الأوسط»، لكنه كيان منبوذ لأنه مغتصب لجزء غال من أرض العرب، وعندها حتماً سيفرض التاريخ شروطه وقوانينه على إدارة صراع طبيعي، وغير أسطوري عندما يتهاوى هذا الكيان من أسطورته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2177278

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2177278 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40