الاثنين 2 أيار (مايو) 2011

الثورة التي أطاحت العوازل العربية

الاثنين 2 أيار (مايو) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

لم يكن الليبراليون واليساريون والوطنيون المتمسكون بالوطنيات القائمة كيانات نهائية وحدهم من أخذهم الظن بأن الترابط بين الكيانات العربية لم يعد حقيقة سياسية واجتماعية ونفسية. بل مال إلى الاعتقاد بذلك قوميون كثر وإن اختلفوا عن الأولين في أنهم لم يفقدوا الأمل في أن يستعيد ذلك الترابط إيقاعه المتوقف ووجوده المادي المعلق.

ولقد كان الظن هذا بلغ ذراه في العقود والسنوات الأخيرة. ووصل مداه إلى الأقصى عشية اندلاع موجة الثورات الشعبية في الوطن العربي. إذ بدا كما لو أن صلة ما عادت تقوم بين بلد وبلد وشعب وشعب. خارج صلات الثقافة العليا العالمة واللغة والدين وأصداء في النفس لتاريخ ماضٍ مشترك.

والحق أن الظن هذا لم يكن دائماً مبيتاً. ولا قُصِد به ترويج رواية إيديولوجية معادية للعروبة. لأنه لم يكن وعي نخب فحسب. بل شعور شعوب أو - على الأقل - قطاعات واسعة . كان في الواقع الموضوعي ما يحمل عليه ويفرضه. ومن ذلك أن مستوى التفاعل بين الكيانات العربية ضمر وضؤل في المجالات كافة : الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى حدّ العدم. ولم يكن ذلك دائماً بسبب سياسات رسمية قصدت إلى ذلك قصداً. ولو أن ذلك في حكم الثابت الذي لم يتبدل من تلك السياسات. وإنما أتى بعض ذلك التراجع في مستويات التفاعل من واقع رسوخ الوطنيات في البنى الاجتماعية والثقافية والنفسية العامة (بأثر من تلك السياسات طبعاً). أي من طريق استبطان واقع التجزئة المرسخة ونتائجه وحسبانه طبيعياً. عند من نشأوا في كنف أحكامه. أو التسليم به كأمرٍ واقع يصعب دفعه.

ومن النافل القول إن بيئة الانغلاق الوطني - أو القطري إن استعلمنا مفردات الخطاب القومي - أنتجت ثقافتها وإيديولوجياتها بمقدار ما ولدت بناها النفسية الجمعية. فلقد صار مألوفاً أن نسمع مفردات النخب الحاكمة - المتمسكة بنهائية كياناتها - تتردد على ألسنة الليبراليين واليساريين وكثير من الإسلاميين. ومن ذلك أن فكرة الأمة العربية أزعومة غير قابلة للتحقق. وأن الواقع الوحيد الصحيح هو عين ما نراه ممثلاً في الكيانات القائمة. وأن الوحدة دعوة غير واقعية. إلخ.

ومع أن التحليل الموضوعي يطلعنا على حقائق من قبيل أن بعض الدول الوطنية يتمتع بشرعية تاريخية ولم ينشأ بفعل التجزئة الكولونيالية. وأن تعميم الحالة الشامية على مجمل الوطن العربي غير جائز علمياً. وأن الكيانات الوطنية. حتى التي نشأت بفعل التقسيم مثل لبنان أو الأردن. صنعت مع الزمن شرعياتها. إلا أن الحقائق هذه ليست تقوم من العروبة مقام نقيضها. ولا هي تنتصب حوائل عازلة في وجه دعوة إلى وحدة عربية عصرية وديمقراطية. وهي في النهاية. لا تبرر كل ذلك السيل من عبارات الذمّ والقدح في العروبة التي سمعناها ونسمعها على ألسنة ممثلي ثقافة الانغلاق الوطني.

ما إن اندلعت الثورة الشعبية في تونس. وتداعت لها ساحات عربية أخرى بمظاهرتها والاقتداء. حتى بدأ يدب الوهن والتآكل في معمار إيديولوجي كامل قام على فرضية الفواصل العربية العاجزة. لم يكن مصادفة ولا تفصيلاً أن يقع ذلك. أن تنطلق ثورة في بلدٍ عربي في المغرب العربي فتعقبها ثانية في بلد آخر في المشرق العربي. وتتلوها ثالثة في المغرب العربي. فتزامنها رابعة في اليمن ثم تكر سبحة الانتفاضات هنا وهناك لتشمل - حتى كتابة هذه الأسطر - نصف البلاد العربية دون احتساب الانتفاضات النائمة التي لم تتلق بعد أمراً من الإرادة الشعبية بالتحرك. في بحر ثلاثة أشهر. صار الوطن العربي ساحة واحدة كسرت إرادة الثورة الحدود بين كياناتها السياسية المقفلة على بعضها . حتى لغة الثورة ومفرداتها وشعاراتها باتت واحدة كما لو أنها من صنع حزب واحد يتحرك في الساحات العربية كافة ويقود الحراك الثوري.

ليس ذلك مصادفة إلا في وعيٍ يعاني عُسراً حاداً في قراءة التاريخ وحقائقه. وفي قراءة الواقع العربي كالوعي الذي ودّع العروبة. وبشر بنهايتها وأقام للوطنيات الصغرى مهرجاناً خطابياً في نصوصه. وصدق مزاعمه فحوّلها إلى يقينيات عقدية مطلقة.

والوعي هذا مدعو اليوم إلى أن يجيب عن هذه «النازلة» : كيف تندلع ثورة في بلدٍ عربي. فلا تلبث بعد أيام - لا أسابيع أو أشهراً أو أعواماً - إلى بلدٍ عربي فآخر ..؟ لماذا لم تحدث «عدوى» الثورة هذه قبل عشرين عاماً حين اندلعت الثورات الشعبية في بلدان شرق أوروبا. وحين كرّت سبحتها ثانية في بلدان أمريكا اللاتينية في التسعينات من القرن الماضي؟ أليست هذه «العدوى» قومية الطبيعة والطابع؟ ألم تُثبت. إذاً. أن العوازل والفواصل الحائلة بين المجتمعات العربية أوهن من عوامل الوحدة والتواشج النفسية والثقافية التي تسري فيها وبينها؟ أليست تمثيلاً تاريخياً ناصع الوضوح لانتصار الأفقي على العمودي؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2166101

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2166101 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010