الخميس 14 نيسان (أبريل) 2011

«كامب ديفيد» : تبقى أو تلغى؟

الخميس 14 نيسان (أبريل) 2011 par د. سمير كرم

لم تصل الثورة المصرية بعد الى نقطة محاكمة النظام القديم ـ نظام حسني مبارك ـ على جرائم السياسة الخارجية. وربما يرجع ذلك الى انها لا تزال مشغولة ـ ومشغول معها المجلس الاعلى للقوات المسلحة الذي يؤدي دور حامي الثورة الى جانب دور الحاكم الانتقالي ـ بالقضايا الداخلية، ما هو متعلق منها بنهب اموال الشعب وما هو متعلق بمحاولة دحر الثورة ابتداء من إطلاق قوى الشغب لقتل شباب الثورة في ميدان التحرير.

ولكن دور محاكمة النظام القديم من قبل النظام الجديد عن جرائم السياسة الخارجية سيحين حتماً. لقد وصلت مصر الى الخطوط القريبة من هذا، بحيث يمكن القول ان محاسبة نظام مبارك عن جرائم السياسة الخارجية ليس مستبعداً، وإن كان من الممكن القول ان هذه المحاكمة لن تكون بالضرورة في اطار قانون الجنايات الذي على اساسه تجري محاكمة النظام المنهار على جرائم السياسة الداخلية. انما ستكون في اطار قوانين الثورة ودوافعها وأهدافها.

ومن شأن محاكمة ثورية لنظام مبارك عن جرائم السياسة الخارجية ان تكشف عن الدور الذي لعبته تلك الجرائم في تسهيل بل تحريض النظام على جرائمه الداخلية. فالعلاقة وثيقة للغاية بين المجالين.

وليس هناك من ينكر الآن في مصر ما بعد الثورة ان اتفاقات كامب ديفيد هي اكبر جرائم هذا النظام الخارجية. ولهذا لم تكد تمضي اسابيع على بداية الثورة المصرية حتى كانت تسقط عن هذه الاتفاقات صفة القدسية، التي اضفيت عليها منذ اغتيال موقّعها انور السادات وتولي حسني مبارك الرئاسة خلفاً له ليواصل سياسة اضفاء القدسية على نصوص كامب ديفيد وبالتالي على العلاقات مع «اسرائيل». وقد ادى ذلك بالضرورة الى تراجع دور مصر القومي والاقليمي، ثم تراجع ادوار معظم الدول العربية في المواجهة مع الدولة الصهيونية. بعد الثورة المصرية لم تعد نصوص هذه الاتفاقات مقدسة، بل اصبح احد اهداف الثورة وحكومتها السعي الى تغيير هذه النصوص بما يتفق مع التطورات التي تعنيها الثورة، فضلاً عن التغييرات التي يستوجبها الزمن ويستوجبها عدم احترام «اسرائيل» لالتزاماتها حتى في هذه الاتفاقات نفسها، سواء في ما يتعلق بمصر او في ما يتعلق بالاراضي العربية المحتلة فلسطينية وسورية ولبنانية.

تعرف «اسرائيل» اليوم معرفة يقينية ان التطورات التي تجري في مصر وفي بلدان عربية اخرى ليست في صالحها. ولهذا فإن «اسرائيل» ـ كما تعبّر عنها تصريحات حكامها وكتابات صحفييها ـ تبدي قلقا شديدا إزاء هذه التطورات. وليس خافياً ان اشد قلق «اسرائيل» نابع من تطورات مصر وفي مقدمتها فقدان كامب ديفيد قدسيتها التي احتفظت بها منذ توقيعها في 17 ايلول/ سبتمبر 1978. اذ ان السؤال عن احتمال ان تلجأ مصر الى طلب تغيير نصوص الاتفاقات او الغائها لم يعد مستبعداً. ويتبع ذلك ـ بطبيعة الحال ـ السؤال : ماذا يحدث لو قررت مصر الغاء اتفاقات كامب ديفيد المسماة : اطار عمل للسلام في الشرق الاوسط؟ بمعنى آخر او بالاحرى بصياغة اخرى : ماذا لو تحول الغاء هذه الاتفاقات الى مطلب للثورة المصرية؟

الحقيقة ان الاجابة على هذا السؤال ـ في اي من الصيغتين ـ لا تستطيع ان تغفل حقيقة ان غالبية الشخصيات التي اعربت حتى الآن عن عزمها على ترشيح نفسها لرئاسة الجمهورية في نهاية الفترة الانتقالية الحالية في مصر اعربوا عن مواقف مناهضة لاتفاقات كامب ديفبد، الامر الذي يعني انهم سيضمّنون برنامجهم الانتخابي الغاءها او ـ على الاقل ـ تعديلها. وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية المصري نبيل العربي (انظر «السفير» في 8/4/2011) مؤكدة لحق مصر في طلب تغيير نصوص هذه الاتفاقات. والامر الذي لا شك فيه ان مشاورات ومحادثات كثيرة جرت بين الادارة الاميركية وحكومة «اسرائيل» حول هذه المسألة على وجه التحديد، وان من المؤكد ان «اسرائيل» تطلب في هذا الصدد الضغط على مصر لتقديم «ضمانات» بأن لا تلغي اتفاقات كامب ديفيد ولا معاهدة السلام التي وقعت بين مصر و«اسرائيل» في 26 آذار/ مارس 1979. وقد اتخذ هذا الطلب بالضغط على مصر صورة اتفاق بين البلدين (الولايات المتحدة و«اسرائيل») بعرض مساعدات اقتصادية اميركية عاجلة بموافقة «اسرائيلية» لمساعدة مصر على اجتياز ظروفها الخاصة الراهنة. تم ذلك في الاجتماع الذي عقد في واشنطن بين الرئيس الاميركي اوباما والرئيس «الاسرائيلي» شمعون بيريز في اوائل الشهر الحالي.

وواضح من هذا التوجه الاميركي ـ «الاسرائيلي» ان الدولتين لا تدركان نقطتين على درجة قصوى من الاهمية في ما يتعلق بموقف الثورة المصرية من كامب ديفيد. انهما تراهنان فقط على تمسك مصر بالسلام وتمسك مصر بتعهداتها وتغفلان تماماَ ما يتعلق بتعهدات «اسرائيل» من ناحية والامتزاج الشديد بين مسائل مصر الداخلية وسياساتها الخارجية طوال فترة حكم «الكنز الاستراتيجي» وهو التعبير الذي استخدمته «اسرائيل» للدلالة على قيمة نظام مبارك لها من ناحية اخرى. ومن الواضح ايضاً من تصريحات كبار القادة «الاسرائيليين» انهم يريدون الاحتفاظ بهذا الكنز الاستراتيجي بعد تنحي مبارك وقرب محاكمته. وهذه رغبة خرقاء قد تلجأ «اسرائيل» في سبيلها الى حماقات سياسية، وقد تورط فيها الولايات المتحدة.

اما العامل الثاني الذي تغفله الدولتان المتحالفتان فهو امتزاج السياسات الخارجية والداخلية طوال سنوات حكم مبارك، وهو الامتزاج الدال على ان كامب ديفيد تسببت لمصر في اضرار داخلية تكاد تستعصي على الحصر. فقد كانت كامب ديفيد هي السبب الاصلي في كل ما حدث في مصر بعدها. ولو انه كان من الممكن تصور وطن عربي لم يحدث فيه زلزال كامب ديفيد لكان وطناً مغايراً برمته عما نعرفه الآن. وهذا ينطبق على مصر اكثر مما ينطبق على غيرها حسب قربه او بعده من مصر جغرافياً وثقافياً. وصحيح ان مبارك لم يكن هو الذي وقع على اتفاقات كامب ديفيد ولا على معاهدة السلام. ولكن مبارك ونظامه ككل صاغا اسلوب الخضوع الحرفي لهذه الاتفاقات والمعاهدة على النحو الذي ارادته «اسرائيل». وعلى مدى السنوات الثلاثين التي تولى فيها الرئاسة، اظهر مبارك استعداداً للتضحية بانتماء مصر العربي لصالح كامب ديفيد وأظهر استعداداً للابتعاد عن دور مصر القومي والإقليمي لمصلحة علاقات خاصة مميزة مع «اسرائيل»، حتى وصل الامر الى مستوى «الكنز الاستراتيجي» لـ «اسرائيل». ولم يدرك مبارك ونظامه ـ او هو ادرك وتغافل ـ ان «اسرائيل» حصلت من مصر على مردود اكثر كثيراً مما حصلت عليه مصر من السلام الذي وضعت خريطته اتفاقات كامب ديفيد.

لقد ذهب نظام مبارك بعد ذلك الى ابعد الآماد في اغفال مصالح مصر والمصريين المباشرة في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وفي مركز اقليمي وعالمي يصون مصالح مصر العربية والافريقية (نهر النيل) لانه لم يرد ولو في ادنى الحدود ان يناوئ «اسرائيل» في اي موقع. تراجع نظام مبارك امام «اسرائيل» حيثما وجدها، وكانت النتيجة انها اقنعته بأن مصلحة «اسرائيل» اولا هي شروط كامب ديفيد وهي شروط المعاهدة الثنائية للسلام بينهما. وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة ـ وقد لمست بوضوح مدى استعداد نظام مبارك للتضحية بمصالح مصر القومية والاقليمية ـ دفعته باتجاه «اسرائيل» وباتجاه نظام السوق الحرة في وقت واحد. فكانت النتيجة ان باع مصالح الشعب المصري الداخلية من القطاع العام ـ الذي كان العمود الفقري لاقتصاد مصر لسنوات طويلة ـ الى اراضي مصر الزراعية والمستصلحة، الى فرص التعليم والثقافة التي نشرت اضواءها في انحاء الوطن العربي طوال سنوات عبد الناصر، فسمح بأن تتحول الى اهدار لقدرات مصر.

لقد سقط نظام مبارك في توقيت عبقري اختارته الثورة قبل ان يتمكن من احكام خطة التوريث من ناحية، وقبل ان تحين لحظة الرحيل الطبيعي لمبارك الاب الذي استبد به المرض في سنواته الثمانينية من ناحية اخرى. سقط نظام مبارك في ارتباط وثيق بعملية صعود للبدائل الثورية في المنطقة آثر معلق «اسرائيلي» (هو ايهود يعاري) ان يطلق عليها تسمية «ديموقراطية الميدان». سقط تحت وطأة الرفض الثوري الصريح لسياساته الداخلية والخارجية وفي مقدمتها سياسات الاستسلام لـ «اسرائيل» الى الحدود التي كشفتها مواقفه من حرب «اسرائيل» على لبنان في صيف عام 2006 وحربها على غزة في شتاء 2008 - 2009. لهذا تعرف «اسرائيل» جيداً انها بين اوائل الخاسرين لفقدان نظام مبارك، لانها لم تعد مطمئنة الى بقاء نصوص اتفاقات «كامب ديفيد» والقدسية التي اضفاها عليها تواطؤ هذا النظام. وقد رأى «اسرائيليون» في ميدان التحرير في الايام الاولى للثورة صور مبارك وقد غطت وجهه نجمة داود رمز «اسرائيل» والصهيونية. الامر الذي لا يخفي رفض الثورة لسياسته المنحازة لـ «اسرائيل» والمستسلمة لاهداف الصهيونية في المنطقة. ويقول المعلق الصحفي نفسه ان «درجة العواطف المناهضة لـ «اسرائيل» امتزجت مع الاجندات التي يغلب عليها كثيراً الطابع الداخلي».

وقد حدد يعاري مناطق القلق الملحة لدى «اسرائيل» من الثورة المصرية والثورات الاخرى العربية في المنطقة في اربع هي : ما يتضح من ان حكومة مصر ستتجه نحو مراجعة معاهدة السلام الموقعة مع «اسرائيل»، وفي الوقت نفسه مراجعة عقد تصدير الغاز الطبيعي المصري لها بعدما تبين ان نظام مبارك اهدر حق مصر في ثمن اعلى يتفق مع سعر السوق العالمية، والثالثة هي الوضع في سيناء وحق مصر في الاحتفاظ فيها بقوات تكفي للدفاع عن امنها واستقرارها، رابعا توجه الاردن نحو انتهاج سياسة تجاه «اسرائيل» ترضي الجماهير المطالبة بإصلاح النظام.

وينتهي المعلق «الاسرائيلي» الى ان علاقات «اسرائيل» بالدول العربية التي تقيم معها علاقات ستدخل في القريب في اختبارات قاسية، وستحتاج «اسرائيل» الى بذل جهود كبيرة من اجل الحفاظ على المعاهدات التي وقعتها مع هذه الدول ـ ومصر في مقدمة هذه الدول وأكثرها تأثيراً ـ وبطبيعة الحال فإن «اسرائيل» ترتكن الى جهود يمكن برأيها ان تبذلها الولايات المتحدة لكي توضح لمصر بشكل خاص ان السلام هو حجر زاوية بالغ الاهمية لسياسات المنطقة، حتى ودولها تعبر الى الديموقراطية.

ولقد شهدت السفارة «الاسرائيلية» في القاهرة يوم الاحد الماضي مشهداً لم تكن تتوقعه هو مشهد شارك فيه عدة آلاف من شبان التحرير في تظاهرة تطالب السفارة «الاسرائيلية» بالرحيل من مصر وبقطع العلاقات مع «اسرائيل» كما تطالب بوقف تصدير الغاز اليها.

لهذا يبدو مصير كامب ديفيد لأول مرة معلقاً بين البقاء والإلغاء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 57 / 2180619

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2180619 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40