الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011

مرة أخرى : كلام في الثورة والثورات المضادة

الأحد 10 نيسان (أبريل) 2011 par عبداللطيف مهنا

مخزون موروث العرب الثقافي مكتنز بالأمثلة الحكيمة التي اعتصرت تجارب قرون خلت حفلت بالانتصارات والانكسارات والمفاخر والمرارات كانت قد تعاقبت على مر التاريخ العربي المديد فأعطته غناه الذي عُرف به. ولغتنا أو ثقافتنا أو خندقنا الأخير، الأخير قبيل هذه الانتفاضة الثورية العربية اليقظوية النهضوية، حفظت لنا أمثالاً، أو قل، تركت لنا نبارس هادية من درر القول السديد كان من المفترض أنها تُشكل لنا بوصلة في شتى المنعطفات وحيثما المفترقات. وهي إذا ظلت لنا محفوظة في نطاق محمية فصحانا الغنية، فقد ترجمت لنا مع الزمن واختلاف بيئاتنا أمثالاً شعبية راعت تمايز اللهجات العامية مشرقاً ومغرباً، حتى ظن القُطْريون أنها نتاج قطرياتهم الضيقة وخاصة بها، فمثلاً، نسمع من يقول لنا، يقول المثل المصري، أو العراقي، أو التونسي إلخ... والواقع أننا إذا ما دققنا مقارنين بين الأمثال الشعبية ذات الموضوع الواحد في أقطار العرب المختلفة، فسنجد أنها هي عينها، لكنها تطوف كافة بيئاتنا، حيث لهجاتنا تصبغ عليها نكهتها المحلية فلا يشكل عليك ردها لأصلها الواحد إلا لأول وهلة.

هذه الأيام يحضرنا قول العرب، أو تردادنا في النازلات لشطر من بيت شعر يقول : كالمستجير من الرمضاء بالنار... هذا المثل ينطبق أيما انطباق على حالنا الراهن المريع في ليبيا، حيث، وقد عجز عرب الجامعة عن القيام بواجب حقن دم الأخ المراق، وحفظ ذمار هذا الجزء الغالي من الوطن العربي، ووقايته من غوائل الإبادة والدمار، وأحال عجزهم الأمر إلى العدالة الدولية الغربية، أو بالأحرى، لجأوا إلى الباب العالي الأمريكي وشباكه الأطلسي وقاضيه سيء العدالة مجلس الأمن الدولي، لم يجد المعارضون الليبيون بأساً من إرسال استجاراتهم، واستغاثاتهم شبه اليومية لهذا الباب المفتوح الموصد، الذي أوكل بدوره إلى الأمر شباكه المخلخل، متذرعاً بهذه الإحالة العربية ومستظلاً بفتوى مجلس أمنه المطواع، هذا القابلة مأثوراته دوماً للتأويل والتحلل منها عند اللزوم، وليّ العنق عند الحاجة أو وفق المراد. الآن ليبيا، وأمام أنظار أمتها، تقع بين مطرقة نظامها الوالغ في دمها وسندان آلة حرب الأطلسي وأطماع من أوكلوا له امتياز تقسيم ليبيا وامتصاص نفطها...

كنت في مقال سابق بعنوان «إنسانية نفطية» قد قلت الكثير في خلفيات مثل هذه النخوة الغربية المفاجئة خبيثة المقاصد، الزاعمة حرصاً على حياة المدنيين في ليبيا، والتي كانت قد فعلت ما فعلته بحياة المدنيين في فلسطين والعراق، وتغض الآن البصر عنها في اليمن. قلت حينها، إنهم لم يأتوا إلى ليبيا لإسقاط النظام ولا لنصرة المعارضة، فهم إن تقدمت الأخيرة خذلوها وتركوها في ظل اختلال موازين القوتين على الأرض تواجه مصيرها، وإن تغوّل النظام وتقدم عليها أكثر من اللزوم قصفوه وأوقفوه عند حده الذي رسموه له، أي عليه أن لا يبتعد أميالاً شرقاً عن الحدود التي كانت بين ولايتي طرابلس وبنغازي أيام ما قبل أن وحّد السنوسيون ليبيا. وقلت حينها، إنهم يحاولون احتواء المعارضة وابتزاز النظام لا أكثر. إثر نشر المقال وصلني على الانترنت تعقيب أرسل لي عبر أحد المواقع، أو هو ربما يعكس رأي الموقع نفسه حيث لم يُذكَر اسم كاتبه. التعقيب يستغرب كيف أن المثقفين العرب يسيئون الظن في الغرب ويعيب عليهم أنهم يعتبرون كل ما يأتي منه شراً مستطيراً.

أنا هنا، لا أرد، إذ ليس من عادتي الرد على من يعقبون على ما أكتب، فإن كان استحساناً منهم فهذا بعض ما كنت أسعى إليه، وإن كان انتقاداً فأنا لا أملك الحقيقة وإنما أنشدها ما استطعت، ومن حق من خالفني الرأي أن يفعل، وربما أجد في هذا الفائدة، ولكن في هذه المرة أجد لزاماً علي وفق ما تفترضه منا جدية ما نحن بصدده، أرى أن من واجبي اثنتين : سؤال بسيط، اردفه بإحالة على من يهمه الأمر أكثر من سواه... السؤال : إذا ما فصلنا بين الحكومات والشعوب في الغرب، وأخذنا جانب السياسات الغربية، ونظرنا إلى مشاريعها في بلادنا ومواقفها حيال قضايا أمتنا، ومنذ غزوة نابليون وحتى نخوة الأطلسي الليبية، أي أننا لا نذهب بعيداً عائدين في التاريخ لنصل حتى حنا بعل، هل أتانا من هذا الغرب يوماً غير ما تعبر عنه مقولة العرب المأثورة، الويل والثبور وعظائم الأمور؟

أعطونا مثلاً واحداً يجعلنا نحسن ظننا فيهم... أما الإحالة، فأحيل لائمينا على سوء ظننا بأطلسية أولئك المنقذين البررة عندهم، إلى مظاهرات طبرق وآخر التصريحات، أو الشكاوى، ومختلف التعبيرات عن خيبة الأمل التي تتردد خلال الأيام الأخيرة من قبل مختلف الناطقين باسم المجلس الانتقالي لقوى المعارضة في بنغازي من خذلان الأطلسيين للثوار المستغيثين من رمضاء النظام بنار طلعاتهم الجوية، أو إنسانية قاذفاتهم المغيرة... هذه الأطلسية التي ترعى الآن بخبث لا يغفله إلا السذج استمرار مراوحات الكر والفر الدموية للمرة الخامسة من البريقة وإليها، وتبادل جوائح التقدم والتراجع بين الطرفين المصطرعين ما بين أجدابيا ورأس لانوف... ألم يسمعوا جنرال القيادة الإفريقية الأمريكية يعبِّر عن قناعته بضعف احتمالات سقوط النظام، أما الأوروبيون فحدث ولا حرج، حيث تنسخ تصريحات مختلف قياداتهم دائمة التباين اللاحقة منها السابقة لها وتزداد مع الأيام ضبابيتهم ضبابيةً!

لوم آخر وردني بعيد نشر مقالي التالي، الذي كان بعنوان «خواطر يمانية». هذا اللائم هو أيضاً أغفل ذكر اسمه، وأظنه أحد غيارى النظام. كنت في المقال قد عبرت عن افتخاري بانتمائي إلى أمة هذا اليمن هو جزء منها، حيث عبَّر ثواره، أو قل شعبه، عن وعي حضاري راقٍ فاجأ الجميع. فهو، وهو الشعب المسلح حتى الثمالة، قد خرج محتجاً بصدور شبابه العارية النازفة، التي واجهت عزلاء رصاص أمن السلطة و«جنابي البلاطجة»، فلم يطلق هذا الشعب، الذي اعتاد أن لا يفارقه سلاحه، رصاصة واحدة ولو دفاعاً عن النفس، لأنه بحسه النضالي السليم كان يدرك أن سلميته، إذ تحمي اليمن من حمامات دم لا نهاية لها فهي السلاح الأمضى الذي يفل بطش أسلحة النظام، والكفيلة بأن تعجّل في انتصاره المؤكد في نهاية المطاف والذي حتام لن يطول أمد تحقيقه.

لائمي كان لومه ليس موجهاً لي وحدي وإنما هو لا يستثني معي أحداً من أولئك اللذين وصفهم بـ «المتحمسين لما يسمونه بالثورات»، والذين غفلوا عن إدراك مدى خطورة ما دعاه «تسونامي الإخوان المسلمين»، وكوارث قادم «الإمارات الإسلامية»، معتبراً ثوار ميادين تحرير الأمة جميعاً وكافة مناضلي التغيير فيها، أو كل هذا المد الجماهيري العربي «ما هم إلا بيادق» يستخدمها الأصوليون للوصول إلى هدف تحقيق ما دعاه «دار الخلافة»!

أيضاً، هنا، أنا لا أرد والرد لا يعنيني كما أسلفت، وإنما في هذا ما يدفعني لزاماً إلى الربط بين لائمي في اليمن وسابقه في ليبيا، وبالتالي ضرورة أن ألفت النظر إلى تلاوين وأشكال وتعدد أطراف الثورة المضادة للثورة العربية النهضوية الكاسحة... هذه الثورة العابرة للقواقع القطريات إلى حيث فضاء الأمة، والتي جماهيرها، كما هو ماثل الآن، هي أوعى من نخبها وأسلم حدساً منها، وأبعد ما تكون عن ما يخشى عليها من العبثية والفوضوية وضياع البوصلة وفق مزاعمهم... وكنت قد فصلت معدداً تلك التلاوين والأشكال وأشرت على أطرافها المتضافرة داخلاً وخارجاً في مقالات سابقة ولا أريد هنا العودة إلى ذلك، وأكتفي فقط بالقول، أن هذه الجبهة المعادية لمستجد العرب، التي أدركت استحالة وقف عجلة التغيير الثورية أو احتوائها وحرفها، قد عمدت إلى التآمر، أو إلى الممكن بالنسبة لها، وهو محاولة زرع كل ما تعنيه مضامين التالي من المصطلحات، الفوضى، التجزئة، التقسيم، التدمير، التشويه، في هذه التربة الثورية المتحفزة عطاءً وهي تضع هذا الربيع العربي ما استطاعوا إلى ذلك تآمراً، واستطراداً، معاقبة الأمة الثائرة وإخافتها من نتائج ما هي بصدده من تحوّل...

في المثال الليبي، أعطى التدخل الغربي، بمؤازرة من عرب الجامعة، وتغطية من شاهدة الزور الأمم المتحدة، صك براءة من كل مواقفه السوداء المعروفة إزاء الثورتين التونسية والمصرية، اللتين لم يسلما من تآمره حتى اللحظة ولن يسلما منه مستقبلاً، ومنحته هذه المؤازرة، وبالاستناد إلى عدالة شاهدة الزور، امتياز إنقاذ المدنيين المزعوم من كارثة الاحتراب الداخلي، حيث لا نرى إنقاذاً ولا إيقافاً للكارثة، بل نشهد صباً للنار على زيتها وابتزازاً لطرفيها.

*****

وفي المثال اليمني عبًّر لائمي باسم الغرب ضمناً، أو توافقاً معه، أو لتقاطع موضوعي بين مصلحة كل من الغرب ومن انتمى هذا اللائم إليهم، أو ثنائية الاستبداد والهيمنة الأجنبية، عن بث ما كانوا يعيّروننا عادة به، وهو زعم عشقنا كعرب لما توصف بنظرية المؤامرة، والتي هي كانت وتظل الموجودة ضدنا دائما واقعاً لا متخيلاً ومنذ قرون، وظلت المتلازمة أبداً مع المشروع الغربي التليد المعادي في بلادنا... بث فكرة المؤامرة إياها بشكل معاكس، أي بما يخدم ذات المؤامرة التليدة المستمرة. ذلك يتجلى في اتهامنا بأن رياح التغيير العربية الثورية إنما هي بفعل فاعل، هو في أحد وجوهه الغرب، وفي الوجه الآخر بعبع «الأصولية» المزعوم الطامحة، كما يقول اللائم، في إقامة دار خلافتها.

...هنا انتقاص بائس و بين من روح هذه الأمة المائرة بأتواقها التحررية العظمية، واعتداء على حقيقة إرادتها المستيقظة، ومحاولة بغيضة لإخراجها من حراك عصرها وإعادتها مرة أخرى إلى قمقم الوصاية، وتصويرها زوراً كما كانوا يحرصون على تصويرها به... أمة عاجزة لا أمل فيها ولا رجاء، استمرأت الخنوع ورضيت بحال الركود، وقبلت صاغرة بالضيم، وتخلت بدونية عن كرامتها، وسهل على مستبديها قيادها. فهي عندهم إن قاومت إرهابية، وإن واجهت الاستبداد والظلم والاستكبار متطرفة، وإن تمردت «أصوليةً تجافي عصرها، وماضوية تحلم بالعودة إلى أيامها الخوالي»!

... وبالإضافة إلى المثاليين السابقين، الليبي واليمني، هناك مثال آخر من وجوه هذه الثورة المضادة لثورة هذا التحول العربي الراهنة، وهو محاولة ركوب موجة التغيير لحرفها عن وجهها الصحيح، ومن ذلك، محاولة النيل من باقي آخر قلاعنا الصامدة الممانعة، عبر محاولة تخريب القلعة من داخلها، ذلك باستغلال حق التغيير ومطلب الاصلاح المشروع مطيةً للوصول إلى باطل التدمير المبيَّت عبر إثارة الفتنة الطائفية والفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وضرب وحدته الوطنية، كما هو الحال في المثال السوري.

... هنا وهناك، وفي هذه الحالة وتلك، نحن نشهد محاولات مستميتة تتجاهل حقيقة عربية أذهلت وسوف تذهل كل شانئيها ومعهم محبيها أيضاً، وهي أن هذه الأمة تنهض قومياً، وتحت هذا التوصيف أكثر من خط، حيث تتجلى قيامتها هذه ثورياً، وتلوح لنا وحدتها التي طال انتظارها في تضامن وجدانها واتفاق هبّاتها في بواعثها وأهدافها في كل بقاعها، وتأثر كافة أطرافها وثغورها بكل ما يمور في سائر جسدها المنتفض المترامي، بحيث يمكن القول إنه قد آن الأوان لنتخلى عن استخدام معهود باهت معتاد المصطلحات المضللة، التي فرضتها علينا قطريات التجزئة، وتكاتفت لترسيخها في خطابنا سائر جبهة أعداء العرب داخلاً وخارجاً، من مثل: الشعوب العربية، والبلدان العربية، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا... آن الأوان للعودة إلى أصل الأشياء: الشعب العربي، والوطن العربي... الأمة بخير، وحيث لا يجيرها من رمضاء قاهريها إلا تضحيات شهدائها، فالمستقبل اللائق بتضحياتهم آتٍ لا ريب ويحبل بما يحمله من الوعود.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 53 / 2165470

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165470 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010