الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011

الهروب إلى الأمام .. والمحنة العربية

الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011 par راكان المجالي

لا يمكن فصل ما يجري في العالم العربي، من ثورات واحتجاجات، تهزّ بُنية مجتمعات وأركانها بأكملها، عن التحوّلات التي شهدها ويشهدها العالم، خصوصاً القسم الغربي منه. ولعلّ أحاديث «قدوم الديموقراطية»، التي ضجّت وتضجّ بها مجتمعات العالم، ومنها العربية، منذ عقود، حيث يحلم البشر بعالم «يحكمون فيه أنفسهم بأنفسهم»، هي ما نرى بعض مظاهرها اليوم، وبأشكال مختلفة، في شوارع مدننا. وهذا يعني، أنّ عالمنا اليوم هو العالم الأكثر صعوبة، فيما يتعلّق بالسيطرة عليه. ذلك أنّ الثورة الحديثة، التي عرفتها المجتمعات الغربية، في القرون الثلاثة السابقة على القرن التاسع عشر، التي كانت معركتها الحقيقية تتحدّد في حصول الفرد على استقلاله الذاتي، هو واحد من أبرز خصوصياتها، ما شكّل أيضاً محوراً مميّزاً لـ «ديموقراطيتها»، والأساس الذي وُضعت استناداً إليه اللبنات الأولى للديموقراطية اللبرالية، من نظام تمثيلي وإقتراع عام مباشر. ويضاف إلى خصوصية الديموقراطية الغربية، مسألة الجمع بين الأبعاد السياسية والقانونية والتاريخية، الذي تحوّل بالتحديد إلى مصدر مشكلة دائمة، في تلك الديموقراطية.

أما اليوم، فإنّ البشر، في المجتمعات الحديثة، يفتقرون إلى الأفكار الواضحة. ما أفضى إلى غموض، تغيب فيه، وإلى حدٍّ كبير، قيم أساسية، كالتقدم والتضامن وغيرهما، ما يقود إلى مجموعة من التغيّرات، التي تصيب البنى الداخلية للمجتمعات المعنية. كما أنّ هناك إفتقاراّ للبعد الإنساني، ما يجعل «الديموقراطية» نفسها غير مفهومة بشكل جيّد. فتحْت لافتة «الديموقراطية»، يتمّ التأكيد على الحرية، مع نسيان أنّ منح الحرية للأفراد لا يكفي، وينبغي أيضاً إعطاؤهم السلطة وقدرة التصرف.

في حالة كهذه، فإنّ أموراً كثيرة تُحتّم ضرورة إعادة نظر شاملة، بهدف إعادة الإعتبار، لـ «قيم التقدم والتضامن والتوازن الاجتماعي، ومفاهيم القوة ودور العلوم». ذلك أنّ «زمن الثورات»، بمعناه القديم والتقليدي، قد ولّى إلى غير رجعة، وهنا ربّما تُقدّم تجربة الثورات الشعبية العربية، في بعض نماذجها، كالتجربة التونسية والمصرية واليمنية، إسهامات عالمية معتبرة في هذا السياق.

عربياً، يُشكّل ما يحدث اليوم في بلادنا تجربة إنسانية، في مواجهة البشر لأنظمة الحكم الشمولي والإستبدادي، مع ملاحظة الفرق بينهما. وهي تجربة غير منفصلة عن تجارب الشعوب والأمم الأخرى، التي أوجدت الفكرة أصلاً، وتمكّنت من التخلّص منها، وبعنف، حين ثبت فشلها، وتوافرت ظروف التحرّر منها.

وقد ثبت تاريخياً، أنّ الأنظمة الشمولية لا تكتفي بمحاربة الديموقراطيات «البرجوازية»، بل إنها تضعها أمام تحدٍ كبير عليها أن تواجهه. ففي أوروبا، تُعتبر الفترة الجنينية، لظهور الفكر الشمولي، هي الفترة الممتدّة بين مطلع القرن العشرين، وعشية قيام الحرب الكونية الأولى، وذلك عبر ولادة «إيديولوجيات جديدة»، قامت بالربط بين مفهومي «الثورة» و«الأمة». أما على أرض الواقع، فقد تحوّلت تلك الأيديولوجيات إلى نوع من «عقيدة دنيوية»، وبعيداً عن الرؤى والأطروحات الدينية.

وهناك ثلاثة أنماط من الشمولية عرفتها أوروبا، تمثّلت في : «البلشفية»، التي تجسّدت في روسيا، و»الفاشية»، التي تجسّدت في إيطاليا بحُكم «موسوليني»، الذي كان أشهر رموزها، و«النازية»، التي مثّلها «هتلر»، بوجوده على رأس السلطة في ألمانيا، بحسب رؤية المؤرّخ الفرنسي «مارسيل غوشيه»، في كتابه «إمتحان مواجهة الشمولية».

وقد كان لكلّ نمط من هذه الأنماط «دينامية» خاصّة، كان لها آثارها على الديموقراطية الأوروبية، بما فيها تأثيرات واقعية أدّت إلى تحوّلات حقيقية. فالإصلاحات السياسية والاجتماعية الكبرى، التي عرفتها القارة القديمة، بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، أخذت معانيها ودلالاتها العميقة، من حيث أنها مثّلت إجابات على التحدّي الشمولي «التوتاليتاري». إضافةً إلى أنّ الديموقراطية الليبرالية، بالصيغة السائدة اليوم في أوروبا، هي في جوهرها نتيجة للجهود المبذولة، من أجل التغلّب على نقاط ضعف تلك الديموقراطية، التي كانت تتغذّى منها الأنظمة الشمولية على نحوٍ أساسي.

ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ هناك إختلاف في تقييم أنماط الأنظمة الشمولية، وتحديداً، فيما يخصّ تحديد هوية النظام الشمولي ومقوّماته. فبعض المحلّلين مثلاً، لم يكن يرى في الفاشية الإيطالية نظاماً شمولياً..!؟ بإعتبار أنّ المعيار المعتمد، في تحديد هوية الأنظمة، هو درجة القمع والعنف، المستخدم مع جماهير الشعب.

وينبغي هنا ملاحظة الفرق الأساسي، بين الأنظمة الاستبدادية والأنظمة الشمولية، بمعناه الدقيق، وهو أنّ «الشمولية» تتميّز بامتلاكها مشروعاً ثورياً، وتسعى بوضوح إلى تعبئة الجماهير، حول «إيديولوجية» محدّدة، تهدف إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الشعب، من أجل خدمة أهدافها السياسية لتلك «الإيديولوجية».

والحقيقة، أنّ تجربة الأنظمة الشمولية المقصودة، في السياق الأوروبي، كانت محاولة لتقديم إجابات نهائية، على فشل تجربة المجتمعات «الليبرالية»، القائمة على مبدأ التمثيل. فالموجة الشمولية تزايدت، وعلى نحوٍ كبير، في أوروبا، على خلفية أزمة تلك «الديموقراطيات الليبرالية»، وخصوصاً بعد فقدان الثقة بالنظام البرلماني وبالطبقة السياسية...!؟ لتأتي بعدها الحرب الكونية الأولى، ومن ثمّ الأزمة الاقتصادية المرعبة، في نهاية عشرينيّات القرن العشرين، التي عمّت أوروبا والعالم، لتفاقم أزمة فقدان الثقة بالقيادات الحاكمة آنذاك. فهل يمكن للأزمة المالية العالمية، التي اندلعت من الولايات المتّحدة، قبل نحو ثلاثة أعوام، وما سبقها بسنوات من جهودٍ محمومة، في نشر وتعميم العولمة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، أن تكون إطاراً تاريخياً، لمضامين الثورات الشعبية الراهنة، التي تعصف حالياً بالمجتعات العربية، وعلى نحوٍ غير مسبوق، في تاريخها الحديث..؟!

وإذا صحّ ذلك، فهذا يعني أنّ «الديموقراطية» أصبحت أفقاً يستحيل تجاوزه، لا في العالم العربي فحسب، بل في العالم بأسره. فعلى الرغم من وجود أزمة عاتية اليوم، سياسياً واقتصادياً، تعمّ عالمنا المعاصر، ويمكن تشبيهها بتلك التي واجهتها الليبرالية، وقادت إلى الشمولية، في أواخر القرن التاسع عشر، غير أنّ أزمة اليوم تُفارِق أزمة الأمس، من حيث أنّ القارّة الأوروبية تعيش الآن لحظة «غياب الحروب»، بما تعنيه الحرب كـ «وسيلة سياسية» في طريقها إلى الزوال، من حياة الشعوب والأمم. ناهيك عن خصوصية حالة المجتمعات العربية، من حيث طبيعة الأنظمة والطبقات السياسية الحاكمة فيها.

لا شكّ في أنّ العالم الغربي، وبالأخصّ أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، يتحمّل مسؤولية أساسية، في ما وصلت إليه المجتمعات العربية، خصوصاً في العقدين الأخيرين. وهي مسؤولية لا تعفيهم «المراوغات» من ممارسة تحمّل تبعاتها، ولا محاولات «الهروب إلى الأمام»، في مختلف مسارات النشاط والتحرك؛ كالهروب إلى الأمام، الذي مارسه الأميركيون، في حربهم على العراق، بتبنّيهم مشروعهم الشهير بـ «إعادة صياغة الشرق الأوسط»، أي مشروع «الشرق الأوسط الكبير». وكذلك هروبهم إلى الأمام ، بمحاولتهم إعادة صياغة العالم كله، وفق تصوّرهم وحدهم لهذا العالم. إضافة إلى ما قام به الأوروبيون، بهروبهم إلى الأمام، من خلال مشروعهم لـ «الاتحاد الأوروبي».

ذلك أنّ سياسات الهروب إلى الأمام، محليّاً وإقليمياً ودولياً، تُحيل مشكلات الشعوب والأمم إلى كوابيس تُطارد أصحابها، وتُقِضّ مضاجعهم، مُراكِمةً في طريقها أزمات المجتمعات العادية، على هيئة معضلات وعُقد حضارية وثقافية، يصعب تفكيكها والتعاطي معها، من دون شكوك وهواجس، في لحظة انفجار الأزمة، كما هو حاصلٌ حالياً، في أحوال المجتمعات العربية المشتعلة، التي تواجه خليطاً من أنظمة حكم شمولية واستبدادية عاتية. خصوصاً الممارسة والرؤية الحاليتين، الأميركية والأطلسية، في التعاطي مع الشأن الليبي، وفق قراري مجلس الأمن بحماية المدنيين الليبيين!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2178538

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178538 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40