الجمعة 3 حزيران (يونيو) 2011

«إسرائيل» بين شقي الرحى : مصر وإيران

الجمعة 3 حزيران (يونيو) 2011 par د. سمير كرم

مهما كانت ردود الفعل «الإسرائيلية» العلنية إزاء السياسات الجديدة التي بدأت تمارسها مصر الثورة فيما يتصل بالعلاقات مع إيران، فإن من المؤكد أن إعلان التوجه إلى إيران من اجل علاقات ايجابية هو أكثر صدمة لـ «إسرائيل» وللساسة «الإسرائيليين» في الجانب غير المعلن منه.

حتى إن حاولت «إسرائيل» إبقاء هذه الصدمة مخفية في الجانب الأكبر منها، خاصة بعد صدمات وجهتها إليها السياسة الخارجية الجديدة لمصر في الأسابيع الأخيرة، فإن إشراك الولايات المتحدة بصورة او بأخرى في تكوين رد فعـل أميركي ـ صهيوني واحد إزاء الموقف المصري ليس من شأنه أن يفصح عن عمق القلق الذي ينتاب «إسرائيل» وحلفاءها الأميركيين مــن هذا الإقدام من جانب مصر الثورة على التوجه نحو إيران شعبياً، وبعد ذلك رسمياً، لرسم صورة جديدة للعلاقات بينهما.

وليس هذا فقط، لأنه لا تزال في مصر بعض القوى التي تجد مصلحة لها في استمرار العلاقات الإيرانية ـ المصرية على الجانب السلبي الذي توقفت عنده طوال ثلاثين عاماً هي عمر النظام القديم الذي أطاحت به مصر في هذه الثورة. والأمر المؤكد أن اللجوء إلى إيفاد وفد شعبي مصري إلى طهران كطليعة للتصافح الدبلوماسي الرسمي هو رد عبقري في ثوريته على اعتراضات المعترضين في الداخل الذين أرادوا أن يكون لهم صـوت شعبي ضد هذا التوجه. كانت «إسرائيل» تحقق فائدة مزدوجة من ابتعاد مصر النظام القديم الساقط عن علاقات ايجابية مع إيران، إذ كانت «إسرائيل» ترمي إلى إضعاف كل من مصر وإيران معاً في وقت واحد بسياسة توسيع الهوة بينهما.

ولولا أن مصر الثورة ـ بما فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة ـ تدرك أهمية قرار العودة إلى علاقات ايجابية مع إيران، أياً كانت تحفظات المتحفظين على ذلك في الداخل أو من الخارج، لكان من اليسير تأجيل هذه الخطوة الشعبية المتعددة الأطراف التي تكاد أن تمثل كافة القوى السياسية على الـساحة المصرية الآن. ولولا أن إيران أظهرت ما يكفي من اهتمام بهذه الخطوة لكان من اليسير أيضا إرضاء الولايات المتحدة على الأقل، خاصة في وقت تبدي فيه الأخيرة اهتماماً بمساعدة مصر اقتصادياً على تجاوز الصعوبات التي جدّت نتيجة أحداث الثورة.

وقد تبين هذا بوضوح في تصريح مهم أدلى به وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي وصف فيه قضية الدبلوماسي الإيراني في قسم رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، الذي وجه إليه اتهام بالتجسس على مصر، بأنها عولجت بسرعة وأنها نتجت عن سوء فهم، وأضاف أن طهران والقاهرة تسيران على طريق إقامة علاقات دبلوماسية بينهما، وينبغي السير في عملية تحسين العلاقات بين البلدين. وأضاف صالحي، على هامش اجتماع لمجلس الوزراء الإيراني، «المصريون يواجهون ضغوطاً نتفهمها في ظل الظروف الراهنة، لكن وجهة نظر الحكومة المصرية والشعب المصري العظيم تقوم على تعزيز العلاقات مع إيران بصورة إجمالية».

وما لم يصرح به الوزير الإيراني صالحي، ولكن من السهل استنتاجه من كلامه، هو أن إيران لن تكون بحاجة إلى الاستعانة بأساليب تعتبرها القاهرة غير قانونية حين تقام العلاقات الكاملة بين البلدين. وقد اضطرت سفيرة الولايات المتحدة في القاهرة، لإبعاد شبهة انضمام بلادها إلى «إسرائيل» تلقائياً في الاعتراض على التقارب الذي بدأ بين القاهرة وطهران، لأن تصرح بما أثار دهشة الأوساط الدبلوماسية وكذلك الشعبية في العاصمة المصرية، وهو قولها إن الولايات المتحدة لا تعترض على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران، وان كانت قد حرصت على التأكيد بان لدى الولايات المتحدة أسبابها للقلق إزاء السياسات الإيرانية في المنطقة.

إنما يلاحظ أن تصريحات السفيرة الأميركية في القاهرة أنها جاءت بعد أن أكدت الخارجية المصرية انه ليس من المنطقي أن تعترض الولايات المتحدة أو دول الخليج العربية على إعادة العلاقات بين مصر وإيران بينما هذه الدول تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع طهران بل وتقوم بينها علاقات تجارية مزدهرة لما فيه فائدة هذه الأطراف جميعاً (...).

لقد استطاعت القاهرة باتخاذ خطوة إرسال الوفد الشعبي إلى طهران أن تؤكد حقيقة مسعاها تجاه إيران وانه يتمتع بتأييد شعبي داخل مصر، الأمر الذي يعطيه كل المشروعية والمصداقية اللازمة للخطوات المنتظرة التالية. إن الخطوة المصرية تجاه إيران تعلن للولايات المتحدة ـ ولـ «إسرائيل» ضمناً ـ أن مصر هي صاحبة القرار في علاقاتها الخارجية وبالأخص العلاقات الإقليمية، الثنائي منها والمتعدد الأطراف. والأمر المؤكد انه يمكن اعتبار علاقات مصر وإيران علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف في وقت واحد نظراً لأنها تهم كل بلدان «الشرق الأوسط» العربية والإسلامية. فضلاً عن أنها تخلق جواً عاماً في المنطقة أكثر ايجابية وأميل للتعاون الإقليمي منه إلى نظرة العداء والخصومة التي سعت «إسرائيل» بتأييد من الولايات المتحدة إلى بثه كالسم أو الهواء الفاسد في المنطقة.

وإذا ما وضعنا جانباً هذا الجو العام ـ على أهميته في ظروف الربيع العربي القائمة وما يواكبها من تطورات بعضها حدث وبعضها لا يزال مرتقباً ـ فإننا لا نستطيع أن نتجنب حقائق أساسية بعينها في مسألة العلاقات بين إيران ومصر الثورة. وبداية ليست هناك دول في المنطقة أو حولها يمكن أن تعد أكثر تناقضاً مع «إسرائيل» من مصر وإيران، خاصة من الجوانب العقائدية والثقافية والإستراتيجية. وهذه حقيقة تاريخية منذ نشأة الدولة الصهيونية. لهذا حرص الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة على أن يفرض علاقات تحالف وثيقة ضد كل الاعتبارات الموضوعية والتاريخية بين «إسرائيل» وإيران الشاه. كان ذلك بمثابة سد في وجه القومية العربية في نضالها ضد التوسع الصهيوني.

وبالمعنى نفسه لا توجد دولة أكثر توافقاً مع إيران مثل مصر، خاصة الآن بعد الثورة أي بعد تحرير إرادة مصر السياسية والقومية من الهيمنة الأميركية الصهيونية. هذا على الرغم من أن خلافات صغيرة قابلة للحل يمكن أن تنشأ بين حين وآخر كما بين أي دولتين لهما مصالح كبيرة في منطقة عريضة واسعة الامتداد والثروات وذات أهمية إستراتيجية تجعلها محط أنظار العالم الغربي. ولقد زال بزوال حكم الشاه في إيران كل سبب للتناقض بين توجهات وسياسات ومصالح إيران والعرب ـ وفي مقدمتهم مصر ـ ولكن وجود نظام «الشاه المصري» حال بسبب الرضوخ الكامل لـ «إسرائيل» ولأميركا دون تطوير وإنماء العلاقات والمصالح المصرية - الإيرانية وفي كثير من الحالات العربية ـ الإيرانية. لكن ما أن انهار نظام مبارك حتى لاحت رغبة ثورية مصرية وعربية بعد ذلك لوئام في العلاقات والمصالح يتجاوز كل التناقضات التي خلقت عمداً بين مصر وإيران منذ تفجر الثورة الإسلامية في إيران.

لقد زال كل سبب مختلق أو مفروض من الخارج لحساب المصالح الصهيونية لتناقض العلاقات والمصالح بين مصر وإيران بزوال العهد القديم ولم تمض سوى شهور قليلة حتى كان وزير الخارجية المصري نبيل العربي يعلن على العالم أن مصر تفكر جدياً في تحسين علاقاتها مع إيران. ولم يمض أي وقت بعد ذلك حتى كانت إيران تعلن أنها مستعدة بل ومرحبة بهذا التوجه المصري.

أما وقد اتخذت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه فإن بالإمكان القول من دون أي خشية من الوقوع في المبالغة أو حتى الخطأ انه سيكون من الصعب على أي دولة أو كتلة ـ بما في ذلك كتلة الصهيونية الأميركية ـ «الإسرائيلية» أن تكون ضد إيران ومصر في وقت واحد. سيكون من الصعب أن لم نقل من المستحيل أن تقوم محاولة لعزل مصر في «الشرق الأوسط» وهي على علاقة ايجابية في الاتجاهين مع إيران، كما سيكون من الصعب الاستمرار في سياسة عزل إيران في «الشرق الأوسط» بينما هي ترتبط بعلاقة ايجابية متينة مع مصر.

نستطيع حتى أن نقول أن الاتجاه نحو عهد جديد من العلاقات بين مصر وإيران سيزيل خطر التهديد «الإسرائيلي» والأميركي الموجه إلى إيران. وهنا نحن لا ندّعي أن تحالفاً عسكرياً سينتج عن استئناف العلاقات بين طهران والقاهرة. ولكن ثقل مصر في موازين المنطقة مع ثقل إيران كفيلان بإرغام أي مصدر للتهديد على التراجع وإعادة الحسابات مرة وثانية وثالثة. ولقد وعت كل من الولايات المتحدة و«إسرائيل» أن إيران ليست لقمة سائغة للقوة العسكرية الأميركية أو «الإسرائيلية» أو هما معاً. ولهذا ساد التردد مواقفهما وسادت سيادة إيران على أرضها وسياساتها. ولا شك أن توثيق الروابط بين إيران ومصر في عهد الربيع العربي يفرض على التحالف الأميركي ـ الصهيوني واقعاً جديداً يضاعف تردده ويجعل من التهديد مشهداً هزلياً أمام أعين الشعبين العريقين.

لن تستطيع دول الخليج العربية أو الشمال الإفريقي المغاربي أو الدول الإسلامية غير العربية كأندونيسيا وباكستان وماليزيا وحتى أفغانستان، في حضرة الربيع العربي بكل ما يعنيه من اعتبارات، أن تنحاز إلى التحالف الأميركي ـ الصهيوني ضد إيران بينما تبقى مصر في علاقاتها الجديدة مع إيران صامتة جامدة. هذا العهد دخل طريق النهاية. كما لن تستطيع أن تنحاز ضد مصر في مواجهة أي خطر يهددها.

يكاد يكون من المؤكد من الآن أن يبحث طرفا التحالف الأميركي ـ الصهيوني، وأية دول ترتبط به لاعتبارات إستراتيجية أو اقتصادية أو سياسية ممن ترتبط بالدبلوماسية الأميركية في اندفاعها صوب المصالح الصهيونية و«إسرائيل» ـ سواء في أوروبا أو الشمال الأميركي (كندا) أو في اليابان أو كوريا الجنوبية على سبيل المثال لا الحصر ـ عن سياسة بديلة تجاه مصر وتجاه إيران بعد أن تنجح الخطوات التالية المنتظرة في إقامة علاقات سوية قوية بين اكبر دولتين في إقليم «الشرق الاوسط» من حيث وزن كل منهما السكاني والاستراتيجي والاقتصادي والثقافي والسياسي.

ولن تستطيع دول الغرب كلها ـ ونحسب «إسرائيل» ضمنها ـ أن تستمر في ضوء العلاقات الكاملة السوية بين مصر وإيران في انتهاج سياسة عدوانية وتوسعية في مواجهة أي منهما على النحو الذي ساد خلال الأعوام الثلاثين الماضية : محاولة قمع أي سياسة متحررة من جانب مصر عن طريق دعم وتشجيع النظام القديم وفرض سياسات الأمر الواقع «الإسرائيلي» عليه، ومحاولة خنق سياسة الثورة الإيرانية بإطلاق اتهامات لا تستند إلى أسس صحيحة سواء فيما يتعلق بالملف النووي أو بسياسات إيران الخارجية بمحيطها العربي.

سيعمد بعض الأطراف داخل مـصر وفي خارج إيران إلى تركيز الحديث على ما يعتبرونه في حده الأقصى القضايا الخلافية التي تفرق بين مصر وإيران وفي حده الأدنى نقاط الخلاف بين إيران ومصر. وذلك على أمل استمرار سياسة الابتعاد والفراق بين القاهرة وطهران. ولكن الدلائل الموضوعية القوية تشير إلى أن الجانبين عازمان على التوصل إلى اتفاق لا بد منه في رأي الغالبية الشعبية في مصر الثورة والغالبية الشعبية في إيران الثورة على أن مصلحة الشعبين والدولتين والثورتين تفرض الوصول إلى نقطة النهاية: الأحرى أن نقول إلى نقطة البداية التي تصنع بالفعل «شرق اوسط» جديداً متحرراً من الأطماع الصهيونية ومن الجشع الامبريالي الأميركي. «شرق اوسط» تقع فيه «إسرائيل» كما لم تقع من قبل بين شقي الرحى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2181815

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2181815 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40