السبت 13 آب (أغسطس) 2011

الثورات وقهر الاغتراب

السبت 13 آب (أغسطس) 2011 par د. احمد برقاوي

أن يغترب الإنسان عن ذاته يعني أنه لم يعد هو. إنه محمول على أن يكون كائناً فاقداً معناه، ومعناه قائم في إنسانيته. الإنسان المغترب عن ذاته ليس إنساناً.

كيف تأتى للعربي أن صار مغترباً عن ذاته؟ فاقداً معناه الإنساني؟ الصفة الماهوية للإنسان أنه حيوان عاقل. حيوان ناطق، والعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، كما أشار في وقته فيلسوف العقل الفرنسي ديكارت، ولأنه عاقل فهو إذاً يفكر، ولأنه يفكر هو إذاً موجود.

الكائن ليس موجوداً وجوداً إنسانياً إذا لم يفكر. الكائن الذي فقد حق التفكير وحق استخدام العقل كائن مغترب عن ذاته ـ عن إنسانيته. إذاً الكائن الذي تحمله سلطة غاشمة على إغلاق عقله وإيقاف عملية تفكيره إنسان مغترب عن ذاته عبر قوة غاشمة.

السلطة في الوطن العربي سلطة لا عقلانية ولا عقلية ولهذا قررت أن تمنع العقل من التفكير بوجود الذات وحياتها ومستقبلها، وقررت ـ بما وهبت من نعمة الغباء العبقري - أن تفكر عن كل إنسان، وتحصر حقل تفكيرها في تغريب الإنسان عن عالمه وعن حقيقته، كي لا يفكر بالبديل العقلاني، أي باستعادة وجوده إنساناً عاقلاً ومفكراً. ولهذا، فالإنسان العربي الذي قرر أن ينتفض ويثور على سلطة حرمته ماهيته الإنسانية، فإنه ـ عملياً ـ قرر أن يستعيد إنسانيته ويقهر اغترابه. إنه قرر أن يحرر عقله من سجان أحمق.

الإنسان من حيث الطبيعة، كائن حر «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»؟ هكذا قال عمر بن الخطاب. يولد الإنسان حراً ولكنه يكبل بالأغلال. هكذا قال جان جاك روسو. الحرية صفة ماهوية للإنسان، إلى درجة أن الإنسان حر في صنع ماهيته من دون توقف، فمعناه أي الإنسان، قائم في حريته.

أول هدف من أهداف السلطة الغاشمة في الوطن العربي تشليح الإنسان حريته. - أشلح كلمة عربية فصيحة لمن لا يعرف - كم الأفواه وتكسير الأقلام والدوس على الهامات وإدخال الخوف إلى النفوس، تشليح الإنسان أمنه وكرامته، من أهداف السلطة الغاشمة إذاً، جعل الإنسان ـ وقد فقد حريته - مغترباً عن ذاته وفاقداً معناه، كل هذا من أجل حماية نفسها من حريته.

العربي الذي ينتفض من المغرب إلى البحرين قرر عن سابق تصميم وإصرار أن يقهر اغترابه، أن يتصالح مع ذاته، أن يعود إنساناً، بعد أن أفقدته سلطة الإخضاع الحمقاء وجوده الإنساني.

الكائن البشري كائن حالم يحلم نائماً رغماً عنه، ويحلم صاحياً بما يجب أن يكونه. ولأنه حالم في صحوه، فهو من حيث ماهيته، ابن المستقبل.

الحلم الصاحي هو الأمل. الأمل بأن يكون كما يريد. يرسم صورة حياته ثم يسعى لتحقيق ما رسم. والحلم ـ الأمل نوعان: فردي وجمعي، كلاهما يحتاج إلى إرادة تحقيق، والسعادة تتحقق في ولادة الحلم ـ الأمل وفي الطريق إلى تحقيقه.

السلطة العربية، بكل ما أوتيت من همجية المصالح وفجعها، صادرت آمال الناس وأحلامهم، فإذا الإنسان مغترب عن ذاته فاقد ماهيته الإنسانية. فلا هو قادر على تحقيق الحلم - الأمل الفردي، ولا هو قادر على تحقيق الحلم - الأمل الجمعي حتى أحلام الجسد قد ماتت، الشباب أحلام - آمال. والحياة هناك ـ في زمن المستقبل - سلط بغبائها الغرائزي مكونة من جهاز هضمي وجهاز تناسلي ومسدس وسجن سدت الطرق إلى الآتي أمام أجيال شباب من شيمتهم التفكير بالآتي.

الإنسان في ماهيته صانع لتاريخه، أجل البشر يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم بل يصنعونه في شروط ليس لهم دخل في خلقها التاريخ حين يكف عن أن يكون صناعة للبشر يكون التاريخ نفسه مغترباً عن ذاته، الإنسان غير الصانع للتاريخ إنسان مغترب عن ذاته. ولأن التاريخ هو مجموع الإرادات التي تبني عالمها، فإن المجتمع اللاتاريخي هو المجتمع الخلو من الإرادات. المجتمع اللاتاريخي هو اغتراب التاريخ عن ذاته، الإنسان اللاتاريخي هو اغتراب الإنسان عن ماهيته.

سلط بكل ما أوتيت من ابتذال، علبت المجتمعات، وحملت المجتمع على سبات طويل، فغادر المجتمع التاريخ، وحالت بين الإنسان العربي وصناعة التاريخ فغربته غربة عن التاريخ.

العربي وهو يثور من البحر إلى البحر فإنما من أجل استعادة حقه في صناعة التاريخ، من أجل أن يعود التاريخ المسروق والمفقود إلينا ونعود إليه فاعلين في هذا العالم. لقد حولنا اغترابنا التاريخي، واغتراب التاريخ إلى متسولين على موائد صناع التاريخ في العالم. والسلط المنزوية في كهوف الشره لا تشعر أصلاً بالاغتراب.

العربي قرر أن يعيد التاريخ إليه وان يعود للتاريخ. الكائن البشري كائن لاعب بامتياز، يحب اللعب، والحياة التي تبعث على الفرح، اللعب فسحة للإبداع، تحرر من قهر الحاجة، تجاوز لسلطة السلطة، الكائن البشري في ماهيته كائن لاعب، وكل ما يحول دون أن يكون ذلك من أسباب لاغترابه. سلط بثقافتها الوضيعة لم تر الثقافة إلا بوصفها هزءاً وقيلاً مبتذلاً، سلط راحت تعمل خناجرها في جسد ثقافة المجتمع والجامعة والمسرح والأدب والفن، ورغم مقاومة الإبداع الأصيل فإن قوة المال والسلطة عبثت بالحياة الثقافية. فاغتراب الثقافة عن ذاتها، هو اغتراب الإنسان عن ماهيته بوصفه لاعباً مبدعاً للثقافة الروحية.

العربي وهو يستعيد دوره المفقود في صناعة الحياة يعيد الثقافة إلى ذاتها ويحررها من اغترابها كما يحرر اللعب من اغترابه ويعيد للحياة زهوها. الإنسان معشري في طبيعته، كائن اجتماعي ـ مدني كائن سياسي. السياسة ذروة العلاقات المعشرية لأنها فعل تطوعي يقوم داخل الجماعة، فعل هو ثمرة حرية الاختيار .. في العلاقات المعشرية يجد الإنسان ذاته عبر الآخر، الآخر، صديق رفيق في حزب زميل في نقابة عضو في تظاهرة فاعل في إضراب. بلا علاقات معشرية يغترب الإنسان عن ذاته.

السلط العربية عبر رعبها من العلاقات المعشرية وبخاصة العلاقات المعشرية ـ السياسية حولت الفرد العربي إلى فرد منعزل مغترب زرعت فيه الخوف من العسس ومن المخبرين، وهكذا ـ شيئاً فشيئاً ـ فرضت عليه الشعور بالعزلة والاهتمام بالزائف. كائن يعيش بلا حزب، بلا نقابة، بلا جمعية، بلا ناد، بلا تظاهرة، بلا إضراب، بلا احتجاج، بلا حرية اختيار، كائن مغترب عن ماهيته.

الثورة العربية وهي تحطم هياكل الخوف، وجدران العزلة وقضبان سجون الزيف، تحرر الإنسان العربي من عزلته الزائفة من اغترابه وتعيده إلى الحياة المعشرية، تعيده إلى حقيقته، إلى ذاته.

الثورة العربية وهي تحطم حالة الخوف، إنما تقضي على اغتراب الإنسان في الكذب. فبسبب الخوف من عسف السلطة وقمعها تحول العربي إلى عالم التقية. التقية التي كانت ثقافة أقلية تخشى التصريح بعقائدها وتقول بعكس ما تؤمن صارت ثقافة الأكثرية، صار الكذب ثقافة عامة، ما عاد يسبب تأنيب ضمير لأنه منجاة من عقوبة الصدق. والإنسان إذا اغترب في الكذب اغتربت معه الحقيقة. إذ لا تعايش بين الخوف والحقيقة، لأن الحقيقة قول صريح مطابق للواقع. لقد أدمن الحاكم العربي سماع القول الكاذب، ومع الأيام صار يحب الكذب، وما عاد يقبل إلا الكذب وهو يعرف أنه كذب. حالة من أغرب حالات التاريخ. الكاذب يعرف أنه يكذب، والحاكم يعرف أن الكاذب يكذب، والكاذب يعرف أن الحاكم يعرف انه يكذب، والحاكم يعرف أن الكاذب يعرف أنه يكذب، وهكذا صارت ثقافة الكذب عامة في علاقة السلطة بالمجتمع.

البشر وهم يخرجون اليوم رافعين شعار الصدق يعلنون الثورة، وانتصار ثقافة الصدق على ثقافة الكذب. الثورة أكبر إعلان، لانتصار الحقيقة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2178802

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178802 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40