الجمعة 12 آب (أغسطس) 2011

ثورة.. في ما عدا السياسة الخارجية؟

الجمعة 12 آب (أغسطس) 2011 par د. سمير كرم

لا تكون الثورة ـ أي ثورة وفي أي مكان كانت ـ ثورة كاملة إلا إذا شملت مطالبها وقراراتها السياسة الداخلية والسياسة الخارجية على السواء، وعلى قدم المساواة إذا جاز التعبير.

ربما يحق لنا أن نستنتج أن هذه القاعدة لم تنطبق وتصبح واجبة التنفيذ إلا منذ تفجر ثورة أكتوبر الاشتراكية المسماة بالثورة البلشفية عام 1917. أما قبل ذلك فان الثورات كانت شأناً داخلياً يتعلق بإزالة الظلم والطغيان والفقر والتفاوت الرهيب في مستويات المعيشة بين المواطنين.

ابتداء من الثورة البلشفية، وبعد أن كانت الامبريالية قد فرضت سطوتها العالمية وشملت روسيا والبلدان المحيطة فارضة هيمنتها العالمية، لم يكن بمكان للثورة أن تنجح في روسيا إلا إذا استطاعت أن تجتاز حروب التدخل من الدول الامبريالية من جهة، وأن تخلق جبهة عالمية مناهضة للامبريالية تحميها وتحمي تطورها الداخلي من الجهة الأخرى. وقد استمرت الامبريالية العالمية، حتى عندما تلخصت في الدولة الأعظم الأميركية، تناوئ الثورة الروسية إلى أن سقط النظام السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن العشرين. أي أن تحدي الثورة الروسية «الاشتراكية» استمر لأربعة وسبعين عاماً بلا انقطاع.

لم يكن هذا واقع الحال بالنسبة للثورة الفرنسية أو الثورات التي اجتاحت أوروبا بعد ذلك. لكنه بالتأكيد كان حال الثورة الصينية وبعدها الثورة المصرية ـ ثورة يوليو/تموز عام 1952، إلى لحظة خنقها بتوقف قلب جمال عبد الناصر عن النبض. كانت السياسة الخارجية جزءاً لا يتجزأ من مبادئ (أهداف) هذه الثورة الستة، وظلت جزءاً أساسياً من قراراتها وصراعاتها من البداية إلى النهاية.

فماذا يمكن الآن أن يقال عن ثورة 25 يناير /كانون الثاني المصرية، التي تفردت عن الثورات الماضية بجماهيريتها وغياب الجسم القيادي الذي يمسك بين يديه قرارات الثورة ويوجّه صراعاتها؟

كان المفروض أن نتصور أن الدور الذي اختاره لنفسه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في هذه الثورة ـ عندما قرر بصورة قاطعة انه لن يتدخل ضد جماهير الثورة بل سيقف معها مؤيداً لمطالبها وقراراتها ـ يفرض عليه دوراً شبيهاً بدور مجلس قيادة ثورة تموز 52. دور يعوض عن غياب القيادة المركزية للثورة ويعي الأبعاد الخارجية لمبادئها حتى إن غابت عن النصوص الثورية ولم تظهر إلا في صورة هتافات عالية الرنين في ميادين التحرير المصرية في أنحاء البلاد.

لكن أحداث الشهور الماضية منذ تفجر هذه الثورة والدور المتميز الذي اختاره لنفسه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تقدم أدلة كثيرة على أن (1) «ائتلافات الثورة» وجماهيرها أغفلت بشكل ما البعد الخارجي من سياسات الثورة بعد الإطاحة برئيس النظام السابق (2) المجلس العسكري اعتبر أن الثورة وجماهيرها تركت له مهمة تحديد مسار ـ أو مسارات ـ السياسة الخارجية لمصر الثورة.

اما ان ائتلافات الثورة وجماهيرها قررت ـ أو بالأحرى من دون قرار ـ ان لا تشغل نفسها بدور السياسة الخارجية لأسباب غير مفهومة حتى الآن، فهذا أمر يمكن استبعاده منذ البداية. فقد طفت على سطح الأحداث قضايا سياسية خارجية اتخذت فيها ائتلافات الثورة وجماهيرها مواقف واضحة، بل الأهم مواقف ثورية ترفض مسارات النظام القديم: (أ) رفض اتفاق تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل واعتباره خيانة للحقوق المصرية وتفريطاً في مصالح وثروة الشعب المصري (ب) التحريض وليس فقط المطالبة برفع الحصار المصري على غزة باعتبار ذلك احد التنازلات المهينة التي سلمها النظام القديم لـ «العدو الإسرائيلي» ضد الشعب الفلسطيني الشقيق الذي ارتبطت نضالات مصر لعشرات السنين بتأييده مهما كانت التضحيات (ج) الدعوة الصريحة التي ترددت على المنصات المختلفة لميدان التحرير لضرورة إعادة النظر في اتفاقات «كامب ديفيد» برمتها، باعتبار ذلك حقاً وواجباً للشعب المصري بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على توقيعها، وما ثبت خلال هذه المدة من حكم نظام مبارك أن دور كامب ديفيد كان الأكبر والأوضح في دفع مصر إلى التراجع قومياً وإقليمياً وعالمياً مع صعود نجم «إسرائيل». (د) لم يكن هناك من تعبير واضح ومحدد عن السياسة الخارجية التي ترتضيها الثورة، كذلك الذي رحب بتولي نبيل العربي منصب وزير الخارجية في حكومة الثورة. ولا تزال علامات الاستفهام مرفوعة بوجه «نقل» نبيل العربي إلى منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية على الرغم من الحماس الوطني العارم الذي قوبل به اختياره وزيراً لخارجية الثورة. ولقد كان بالإمكان العثور على من يماثل العربي لشغل هذا المنصب ولكن المجلس العسكري الأعلى اختار غير ذلك. (هـ) الاستجابة الايجابية والمرحبة التي حظي بها نداء العربي في الفترة الوجيزة التي تولى فيها منصب وزير الخارجية لإعادة النظر في حالة اللاعلاقات القائمة بين مصر وإيران، باعتبار أن هذا وضع لا يتفق مع سياسة مصر ولا مصالحها ولا دورها القومي. والأمر المؤكد أن هذا النداء تراجع من دائرة الضوء إلى الظلام الدامس منذ انتقل العربي من الخارجية إلى الأمانة العامة للجامعة العربية، وإن كانت المحاولات الشعبية مستمرة في شكل زيارات لطهران تؤكد الترحيب والإيجابية في الموقف الإيراني.

لكن هذه المؤشرات الحازمة والحاسمة إلى سياسة خارجية تختلف عن سياسات النظام القديم لم ترق ـ فيما يبدو ـ في نظر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى ثوابت محددة له، لرسم سياسة خارجية ثورية لمصر تبتعد بها عن السياسات التي انتهجها نظام مبارك فجعلت منه كنزاً استراتيجياً لـ «إسرائيل» وكنزاً استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً للولايات المتحدة، كانت تود لو احتفظت به لثلاثين سنة أخرى يكفلها عامل التوريث.

فهل يعتقد المجلس الأعلى العسكري انه يتعامل مع نصف ثورة، أم انه يعتقد أن السياسات الخارجية التي انتهجت طوال عهد مبارك وقبل ذلك في عهد أنور السادات يمكن أن تتواءم مع تفكير الثورة المصرية والثوار، وبالتالي لا حاجة إلى تغييرها؟ أم أن المجلس يعتقد أن لديه تفويضاً ـ وان لم يكن مكتوباً ـ في انتهاج ما يراه سياسة خارجية لمصر الثورة؟

ثمة دلائل تؤكد أن المجلس يعتبر أن العلاقات مع الولايات المتحدة غير قابلة للتغيير بل غير قابلة لإعادة النظر. وقد دلت تطورات الفترة التي انقضت منذ انهيار نظام مبارك على أن الولايات المتحدة قررت انه لا مناص من الاستغناء عن النظام القديم، وان هذه الحتمية لا ضرر منها إذا أمكن إقناع مصر بالمحافظة على العلاقات الأميركية - المصرية في المسارات الأساسية نفسها التي سارت فيها طوال أكثر من أربعين عاماً.

وتؤكد هذه الدلائل بالمثل أن الولايات المتحدة تعتبر أن الجوانب العسكرية من العلاقات بين مصر وبينها هي أكثر المسارات أهمية. فهي تستطيع أن تتردد بشأن قرارات اقتصادية تتعلق بكيفية التعامل مع أزمة مصر الاقتصادية الراهنة، وفي ضوء أزمة أميركا الاقتصادية الراهنة التي تفوق كل أزماتها السابقة، لكنها لا تستطيع أن تتردد بشأن الروابط العسكرية الوثيقة التي تربط مصر بأميركا والتي تتعلق، ليس فقط بالدور الذي تريده الولايات المتحدة لمصر، إنما تتعلق بالدور الأميركي في «الشرق الأوسط» في جوانبه الإستراتيجية التي تشمل علاقات أميركا بكل من «إسرائيل» والمملكة العربية السعودية ودويلات الخليج، التي تربطها بالولايات المتحدة قواعد عسكرية لها شأن كبير في حرب العراق وما قد يأتي فيما بعد من حرب ضد إيران.

ولقد تعمدت الولايات المتحدة إسدال أستار الصمت على الموعد القادم لمناورات النجم الساطع التدريبية، التي تعد أطول المناورات الثنائية عمراً خارج إطار حلف الأطلسي. وهو أمر ليس له تفسير إلا شعور الهيئات الأميركية المعنية بأن هذه المناورات لا يمكن أن تحظى بتأييد من جماهير الثورة المصرية إذا صدر أي بيان بشأنها، بينما الثورة لا تزال تملك حق النزول في الميدان. وبطبيعة الحال فإن الهيئات المعنية في مصر تلتزم الصمت نفسه كسياسة رسمية بشأن هذه المناورات وليس بمستبعد أن تؤجل أو تلغى لهذا العام.

من ناحية أخرى فقد تزامن في أواخر الشهر الماضي وجود شعبي ـ هو الثاني ـ من مصر في إيران لجس النبض بالنسبة لموقف إيران فيما يتعلق بتحسين العلاقات بين البلدين في مواجهة الظروف الإقليمية الراهنة، مع وجود احد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هو اللواء محمد العصار في واشنطن في مهمة لم يعلن عن طبيعتها أو أية تفصيلات تتعلق بها في أي من القاهرة أو واشنطن. كما تزامن مع وجود اللواء مراد وافي رئيس المخابرات العامة المصرية في واشنطن «لبحث بعض القضايا الإقليمية بجانب مناقشة عملية التحول الديموقراطي التي تمر بها مصر حالياً». وهنا يلاحظ اختفاء تعبير الثورة في وصف «ما يحدث الآن في مصر». وقد اختفى أيضاً من تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بعد لقاء مع اللواء موافي أشارت فيه إلى طلب الولايات المتحدة من الجيش المصري «السماح بالتحول للديموقراطية». وفي واشنطن قال اللواء العصار في كلمة «أمام احد مراكز الأبحاث» (لم تعلن هويته على وجه التحديد) «إن حكومة تسيير الأعمال لا تنوي إصلاح العلاقات مع إيران حالياً، لكن مع تولي السلطة حكومة منتخبة سيتعين التجاوب مع الرأي العام».

ولا يخفى أن تصريح اللواء عضو المجلس الأعلى العسكري معني بطمأنة الجانب الأميركي إلى أن المجلس ليس بصدد تنفيذ ما كان قد أعلنه نبيل العربي وقت أن كان وزيراً للخارجية.

وفي هذه الحدود قد تبدو المسألة قابلة للاحتمال أو التغاضي من جانب الثورة. لكن الأمور تبدو أعقد من ذلك بكثير. فالمنطقة التي تشمل مصر وإيران تبدو مقبلة على حالة اشتعال شاملة. والاستخبارات الأميركية ـ إن بصفة غير رسمية ـ تشيع تهديدات «إسرائيل» بشن هجوم عسكري على إيران، بل وتذهب إلى أن «إسرائيل» إنما ترمي إلى توريط واشنطن في هذه الحرب. في الوقت نفسه، فإن «إسرائيل» هددت بشن حرب على لبنان إذا سعى إلى تنفيذ ما يراه حقوقه الوطنية في الغاز الطبيعي المكتشف على المناطق المجاورة للمياه الإقليمية «الإسرائيلية». الأمر الذي دفع الأمين العام لـ «حزب الله» إلى تهديد «إسرائيل» بهجمات واسعة النطاق إذا أقدمت على الاستيلاء على ما هو ثروة تخص لبنان. بل نشرت على نطاق واسع أنباء تفيد أن «إسرائيل» «تستعد لتوترات محتملة على الحدود السورية»، وهي إشارة واضحة إلى احتمال أن تستغل «إسرائيل» الأوضاع الراهنة في سوريا لشن هجوم عليها.

كيف يمكن أن يكون رد فعل الثورة المصرية على أي من هذه الاحتمالات المشحونة بأخطار تتجاوز كثيراً حدود إيران أو لبنان أو سوريا؟

كلها أمور تتعلق بالسياسة الخارجية. فهل ينتظر المجلس الأعلى للقوات المسلحة رد الفعل من جانب الهيئات المعنية في أميركا التزاماً بما هو قائم من اتفاقات وتنسيق بين الجانبين؟ أم انه سيتحسس نبض الثورة من ردود فعلها إزاء هذه الأخطار؟ أم انه سيحاول أن يسلك طريقاً وسطاً بين هذا وذاك؟

الثورة بدون سياسة خارجية خاضعة لمبادئها وأهدافها هي نصف ثورة. وليس صحيحاً بأي مقياس أن الثورة المصرية اختارت أن تترك السياسة الخارجية جانباً. فهي شأن اخطر من أن يترك بغير قرار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010