الثلاثاء 31 أيار (مايو) 2011

كيف ستبدو الانتفاضة الثالثة؟

الثلاثاء 31 أيار (مايو) 2011 par عوض عبد الفتاح

لا يزال السؤال، لماذا توقفت الثورة العربية الكبرى على أبواب فلسطين؟ يتردد في كل مكان. وقد وجدت هذا السؤال يواجهني أينما حللت أثناء جولة اللقاءات والمحاضرات التي قمت بها في عدد من الولايات الأمريكية. فالفلسطيني والعربي والأمريكي يطرحون نفس السؤال. كما ويطرح من هو مطلع على واقع فلسطينيي الـ 48، حاملي المواطنة «الإسرائيلية»، السؤال : «كل هذا العداء، وسيل القوانين العنصرية، والهدم، وليبرمان الذي يريد تهجيركم، أليس كافياً للخروج بمظاهرات عارمة تعبّر عن غضبكم ورفضكم؟».

لا شك أن هذا السؤال سواء فيما يتعلق بفلسطينيي الـ67 أو فلسطينيي الـ 48 وجيه وشرعي ونتداول فيه منذ فترة طويلة، وتنبع وجاهته وشرعيته أولاً؛ من وجود ألف سبب لثورة أو لانتفاضة فلسطينية، وثانياً؛ من حاجة الشعب الفلسطيني إلى الحرية والاستقلال والعدالة، ولأنه الشعب العربي الوحيد الذي سلب وطنه بالكامل والذي لم ينل استقلاله. وثالثاً؛ من وجود الحاجة لأن يلفت عرب الداخل أنظار المجتمع الدولي لوجودهم وتعرضهم لنظام قهر.

لا يقصد السائل أو السائلون معرفة الأسباب وراء تأخر الانفجار الشعبي الفلسطيني، فقط، بل يعبرون عن رغبتهم لرؤية الشعب الفلسطيني يطلق ثورته أو انتفاضته لانتزاع حقه في الحياة الحرة الكريمة.

هذا السؤال يشغل أوساطاً في النخب الفلسطينية السياسية والميدانية والأكاديمية والمثقفة. ويفترض بالإجابة أن تشمل تشخيصاً للحالة الفلسطينية، والمعيقات الماثلة أمام الانتقال من الحالة السياسية والميدانية الراهنة إلى حالة من الحراك الشعبي تتجلى فيه إبداعات وطاقات القوى المرشحة لحمل وقيادة التغيير. والأهم فإن الإجابة يجب أن تشمل تحديد الشروط والمقدمات والآليات والأساليب وكذلك الأهداف لهذه العملية.

وبطبيعة الحال، سيشمل البحث عن الطريق نحو المرحلة القادمة الإجابة عن السؤال كيف سيكون دور بقية التجمعات الفلسطينية التي إما هُمّشت أو أن الظروف همشتها في جولات المنازلة التي جرت بين «إسرائيل» والشعب الفلسطيني على مدار العقود الماضية؛ وبشكل خاص الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. وهذه التجمعات هي : اللاجئون في الشتات، وفلسطينيو الـ 48.. مع أن الأخيرين خاضوا أربعة أيام متتالية من المواجهات مع قوات القمع بصدورهم العارية مفجرين مخزوناً هائلاً من الغضب والإحباط تراكم على مدار عشرات من أعوام الظلم والقهر والتهميش وذلك في الأيام الأولى لهبة القدس والأقصى.

ولكن شروط استمراريتها لم تكن قد توفرت. ومن هذه الشروط حضور عرب الداخل في الإستراتيجية الفلسطينية. فالقيادة الرسمية كانت حددت مطلبها منهم بأن يكونوا مخزون احتياط أصوات لـ «حزب العمل» «الإسرائيلي» الموقع على اتفاقية أوسلو.

يذكر أن أحد قادة السلطة الفلسطينية لاَمَ فلسطينيي الـ 48 على «ثورتهم» بادعاء أن ذلك أخاف «الإسرائيليين» وجعلهم يترددون أكثر في التجاوب مع مطالب المفاوض الفلسطيني المحصورة بسقف أوسلو. كان ذلك في مقابلة مطولة في أكثر الصحف «الإسرائيلية» انتشاراً «يديعوت أحرونوت». وهذه العقلية وهذا التوجه كان له خلفية تمثلت في توجه بعض القادة الفلسطينيين المتنفذين إلى عرب الداخل للتصويت لـ «حزب العمل» الصهيوني، في أوائل التسعينيات باعتباره أسهل من «الليكود» في المفاوضات دون الاكتراث بالعواقب الوخيمة المترتبة على تصويت عرب الداخل للأحزاب الصهيونية بالنسبة لهويتهم الوطنية ولسلوكهم الوطني.

كل ذلك عكس قصر نظر ونهجاً كارثياً في إدارة الصراع. لم يكن لدى الحركة الوطنية الفلسطينية إستراتيجية أو رؤية بخصوص عرب الداخل. وقد يقول قائل، لم يكن أصلاً لديها إستراتيجية لتحرير البلاد ولمواجهة الاحتلال. والملفت للنظر أنه أيضاً حتى القوى التي طرحت نفسها بديلاً وفي مقدمتها حركة «حماس»، لم تأت بإستراتيجية كفاحية حقيقية وواضحة ومترابطة. فبالرغم من تضحياتها الكبيرة فإنها تبدو الآن وكأنها وصلت أو تكاد تصل إلى النقطة التي توقفت عندها القوى الوطنية التاريخية المأزومة؛ فهي غير قادرة على مواصلة التمسك بخيارها الإستراتيجي؛ تحرير كل فلسطين، ولا بطريق المقاومة أو الانتقال إلى نمط جديد من المقاومة، وذلك بسبب التآمر عليها من جهة، وبسبب إخفاقها في قراءة معطيات التاريخ والواقع بصورة سليمة من جهة أخرى.

أما القوى اليسارية والديمقراطية التي شاركت بفعالية في الكفاح الفلسطيني ودفعت أثماناً كبيرة، فقد تحولت إلى قوى هامشية في المجتمع الفلسطيني بل تحول بعضها إلى شاهد زور على النهج الأوسلوي. لم تتمكن هذه القوى حتى اللحظة من الخروج من مأزقها الحاد وتجديد ذاتها؛ فكرها، دورها، وقياداتها. ولا يظهر حتى الآن أن الثورة العربية طالت هذه القوى، بل جرى تهميشها في أحد أهم إنجازين حفزته هذه الثورة بالنسبة للساحة الفلسطينية ألا وهو مشروع المصالحة. طبعاً الإنجاز الآخر تمثل في فتح معبر رفح. هناك من يحاول من داخل بعض الفصائل التقرب إلى الشباب باعتبارهم القوى المرشحة لقيادة المرحلة.. ولكن ذلك يحتاج إلى أكثر من النيّة الطيّبة والرغبة الصادقة.

ويمكن إيجاز بعض أهم المعيقات لإطلاق ثورة تحرّرية جديدة لإنهاء السيطرة الكولونيالية على الضفة وعلى القدس :

- الانقسام الجغرافي والسياسي بين «حماس» و«فتح»، وامتداداته العامودية والأفقية، بمعنى أن الانقسام لم يقتصر على قيادات الفصيلين وكوادرهم، بل طال القواعد الشعبية.

- الالتزام الصارم من جانب السلطة الفلسطينية ببنود اتفاقية أوسلو - خاصة الأمنية، بالرغم من تنصل «إسرائيل» من التزاماتها بها، باستثناء منح شرعية لبقائها، أي السماح لها بالبقاء على قيد الحياة.

- نشوء شرائح اجتماعية مستفيدة من واقع أوسلو، توسعت قليلاً مؤخراً بفضل سياسة «السلام الاقتصادي» التي تقودها حكومة سلام فيّاض ويشجعها نتنياهو. كل ذلك أفرز ذهنية جديدة مستكينة ومسترخية تكيفت مع ما أفرزه أوسلو من ارتباط كلي بأموال المانحين - أصدقاء «إسرائيل»، ومن ذهنية انهزامية ومفردات غريبة على حركة التحرر الوطني الفلسطيني - مثل التنسيق الأمني، وغيرها.

- تبلور قناعة أو تكريس قناعة لدى رئيس السلطة الفلسطينية بعدم جدوى المقاومة حتى لو كان طابعها شعبياً وغير مسلح والذي يتفق عليه اليوم الجميع، واستلهاماً لثورتي تونس ومصر وغيرها.

- نظام الأبارتهايد «الإسرائيلي» - الكولونيالي الطابع، الذي أقام الجدار الفاصل، والجدران الإلكترونية الأخرى، وتقطيع منطقة الضفة الغربية إلى ثلاث وعزل القدس عن محيطها، الذي من أهدافه ليس السيطرة على الأرض والمياه فحسب، بل أيضاً منع الفلسطينيين من شنّ مقاومة شعبية ناجعة. ومع ذلك تساءل صحفي «إسرائيلي»، ماذا ستفعل «إسرائيل» لو قرر عشرات الألوف من الفلسطينيين الزحف إلى الجدار وتحطيمه؟ كما تساءل صحفي آخر ماذا لو زحف مئات الألوف من اللاجئين إلى الحدود؟

هناك عامل آخر، وهو الإخفاقات المتتالية للثورات والانتفاضات التي خاضها الشعب الفلسطيني والتي بدل أن تحقق نجاحات سياسية على الأقل، أدت إلى تخفيض سقف المطالب الفلسطينية إلى درجة اختزالها في التفاوض على ما تبقى من الضفة الغربية أي على أقل من خمسة عشر بالمائة من فلسطين التاريخية.

لقد أنهكت هذه الثورات وجولات الصراع ضد الاستعمار الكولونيالي «الإسرائيلي» الشعب الفلسطيني بسبب الإدارة الكارثية للصراع أي بسبب عجز القيادة الفلسطينية عن استثمار التضحيات الجسام التي قدمها شعب فلسطين. وراحت جراء ذلك قطاعات واسعة منه تشعر بعدم جدوى النضال تحت قيادة الطبقة السياسية الحالية.

مع ذلك تمكن شعب فلسطين وقواه الحية عبر الكفاح البطولي من إحباط المخطط «الإسرائيلي» في طمس وتصفية القضية الفلسطينية، وأعادها إلى مركز الاهتمام العربي والدولي. غير أن هذا الشعب يحتاج إلى الانتصار على النظام الكولونيالي العنصري «الإسرائيلي»، يحتاج إلى الحرية ووضع حد لمعاناته الرهيبة. ونحن بحاجة إلى سَحْب قضيتنا من سوق التداول ووقف التعامل معها كأداة لتحقيق مصالح أطراف دولية أو لتعزيز نظام الهيمنة على المنطقة العربية.

[**الوضع الراهن*]

الحديث عن انتفاضة فلسطينية سبق انفجار الثورات العربية بفترة طويلة. وتصاعد هذا الحديث بعد انتخاب حكومة «إسرائيلية» يمينية متطرفة مصرة على مواصلة مشروعها الكولونيالي في الضفة والقدس بدون رتوش أو محاولات لتجميل سياستها. فوزير خارجية «إسرائيل»، أفيغدور ليبرمان يُعبّر عن الرغبة الخفيّة لنتنياهو. واتسع النقاش حول هذا الاحتمال بعد المصادمات الأولى في حيّ سلوان وإخلاء العائلات الفلسطينية من بيوتها في الشيخ جراح، وهو مخطط بُدئ بتنفيذه قبل عامين. ولكن القمع الشديد لكل تحرك فلسطيني شعبي مهما كان تواضعه من جانب الاحتلال «الإسرائيلي» في مدينة القدس ومحيطها، وهو قمع من نوع خاص، أدى إلى تفريغ القدس من الحركة الوطنية وقادتها عبر الاعتقال والطرد والحصار والخنق. كما أن سياسة التطهير والطرد أدت إلى تقليل عدد السكان العرب، وبالتالي المسّ بقدرتهم على النضال والمقاومة. كل ذلك حال دون تحوّل الصدامات المحدودة في حيّ سلوان المهدّدة بعض أحيائه بالهدم، إلى حالة شعبية مقاومة دائمة.

ولكن ما حال دون انتشار حالة من التعاطف والمساندة لمدينة القدس التي تتعرض لعملية ذبح منهجية، هو إحكام السيطرة الأمنية على مدن وقرى ومخيمات الضفة من خلال التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل»، وقرار رئيس السلطة بعدم السماح باندلاع انتفاضة حتى لو كانت سلمية.

لكن لماذا يصبح الآن الحديث عن انتفاضة أكثر واقعيّة؟

[**ما هي العوامل المستجدة؟*]

كما أسلفنا، فإن الحاجة للتغيير موجودة أصلاً. إن شعبًا يرضخ للاستبداد والاحتلال والقمع ويتعرض للقتل اليومي، لا يمكن أن يستسلم. ويتخلى عن طموحاته وعشقه للحرية، وخاصة أجياله الجديدة التي لا يمكن أن تقبل العيش مع الظلم إلى الأبد. كما أن الحكومة «الإسرائيلية» الجديدة - اليمينية المتطرفة توفر كل الأسباب لجولة جديدة من المواجهات، وأقطابها يتوقعون هذه المواجهات منذ أشهر طويلة. وسيفقد من تبقى لديه من أوهام حول دور إيجابي من الولايات المتحدة، الأمل والإحساس باللاجدوى من مواصلة التمسّك بهذه الأوهام.

لقد وضعت الثورات العربية الشعبية، المنطقة العربية على أعتاب حقبة جديدة وهي في طريقها إلى إسدال الستار على الحقبة السابقة.. مهما واجهت من مخططات للاحتواء وحرفها عن طريقها. ولن يستطيع أي طرف كان أن يمنع انطلاق القطار الفلسطيني مجدداً. إن تأخره لا يعني أنه متعطل. فمن داخل التركيبة السياسية القديمة المتهالكة يتشكل جنين يحمل بذور التغيير الواعد وسيشق طريقه بقوة الإرادة وروح التجديد. وسيكون شعب فلسطين مستعداً لتحمل المعاناة والتضحيات كما فعل دائماً.

لقد أدت الثورات العربية إلى إعادة إحياء الأفكار الجريئة والمبتكرة التي لم ينظر إليها بجدية في السابق، مثل فكرة زحف اللاجئين إلى الحدود. من كان يتصور حتى قبل فترة قصيرة أن يقدم المئات من أبناء اللاجئين الفلسطينيين الذين لم يروا أرض فلسطين من قبل أن يقتحموا بشجاعة نادرة أخطر نقطة حدود المعروفة أنها منطقة ألغام؟ ثم إن الحراك الشبابي وإن لا زال حتى الآن محدوداً، كان قد انطلق بفعل ثورات الشباب العربي. لقد بدأت «إسرائيل» تضع هذا التطور ضمن المخاطر الإستراتيجية التي تواجهها منذ بداية العقد الأخير.

إذًاً نحن الآن أمام معطيات جديدة مساعدة على إحداث التغيير على ساحة الصراع ضد نظام الأبارتهايد الكولونيالي «الإسرائيلي». وهذه المعطيات هي : العودة التدريجية للبعد العربي للقضية الفلسطينية؛ دخول عنصر اللاجئين في الفعل الثوري أو الحراك باتجاه الوطن، وهو عنصر جرى تهميشه في اتفاقيات أوسلو، ولا تزال المؤامرة عليه على أشدها، وهو عنصر باغت «إسرائيل» المحتارة الآن في كيفية الردّ عليه دبلوماسياً وسياسياً، تاركة للردّ الأمني الخيار الوحيد. سيعمق هذا الخيار البربري أزمة «إسرائيل» الدولية لأنه سيفتح الجرح من جديد، جرح التطهير الإثني الذي دأبت «إسرائيل» على إخفائه لعشرات السنين. بفضل ذلك ستعود الرواية الفلسطينية إلى الضمير العالمي مجدداً بقوة، وستظهر عندها الرواية الصهيونية أكثر عرياً.

المعطى الآخر، هو مشروع المصالحة الذي بدأ، والذي من شأنه إذا ما أجاد الطرفان استكماله على أساس برنامج سياسي وطني أن يُعيد الاعتبار للحركة الوطنية الفلسطينية ودورها التحرري وبعيداً عن المحاصصة والهيمنة.

هذه المعطيات جميعها، هي الحاضنة الاجتماعية والسياسية والمعنوية لتحول جذري قد نرى انطلاقته في أي لحظة، إما بصورة تدريجية وهو الاحتمال الأرجح، أو بصورة فجائية وشاملة.

[**معالم الانتفاضة الثالثة*]

مما تقدم، لن تكون الانتفاضة الثالث مقتصرة على الضفة والقدس، كما كانت الانتفاضة الأولى عام 1987 أو الانتفاضة الثانية عام 2000. لقد هيأت «إسرائيل» دون أن تدري، بسياساتها الحمقاء، ورفضها الحدّ الأدنى من المطالب الفلسطينية، وتصعيد قمعها بصورة غير مسبوقة منذ السبعينات، هيأت لحالة فلسطينية شاملة آخذة بالترابط والتواصل والتفكير المشترك.

في الانتفاضة الأولى والثانية شارك الفلسطينيون في «إسرائيل» في الأيام الأولى وبصورة سليمة، ولكن القمع الوحشي وإطلاق النار وقتل المتظاهرين، ردع الجمهور الفلسطيني داخل الخط الأخضر عن الخروج إلى الشوارع بأعداد كبيرة مما أوقف عملية التفاعل الفعلية مع النضال الفلسطيني. ولكن التفاعل بدأ يتخذ أشكالاً معنوية وثقافية أدت إلى تعميق الوعي السياسي - الوطني والقومي والانتماء للشعب الفلسطيني وللأمة العربية والتفاعل مع نضالاتهم. وقد حالت أسباب موضوعية وذاتية دون تحول هذا الوعي إلى حالة كفاحية منظمة ودائمة وفاعلة في نقاط الاحتكاك - حيث نهب الأراضي وهدم البيوت وغيرها من الممارسات العنصرية والعدائية والقمعية. الأسباب الموضوعية هي غياب حالة سياسية منظمة لدى فلسطينيي الداخل (1948). حتى الآن لا يوجد لدينا مؤسسات اقتصادية مستقلة تُخفف من الاعتماد على الخدمات الاقتصادية، فالإستراتيجية «الإسرائيلية» قامت منذ البداية على تحطيم البنية الاجتماعية - الاقتصادية التقليدية حتى لا تتوفر للحركة الوطنية في الداخل إمكانية التحول إلى حالة سياسية فعلية تقود نضالاً فعالاً وضاغطاً على النظام «الإسرائيلي» العنصري.

العامل الذاتي، هو عجز وتأخر بعض القوى السياسية المركزية في فهم مقتضيات المرحلة الراهنة التي وصل إليها عرب الداخل، سواء بالنسبة لحاجتهم الداخلية للتبلور والتنظم كمجموعة قومية، أي حاجته لمرجعية وطنية منتخبة تتبنى إستراتيجية نضالية حقيقية ورؤية سياسية وطنية وديمقراطية لموقع ومستقبل فلسطيني الـ 48 في النضال الوطني والديمقراطي الذي يخوضه شعب فلسطين ومعه أحرار العالم من أجل تحقيق العدالة.

[**طابع الانتفاضة الثالثة*]

من الواضح أن طابع الانتفاضة الثالثة سيكون طابعاً أقرب إلى الانتفاضة الأولى وإلى الانتفاضات العربية التي أسقطت الاستبداد. وهو ما تجمع عليه غالبية القوى المركزية في الساحة الفلسطينية. لقد تأكد اليوم للجميع أن الانتفاضة الأولى لم تحقق غايتها في دحر الاحتلال ليس لأنها كانت غير عنفية. بل لأن طريقة التدخل من قيادة الخارج كانت تخريبية. لقد عبّرت تلك الانتفاضة عن مستوى حضاري عالٍ ومستوى عالٍ من الانضباط والالتزام بوسائل النضال المحددة آنذاك رغم أن المواثيق الدولية تُجيز للواقع تحت الاحتلال اللجوء إلى العنف الثوري وهو محفوظ للشعوب، تلجأ إليه متى تعتقد أنه يُفيدها، وتعلقه متى تعتقد أنه يضرها. وأحياناً تجمع بين الوسائل المختلفة من النضال إذا ما قررت قيادتها أنه ضروري.

إن ما سيشجع وما يهيئ لولوج كافة التجمعات الفلسطينية إلى الانتفاضة الثالثة، عدة عوامل؛ أولاً الطابع الشعبي غير العنفي المجمع عليه من كافة القوى الفلسطينية. ثانياً؛ إصرار ومواصلة «إسرائيل» تصعيدها لعدائها في إجراءاتها القمعية لكافة التجمعات الفلسطينية، فهي لا تفرق بين فلسطينيي الـ 48 وبقية الفلسطينيين في ممارستها. فهذا الجزء من شعب فلسطين أصبح جزءاً من «العدو الفلسطيني»، في نظر «إسرائيل»، وستدرك تلك الشرائح منه المرتبطة مصلحتها بالنظام «الإسرائيلي» أهمية وقوفها الفعلي في خندق النضال ضد هذا النظام والتفاعل مع نضالات إخوتهم الفلسطينيين وأقربهائهم في المخيّمات الراغبين والمصرّين على العودة إلى وطنهم الذين شُرّدوا منه عنوة وبقوة السلاح. لن يلتفت العالم إليهم ولا حتى إخوتهم إذا تخلوا عن دورهم السياسي.

ثالثاً؛ بداية دخول موضوعة حقوق عرب الداخل في تفكير بعض النخب الفلسطينية المهتمة بتطوير النضال الفلسطيني، وطرح تصور لحل شامل للقضية الفلسطينية وللمسألة اليهودية «الإسرائيلية» في فلسطين. وهذا من شأنه تشجيع المترددين والمرتابين من ربط قضية هذا الجزء من شعبنا مع نضال الحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، ودفعهم إلى الإدراك أن مصدر الظلم اللاحق بأهالي الضفة والقطاع واللاجئين هو نفس مصدر الأذى اللاحق بهم، والخطر الذي يتهددهم ويتهدد حقوقهم ووجودهم القومي.

رابعاً؛ تطور المقاربة الفلسطينية الإنسانية للمسألة اليهودية في فلسطين وتبلور رؤية ديمقراطية منهجية ومتماسكة تنص على الاستعداد للعيش في دولة المواطنين، إما دولة ثنائية القومية أو دولة ديمقراطية علمانية. وهو بديل عن الصراع الأبدي والتناحري وبديل عن النظام العنصري «الإسرائيلي». هذه الرؤية تظهر للكثيرين رؤية طوباوية حالمة، ولكنها تحظى مؤخراً بزحم ومن شأنها أن تُعيد بناء ثقافة ديمقراطية إنسانية على المدى الطويل، وتفتح الباب للأجيال القادمة لصياغة مستقبلها على أنقاض الاضطهاد والعنصرية والاستعمار.

[**ما هو السقف الذي يجمع الشعب؟*]

لا يوجد، حتى الآن، إجماع أو اتفاق حول سقف واحد يجمع القوى السياسية الفلسطينية، رغم أن المستجدات العربية والمحلية تدفع بهذا الاتجاه. فحتى حركة «حماس» اقتربت من فكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع ولو تكتيكياً، أي فكرة التقسيم (ليس بالطبع على أساس قرار الأمم المتحدة). ولكن كما هو معروف، فإن قبول منظمة التحرير الفلسطينية لفكرة الدولة على كل جزء يُحرر من الوطن عام 1974، تحول لاحقاً إلى نظام بانتوستونات وإلى الاعتراف بـ «إسرائيل» ضمناً كـ «دولة يهودية» وعلى 78% من فلسطين التاريخية تاركاً مصير اللاجئين لمشيئة «إسرائيل»، ومتخلياً عن فلسطينيي الـ 48 ليبقوا رازحين تحت نير القهر العنصري إلى الأبد.

ومع ذلك، وطالما أن منطق التحولات والتفاعلات الجارية قد تفرز قوى جديدة (شبابية بشكل خاص) وتولد أفكاراً جديدة وتعزز توجهات سياسية جديدة تتعلق بخيارات حلول بديلة، فإن ذلك سيدفع إلى توسع الأوساط المهتمة بهذه الخيارات والرؤى. وهنا يأتي سؤال عرب الداخل وبالتحديد الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر المتعلق بدورهم ومساهمتهم في الوضع الجديد الآخذ بالتشكل.

ويستدعي تناول هذا الموضوع حذراً خاصاً ومعرفة دقيقة بواقعهم المركب، لإتقان إدارة معركتهم السياسية والأيدلوجية والشعبية في إطار المعركة العامة. وواجب الجميع المشاركة في ذلك، والإدلاء بدلوه، ورفض القول المبتذل، «أهل مكة أدرى بشعابها». إن واجب الحركة الوطنية الفلسطينية ونخبها الواعية والمطلعة أن تتناول ظروف وحقوق وأدوار جميع تجمعات الشعب الفلسطيني ضمن إستراتيجية واحدة مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تجمع. واضح أن من هو غارق في ثقافة الحقبة الأوسلوية البائسة حتى اللحظة غير متوقع منه أن يقوم بهذه المهمة. فهذه الحقبة أحدثت تآكلاً كبيراً في القيم الوطنية التحررية. ليس المطلوب التخلي عن مطلب الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وإن كان هذا المطلب لا يقل طوباوية عن خيار الدولة الواحدة. ولكن المطلوب هو عدم منح الشرعية للصهيونية ومشروعها الكولونيالي العنصري، حتى عندما يجري الحديث عن الحل المرحلي المثبت في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني. ففي داخل الخط الأخضر، يتصدر حزب التجمع الوطني الديمقراطي هذه المعركة الأيدلوجية ضد الصهيونية، ويشترط تحقيق المساواة بإلغاء الطابع الصهيوني لدولة «إسرائيل»، أي إلغاء الامتيازات المخصصة للأكثرية اليهودية وهي امتيازات تم تحصيلها عبر أكبر عملية سطو بدأت قبل إقامة «إسرائيل» ولا تزال مستمرة على قدم وساق في كافة أرجاء الوطن، تقوم به الدولة العبرية المعترف بها من الأمم المتحدة والموقعة على مواثيقها التي تنص على احترام مبدأ المساواة بين المواطنين واحترام حق الأقليات. ويذكر أن التجمع الوطني الديمقراطي أحدث ثورة في الفكر السياسي أو في المقاربة السياسية والأيدلوجية للنظام العنصري «الإسرائيلي»، منذ انطلاقه عام 1995 وتحول خطابه الذي يجمع بين الهوية القومية والمواطنة الكاملة أو المواطنة الديمقراطية إلى الخطاب شبه الرسمي لعرب الداخل.

لا يمكن بعد اليوم لأحد أن يقلل من شأن اللاجئين، حقهم ودورهم، بعد أن بدأوا الإعداد لثورتهم، ولا عرب الـ 48 بعد أن قطعوا شوطاً في وعيهم السياسي، وارتباط أجيالهم الشابة بالقضية الوطنية، وفي ظل العداء المستشري ضدهم من جانب الدولة العبرية ومجتمعها الاستيطاني. لقد استمدوا زاداً فكرياً وإرادة واعدة من تاريخ شعبنا الكفاحي ومن معين الثورة العربية، مسلحين بالحق وعدالة القضية. كما لا يجوز بعد اليوم التقليل من شأن دور الجاليات الفلسطينية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وبلاد أخرى، في المساهمة في إحياء قضية اللاجئين، وربما يُنتظر منهم تعزيز صفوفهم لقض مضاجع الأوساط الرسمية وغير الرسمية الداعمة لنظام الأبارتهايد «الإسرائيلي» البغيض.

يبقى على هذه التجمعات، كيف تُعجّل عملية تحضير البنية التحتية لنضال طويل - مثل بناء اللجان الشعبية وتعزيز التنسيق بين القوى الفاعلة والناشئة. فلن تتحرك الأمور لوحدها، وهناك حاجة لتركيم النشاط وصولاً إلى حالة شعبية كفاحية دائمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 112 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010