الاثنين 11 نيسان (أبريل) 2011

تصفيات بالجملة

الاثنين 11 نيسان (أبريل) 2011 par ميشيل كيلو

كان ينأى بنفسه وجماعته عن الحرب الأهلية والسلاح في لبنان . وكان يعطي المسألة الاجتماعية أهمية خاصة في نظرة وطنه ومواطنيه، الذين رأى أنهم يتساوون في الحرمان ولا بد أن يتساووا في الحقوق، وفي الحاجة إلى السلام والحلول الاجتماعية العادلة. لهذا، أسمى المنظمة التي أسسها «حركة المحرومين»، على أمل أن تضم أناساً ينتمون إلى مختلف أديان ومذاهب لبنان، ولا تقتصر على مذهب أو ملة أو جهة. وقد قال هذا في عز الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كان المواطن يقتل أخيه المواطن، لمجرد أنه من مذهب آخر غير مذهبه، أو من دين آخر غير دينه.

هل عرفتم من هو هذا الرجل؟ نعم، إنه الإمام موسى الصدر، رجل العقل والاعتدال والسلام، الذي رفض استخدام أموال القذافي لشراء الأسلحة وقتل الناس : الفقراء والأبرياء غالباً، فكان مصيره ميتة شنيعة لا يعرف أحد إلى اليوم كيف تمت بالضبط، وإن كان الشهيد أبو جهاد الوزير أخبر مجموعة من معاونيه أن الرجل نقل في طائرة ليبية إلى مالطا، كي يشاهده بعض الناس ويشهدوا أنهم رأوه هناك، ثم وضع من جديد في الطائرة، وبدل أن تطير إلى إيطاليا قصدت ليبيا، حيث وضع والمرافقين اللذين كانا معه في صندوق حديدي أغلق بإحكام والقي من ارتفاع شاهق إلى البحر.

رجل آخر كان يتعاون مع ليبيا وينال منها العون المادي والسلاح، مقابل قيامه بعكس ما كان يفعله الإمام موسى الصدر : قتل الناس، وخاصة منهم كوادر منظمة التحرير الفلسطينية، وبالأخص من هؤلاء من يطالبون بالسلام والحل السلمي : هذا الرجل هو أبو نضال صبري البنا، الذي غادر ليبيا لفترة وذهب إلى بغداد، لكنه تصالح مع الحكم الليبي وزار طرابلس، حيث اختفى ومجموعة غير قليلة من رجاله. وبما أنه كان يتمتع بسمعة إرهابي يعمل في السر، فإن قضيته لم تثر ذلك القدر الكبير من الضجة الذي أثاره اختفاء الصدر. هنا أيضاً اختلفت الروايات حول ما حدث للرجل، الذي بدا كأن الأرض انشقت وابتلعته هو وأنصاره، وإن راجت حكاية حول وضعه في عمود مبني قيد البناء، وصب الأسمنت المجبول عليه وهو حي.

آخر حكاية سوداء تتعلق بدبلوماسي كان مندوب ليبيا في الأمم المتحدة هو منصور الكيخيا، المثقف الراقي والحساس، وأحد رجال العمل والفكر القومي في شمال إفريقيا والعالم العربي، وعضو المؤتمر القومي العربي، الذي اختطف من القاهرة، حيث كان يشارك كعضو في مجلس الأمناء في المؤتمر الثالث للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. تلفت الناس حولهم فلم يجدوا منصوراً، سألوا عنه فلم يجب أحد عن أسئلتهم. بدأوا البحث فلم يعثروا عليه. عندئذ أدركوا أن مكروها حدث له. راجعوا السلطات المصرية، فادعت أنها لا تعرف شيئاً، بل إن حسني مبارك سأل عندما سمع باسمه : من هو هذا الرجل، هل هو سوري؟ مع أنه كان قد قابله أكثر من مرة، كما يقول الدكتور عبدالحسين شعبان في نداء وجهه أخيراً إلى المثقفين العرب بمناسبة الذكرى السنوية لاختفاء الرجل الأنيس. منذ ذلك الوقت إلى اليوم، وخلال قرابة عشرين عاماً (اختفى الرجل عام 1993)، لم يتوقف البحث عنه، وشكلت لجان للعثور عليه، وتنظيم حملات دولية للمطالبة بمعرفة مصيره، ولكن من دون جدوى، طيلة هذا الوقت. هل ألقي بالرجل إلى البحر أم تم وضعه في عمود مبنى؟ هذا ما لا يستطيع أحد حتى الآن العثور على إجابة عنه، أو حكاية حوله، بينما وجدت على كل حال حكايات حول الإمام وصبري البنا، يصدقها من يصدق ويكذبها من يكذب.

لم يعلن النظام الليبي أي شيء حول هذه الأحداث، باستثناء إعلان مقتضب يزعم أن الإمام غادر الأراضي الليبية، وأن السلطات هناك لا تعرف شيئاً عنه. أما أبو نضال ومنصور الكيخيا فقد ساد صمت مطبق حول ما وقع لهما، بعد أن ادعت ليبيا براءتها من دمهما وجهلها بما وقع لهما، وأدانت بكلمات قاسية الاعتداء عليهما، إن كانا حقاً ضحية اعتداء استهدفهما . لم تتابع الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان مصير البنا، وإن كانت قد اتهمت النظام الليبي باختطاف منصور الكيخيا، من دون أن تكون لديها أدلة دامغة على ذلك، علما بأن طرابلس أصدرت بياناً بعد اختفاء منصور بيومين يعلن هدر دم المعارضين ويطلق صفة «الكلاب الضالة» عليهم.

تسربت بعد ثورة شباط بعض التلميحات إلى مصير الرجال الثلاثة، فقيل إن الإمام الصدر دفن في مكان ما داخل الصحراء جنوب مدينة أجدابيا. وقيل إن تدمير طائرة لوكربي كان من تدبير الأمن الليبي، وقد قتل فيه نحو ثلاثمائة شخص، وكذلك طائرة صحراء النيجيرية وسط إفريقيا، التي قتل فيها قرابة مئة شخص. ومع أن ليبيا دفعت تعويضات في الحالتين بلغت قرابة ثلاثة مليارات دولار، فإنها أصرت على إنكار دورها في الحادثتين، وأفهمت العالم أنها قبلت الدفع كي لا تتم ملاحقة القذافي أمام القضاء الدولي. على كل حال، هذه الوقائع الثلاث ليست كل شيء، فقد دخل رجال الأمن إلى سجن مدني في أبو سليم وقتلوا ألفا ومئتي سجين أعزل، في واحدة من أفظع عمليات القتل الجماعي ضد الأبرياء عرفها تاريخ العالم الحديث.

كيف نفهم قيام دولة بعمليات كهذه تتردد حتى منظمات المافيا أمام القيام بما يماثلها؟ هل يعود السبب إلى انعدام القانون وحكمه في ليبيا والدول التي من طرازها؟ أم أن عدم وجود دستور هو الذي يفسر عمليات كهذه؟ أم أن الخروج على جميع الأعراف يكمن وراء تحول السلطة هناك إلى ما هي عليه : جهة لا تلتزم بقانون أو دستور أو عرف، تخضع لنزوات رجل يعتقد أنه هو المجد والشعب والدولة، كما قال في خطاب ألقاه بعد الثورة عليه وصف خصومه فيه بالجرذان والمقملين، ووعد «بتطهير» ليبيا منهم شارعاً شارعاً، بيتاً بيتاً، داراً داراً، زنقة زنقة وفرداً فرداً، وهو الهدف الذي أكد عليه بعد ذلك بقسوة لا حدود لها، أوصلت أطفال مصراته إلى شرب مياه المجاري، باسم الدفاع عن ثورة لم يعد أحد يعرف لها معنى، ولم يبق منها في الواقع غير القتل والجريمة الرسمية المنظمة، ضد من تدعي أنها تريد إنقاذهم من مواطنيها.

مع دخول بلداننا العربية في طور جديد، من الضروري الاهتمام بمعرفة من ارتكب تلك الجرائم ضد الأفراد والجماعات، في ليبيا وغيرها من الدول. ومن الضروري أن تشكل هيئات تحقيق دائمة تتقصى أخبار من اختفوا لتعرف مصيرهم وتعاقب من تسبب في موتهم، بأية طريقة كانت، عسى أن يعلم من سيتولى الحكم ذات يوم أن سلوكه سيكون تحت الأضواء، وأن أحداً لن يسامحه بما قد يرتكبه من جرائم ويقترفه من أخطاء ضد بني قومه.

أسس المصريون قوائم أسموها «قوائم العار»، قيدوا فيها أسماء من خرجوا على مبادئ السلوك القويم تجاه الشعب وبسطاء الناس خلال حكم مبارك. أليس من الواجب أن يكون هناك «قوائم شرف» باسم من غيبوا عن الوجود بسبب مواقفهم المشرفة من الإنسان وقضاياه، كي لا تنساهم الأجيال القادمة، ولا يفلت قتلتهم من العقاب العادل، الذي يستحقونه، مهما كانت مراتبهم وأسماؤهم؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2178822

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2178822 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40