الجمعة 19 آب (أغسطس) 2011

«عالم ما بعد أميركا».. بدأ بالفعل

الجمعة 19 آب (أغسطس) 2011 par د. سمير كرم

الولايات المتحدة الاميركية دولة قوية عسكرياً فوق ما تتصور هي نفسها، ولكنها تعاني عدداً من مركبات النقص الداخلية، تعاني من شعور حاد بانعدام الأمن.

والدول هنا لا تختلف عن الافراد. اولئك الذين يفتقرون الى الشعور بالامن، اما ان يكبروا منزوين وخجولين وعاجزين عن المواجهة، او يكبروا عدوانيين وسيكوباتيين ومستعدين لارتكاب أبشع الفظائع من دون مبررات كافية او يخلقون لها المبررات خلقاً.

وقد ورثت الولايات المتحدة مركز الدولة الأعظم من امبراطوريتين انحدرت احوالهما بعد الحرب العالمية الثانية. ورثت دورها العالمي من فرنسا بأن حلت محلها في حرب الهند الصينية، وورثته ايضاً من بريطانيا حينما ظهر ضعف بريطانيا في حرب السويس ضد مصر عام 1956، بعد ان امم جمال عبد الناصر قناة السويس. وقد لقيت الولايات المتحدة هزيمة قاسية في حرب فيتنام، وأعقبتها هزيمة قاسية على نطاق أضيق في حرب غزو خليج الخنازير في كوبا. انما بقيت لها سيطرة في «الشرق الاوسط»، منطقة الطاقة المحركة للصناعة في العالم، وقد اعتمدت فيها على دور «اسرائيل» منذ حرب 1967.

لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق انتصار عسكري حاسم واحد طوال السنوات الستين منذ ان ورثت الامبراطوريتين الاستعماريتين، فرنسا وبريطانيا. مع ذلك فإنها لم تكف عن التدخل، وأصبح «الشرق الاوسط» منطقة التدخل الاميركي المباشر بعد سقوط النظام السوفياتي في اوائل التسعينيات من القرن الماضي، الامر الذي واكبه ارتفاع خطورة الارهاب في المنطقة وتخومها الجغرافية.

خلال تلك الفترة الطويلة من الهيمنة الاميركية التي لم يواكبها انتصار عسكري حاسم واحد كانت الولايات المتحدة تهتم بأمنها الاقتصادي عسكرياً بالدرجة الاولى. انتشرت نشاطاتها الاقتصادية في انحاء العالم مؤكدة نفوذ الدولة الأعظم وهي تستمر في عجزها عن تأكيد قدرة عسكرية استراتيجية موازية لتوسعها الاقتصادي.

في هذا الاطار نفسه، قامت الولايات المتحدة بعملية عسكرة المجتمع الأميركي، لا سيما للاقتصاد الاميركي الذي اكتسب طابعاً عسكرياً. الصناعة الاميركية اكتسبت هذا الطابع العسكري كذلك، وبالمثل تعسكرت الانظمة المعلوماتية والمعرفية الى حد إهمال جسيم للقطاعات المدنية من الاقتصاد الاميركي والتكنولوجيا الاميركية. وأصبحت اميركا تعتمد اعتماداً كلياً على استيراد كل ما يلزمها لحياة المجتمع من دول العالم الاخرى. لقد تراجعت انتاجية اميركا الصناعية والتكنولوجية في كل المجالات، إلا في المجال العسكري.

وخلال السنوات العشرين الاخيرة، بدا واضحاً ان الأخطار الاقتصادية على مكانة اميركا تمتد من الصين شرقاً الى اميركا الجنوبية غرباً، لتشمل اليابان وأوروبا. وفيما يشبه المفاجأة، اصبحت الصين منافساً قوياً للولايات المتحدة الى حد انها تعد الآن بالارقام والاحصاءات التي لا تكذب اكبر دائن للولايات المتحدة، في وقت تضخمت فيه ديون أميركا الخارجية والداخلية الى حد لم يسبق له مثيل في التاريخ. وتحولت اوروبا (الاتحاد الاوروبي) الى منافس اقتصادي قوي للولايات المتحدة بينما استمرت الولايات المتحدة تدفع النصيب الاكبر من نفقات حلف الاطلسي، وهو آخذ في التوسع رأسياً وأفقياً. وخرجت اميركا اللاتينية من تحت مظلة الهيمنة الاميركية الاقتصادية والاستراتيجية.

لقد صعد دور الحروب في الاستراتيجية الأمنية الأميركية الى مستوى لم يسبق له مثيل. وبينما كانت الحروب وسيلة الى الخروج من أزمات اقتصادية طوال الفترة من بدايات القرن العشرين الى ثلثه الأخير، اصبحت في العشرين سنة الأخيرة وسيلة لتقويض الاقتصاد الاميركي وتحويله الى اقتصاد مدين لدول مثل الصين والهند والبرازيل. في الوقت نفسه، تعاني الولايات المتحدة عجزاً شديداً في القدرة على الحد من النهم الاستهلاكي وخاصة الى سلع لا تنتجها انما تستوردها من الخارج. وليس مقصوداً بهذا النهم الاقتصادي نهم غذائي، انما نهم الى كل سلعة استهلاكية من اي نوع ولأي استخدام او حتى بلا قيمة استخدامية.

هل يمكن هنا ان نتحدث عن نهاية سيطرة المجمع الصناعي العسكري ـ ذلك الذي حذر منه الرئيس ايزنهاور في خطبة الوداع وهو يغادر الرئاسة عام 1961؟ الصحيح عند الرد على مثل هذا التساؤل ان هذا المجمع الذي كوّنه تحالف العسكريين والصناعيين لا يزال يملك سيطرة كاملة على السلطة في اميركا. لم تتراجع سلطته على الرغم من تراجع مكانة الولايات المتحدة عسكرياً وصناعياً في ظل قيادته. لكن من الصحيح ايضاً ان الحالة المتردية التي وصلت اليها اميركا اقتصاديا لم تعد تشهد حالة الانسجام التام بين الطرفين المكونين لهذا التحالف. فهما بطبيعتهما وبطبيعة دور كل منهما يتنافسان على السيطرة على صنع القرار، وكثيراً ما يتصاعد التوتر بين الصناعيين والعسكريين حينما يحس اي من الطرفين انه يكاد يصبح مجرد أداة في يد الطرف الآخر.

وهذا بحد ذاته مرشح للتحول الى صراع خطير في ظل حالة التراجع الاقتصادي الذي تعاني منه اميركا. واذا ما تصاعد هذا الصراع وتصدّعت الأسس التي يقوم عليها التحالف بين العسكريين والصناعيين، حيث يميل كل منهما الى إلقاء مسؤولية هذا التراجع على الآخر، فإن هذا الصراع ستكون له اثار وانعكاسات سلبية تتعدى حدود الاقتصاد لتنال من الأمن الاميركي الداخلي قبل الخارجي.

ذلك انه في الفترة نفسها، اي خلال السنوات العشرين الاخيرة، طرأت تطورات بالغة الخطورة على الاوضاع الاقتصادية الداخلية في المجتمع الاميركي. تعاظمت اللامساواة الاجتماعية - الاقتصادية بين الطبقات الى حد يهدد السلام الاجتماعي. وقد وصل الامر الى حد جعل واحدا من كل ستة اميركيين يعيش على بطاقات الطعام المجاني التي توفرها الحكومة لمن لا يملكون ثمن الحصول على طعام غير مجاني. ومعنى هذه النسبة ان قسماً غير ضئيل من الطبقة المتوسطة الاميركية قد دخل في عداد من يعتمدون على بطاقات الغذاء المجاني.

في هذا الاطار، الذي يطلق عليه المعلقون الاقتصاديون اليساريون صفة «الاغتيال الاقتصادي للولايات المتحدة»، هبطت نسبة العمالة الأميركية، اي أولئك الذين لا يعانون البطالة، إلى ادنى مستوى بلغته منذ ان بدأت الدوائر المختصة ترصد هذه النسبة سنوياً، أي من 43 عاما. ويؤكد الاقتصاديون غير الحكوميين انه لا صحة للأرقام الحكومية الاخيرة التي تقدر نسبة البطالة بين العاملين الاميركيين بنحو تسعة واثنين من عشرة في المئة، وان الرقم الصحيح لهذه النسبة الآن هو اثنان وعشرون وسبعة اعشار في المئة.

يحدث هذا في ظل وضع عام لتوزيع الثروة في الولايات المتحدة يبلغ درجة قصوى من «الحرب الطبقية بلا رحمة»، حسب تعبير المحلل الاقتصادي الاميركي غريغوري ايليتش، حيث يملك واحد في المئة ربع الدخل القومي الاميركي وأربعين في المئة من الثروة الاميركية. ولا تنتهى المحنة عند هذه الحدود فإن «الواحد في المئة هؤلاء يعتقدون ان هناك مشكلة، ذلك ان ما يملكون لا يكفي» (...) ويستنتج المحلل نفسه ان الولايات المتحدة تتحول فعلياً الى نموذج بلدان العالم الثالث من حيث الفوارق الطبقية.

هذا في وقت ارتفعت فيه ارقام الانفاق الاميركي على حربي العراق وأفغانستان الى ثلاثة تريليونات ومئتي مليار دولار، بينما اصاب الجمود اجور العمال والموظفين منذ بداية الازمة الاقتصادية الراهنة عام 2008. وهذا لا يشمل فئة رؤساء المؤسسات وكبار المديرين التنفيذيين. فهؤلاء زادت مرتباتهم وأنواع المكافات الاضافية التي تدفع لهم بنسبة 37 في المئة في عام2010 وحده.

فيما يشبه المفاجأة أيضاً ظهر في مجلة «تايم» الاميركية الاسبوعية مقال للكاتب الاميركي فريد زكريا، وهو من اصل هندي مسلم، تحت عنوان «نسير نحو عالم ما بعد اميركا». نقول فجأة لأن زكريا هو من اكثر المعبرين عن النظام الاميركي وقد تولى لسنوات طويلة رئاسة تحرير شهرية «فورين افيرز» (الشؤون الخارجية) التي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الاميركي. وهذا المجلس من اقوى مصانع الافكار المعبرة عن النظام والمؤيدة لسياساته.

يقول فريد زكريا في هذا المقال «نحن نسير بوضوح نحو عالم ما بعد الولايات المتحدة حيث لا يسيطر احد، بل تظهر الطاقة والافكار المبتكرة كمقومات رئيسية للنجاح في القرن الحادي والعشرين». مع ذلك لا يفوته ان يدعو الولايات المتحدة «لاغتنام الفرصة لقيادة العالم عبر قدرتها على الادارة الجيدة لمقومات النجاح الاقتصادي والمجتمعي». ويلخص الكاتب المشكلة الاميركية الراهنة في «غياب نظام سياسي يسخّر كل الاشياء (التي تتميز بها اميركا مثل فيس بوك وغوغل وآبل وافضل الجامعات ...) ويضعها موضع التنفيذ». ويضيف «ان الولايات المتحدة ليست لديها سياسة في مجال الطاقة منذ عشرين عاماً، وليست لديها سياسة هجرة ولا سياسة تجاه فرص العمل والنمو، ولا حتى سياسة تتعلق بمواجهة العجز في الميزانية... بدلا من ذلك لدينا شلل سياسي سخيف في واشنطن حيث يبدي الجميع المزيد من الاهتمام بالفوز عن طريق تحقيق المزيد من النقاط والاحتفاظ ببقائهم عن طريق التعاون مع اعضاء اكثر تطرفاً بدلاً من التوحد وحل المشكلات».

لا شك ان المفاجأة كانت مذهلة لمعظم الاميركيين لأن فريد زكريا لم يكن في اي وقت ممن يرددون انتقادات اليسار للنظام الاميركي، لكن ها هو الآن يعلن ان القرن الحادي والعشرين ليس قرن اميركا انما يمكن ان يكون قرن الصين. انه يقول عن الصين انها «الاكثر ملاءمة للريادة في القرن العشرين حيث تحظى بعمالة رخيصة وتدخل اليها مبالغ ضخمة من رؤوس الاموال، كما ان بمقدورها القيام بكل ما تريده». لكنه يضيف ان الصين، شأنها شأن الولايات المتحدة، «تكافح في قضية الطاقة حيث هي مستهلكة وليست منتجة. لكن الصينيين اصبحوا زعماء العالم في الطاقة النظيفة، سواء كانت الطاقة الشمسية او طاقة الرياح. وقد وضعوا اسس المنافسة في القرن الحادي والعشرين عبر بناء نظم جامعية عظيمة والسعي لامتلاك معامل ابحاث».

هل يمكن ان تتحول قضية انحدار دور اميركا مع انحدارها الاقتصادي الى واحدة من قضايا حملة انتخابات الرئاسة الاميركية ام ان المسألة لم تتحول الى هذه الدرجة العالية من الحرارة؟

سؤال من الصعب للغاية الإجابة عليه من الأن في المرحلة الراهنة من حملة الانتخابات الرئاسية. ان النظام الاميركي عنيد وقوي الشكيمة في مجال الدعاية عن نفسه. وغالباً ما سيعتبر انه تجاوز ازمات من هذا النوع من دون ان تتحول الى حروب اهلية او طبقية. مع ذلك فإن رد الفعل المعتاد من الرأي العام الاميركي، اي من الناخبين الاميركيين، في اوقات الازمات كان دائماً مقاطعة صناديق الاقتراع تعبيراً عن استيائه وخيبة امله. وقد يحدث هذا في انتخابات الرئاسة الاميركية (2012)، لكن الرأي العام الاميركي يهيأ لإدراك حقيقة ان القرن الحالي ليس قرن اميركا كما كان القرن العشرين. اي انه يتهيأ لتقبل حقيقة ان الولايات المتحدة ستتراجع الى المركز الثاني او الثالث وربما الرابع في الترتيب العالمي. انها لن تعود الدولة الأعظم لا بقوتها العسكرية ولا بقوتها الاقتصادية، وبالتالي ليس بقوتها السياسية.

إنه عالم ما بعد أميركا وقد بدأ بالفعل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 92 / 2165768

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165768 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010