الخميس 7 نيسان (أبريل) 2011

تردي السياسة الخارجية : «همّ وانزاح»..

الخميس 7 نيسان (أبريل) 2011 par جميل مطر

الآن نستطيع أن نحذف من همومنا هما، وهو استمرار تدهور حال السياسة الخارجية المصرية وتردي مكانتها الإقليمية والدولية. وصلتني هذه الكلمات من قارئة مهتمة بالشأن العام ومنغمسة مثل مئات الألوف من بنات جنسها في الأنشطة التي فجرتها الثورة. كانت الآنسة أو السيدة الكريمة التي بعثت بهذه الكلمات تعلق على اللقاء التلفزيوني الذي أجرته منى الشاذلي مع نبيل العربي.

أحسنت كاتبة التعليق حين اعتبرت السياسة الخارجية المصرية التي أدارها الرئيس المتنحي كانت همّا من هموم البلد، وحين قررت أن تصريحات الوزير الجديد خلال الساعتين اللتين أطل فيهما على ملايين المصريين والعرب، خلفت انطباعاً بأنه يفهم مصالح مصر فهماً مختلفاً يقترب من فهمنا لها، وأنه يعبر عن رؤى هي في الحقيقة أكثر صدقاً وصدقية من رؤى كثيرة تعرضنا لسلبياتها خلال ثلاثة عقود. أخلص سريعاً من هذه المقدمة إلى أن اللقاء كان متميزاً في إدارته، تألقت فيه العاشرة مساء وعادت إلينا متألقة سياسة مصر الخارجية.

لا أنكر أنني كمشاهد انتظرت اللقاء بكثير من الشعور بالتفاؤل، ولا أظن أنني كنت وحيداً أو ضمن قلة مندسة، وعندي من الأسباب ما يؤيد ظني، أختار منها ثلاثة : أولها إن الكثير من المصريين لمسوا عن قرب قدر التحسن الذي طرأ على سمعة مصر في الخارج، سواء كان الخارج بعيداً في أقصى الشرق والغرب أو أقرب جداً في بلاد العرب والمسلمين والأفارقة. أهل هذه البلاد شاهدوا مصر وقد أزالت تجاعيد الكآبة والحزن وظهرت على حقيقتها جميلة وناعمة ومسالمة وراغبة في استئناف العطاء العفيف. وصلتنا أخبار هذه السمعة أو لمسناها وكنا في انتظار من يعلن لنا أن دبلوماسية مصر سوف تركب هذه السمعة وتنطلق.

ثاني الأسباب. كنا قد سمعنا من خلال أصدقاء لوزارة الخارجية في خارجها وأصدقاء لنا في داخلها، أن الوزارة تعيش حالة انتعاش الأمل. كنت في السنوات الماضية أقابل العديد من الدبلوماسيين الذين كانوا على الدوام متألمين للنقد الذي يوجه للدبلوماسية المصرية بسبب أدائها القاصر. كانت قلاع مصر الخارجية تسقط قلعة بعد أخرى ولا نسمع دفاعاً أو تبريراً مقنعا. «كنا نحذر بعض أولي الأمر فيهم من أن هذا السقوط، وقد استمر أطول مما يجب، شارك في تجذير قضايا خطيرة كالفتنة الطائفية وهجرة العقول وفقدان الثقة في قدرة الوطن على البقاء والاستمرار واستعادة حرية قراره».

ثالث سبب من أسباب التفاؤل الذي لازم انتظار مشاهدات ومشاهدي لقاء منى ونبيل، هو أن المصريين قد تسيسوا. فبفضل تعدد المطالب من جانب قطاعات الشعب وتعدد التنازلات من جانب قطاعات السلطة وكثافة المناقشات الدائرة في كل أنحاء مصر وبفضل تعدد الثورات المتلاحقة في عدد من الدول العربية تسيّس المصريون وأصبحوا أقدر وأقوى رغبة في متابعة التطورات السياسية الخارجية واستيعابها والتفاعل معها. هكذا كان حال الناس يوم اللقاء. انتظروه متفائلين وخرجوا منه مرتاحين ومطمئنين. وحسب ما جاء في رسالة القارئة خرجوا من اللقاء وقد انزاح من همومهم همٌّ كبير.

أعرف قيمة الشعور بالتفاؤل وضرورة التبشير به، وبخاصة في أوقات الأزمات الحادة كتلك التي نمر بها، وأعرف أيضاً وأقدر دور نبيل العربي وزملائه وكل من دعم مواقفه الوطنية، ولكن أعرف في الوقت نفسه أن عقبات كبرى ستبقى ماثلة لفترة قادمة أمام القائمين على تخطيط السياسة الخارجية وتنفيذها ويحتاج قهرها الى جهود وطنية. أول عقبة هي «إسرائيل».

لم تكن «إسرائيل» راضية عن قيام ثورة في مصر أو رحيل حسني مبارك، وبالتأكيد هي غير راضية الآن عن الدعوة الملحة لرحيل النظام. أقامت «إسرائيل» الدنيا فور نشوب الثورة وبخاصة حين اتضح لها أن أغلب الثوار ينتمون إلى طبقة كان الظن أن الغرب و«إسرائيل» امتلكوا زمامها. ضغطت على العالم كله ليحصل لها من مصر على تأكيدات بأن اتفاقاتها مع «إسرائيل» لن تمس ولسان حالها يقول فليغير المصريون ما شاءوا إلا ما يتصل بـ «إسرائيل»، بمعنى آخر، أن تستمر مصر كنزاً استراتيجياً لأمن «إسرائيل».

أتصور أن وزير الخارجية المصري بمقالاته قبل الثورة وتصريحاته بعدها أكد لـ «إسرائيل» مخاوفها إذا كانت قد فهمت منها ما فهمه المصريون والعرب جميعاً. فهمنا أن مصر لن تمس الاتفاقيات إلا إذا اتضح لها أن «إسرائيل» مستها قبل مصر أو لم تنفذ إلتزاماتها فيها. فهمنا أيضاً أن مصر سوف تعتبر استمرار الاستيطان وتقييد حريات أهل غزة وفرض الحصار عليهم إجراءات تتعارض والاطار العام الذي اتفق عليه الطرفان.

ونفهم، ونصر على الفهم، أن مصر في أي وقت قادم لن تحقق لـ «إسرائيل» مطلبها «العنصري والفاشي» بأن يكون لها من دون غيرها من دول العالم علاقات «فوق الطبيعية» مع مصر. إذا كان هذا ما فهمناه من الوزير الجديد ولا بد أنه وصل إلى فهم حكام «إسرائيل»، فيجب أن نتوقع أزمات تفتعلها حكومات «إسرائيل» تتعمد من ورائها إحراج مصر وتعطيل تنفيذ برامج الإصلاح وتعقيد أمورنا الداخلية والإقليمية.

ثانياً : كان الوزير واضحاً وقاطعاً في استجابته للرأي العام المصري الذي لم يقتنع يوماً بجدوى تدهور علاقات مصر بإيران. طموحات إيران لم تكن في أي يوم أحد هواجس المصريين الذين عرفوا أنها طموحات مشروعة يجب أن تقابلها طموحات مصرية وعربية وتركية أيضاً مشروعة. لم يكن مقبولاً موافقة حكومة مصر على تكليف صادر لها من دولة أخرى لتتصدر صداماً مع إيران، ولم يكن مقنعاً الادعاء بأن الإيرانيين يخططون لإقامة هلال شيعي، وهي الفكرة السخيفة التي أطلقتها كل من عمّان والقاهرة في آن واحد وجلبت على الحكومة المصرية سخرية قادة الفكر والسياسة.
إن إعلان مصر عن نيتها الانتقال من سياسة المواجهة مع إيران إلى سياسة الحوار والتعاون قد تغضب دولاً عربية هي نفسها تقيم علاقات تعاون مع إيران ويتزاور وزراء خارجيتها والمسؤولون الكبار ويتواصل ازدهار التجارة البينية بين شاطئي الخليج : العربي والفارسي.

ثالثاً : احتار ثوار مصر حيرة لا تقل عن حيرة العالم بأسره في محاولة فهم السياسة الخارجية للرئيس أوباما إزاء ربيع العرب. هناك بالقطع ملامح بالرضى على وجه واشنطن، إذ تبدو الحال العربية في وضع لم يحلم رئيس أميركي منذ أيام الرئيس وودرو ويلسون بأن يتحقق بهذ الشكل وهذه الوتيرة. فجأة سمعت أميركا العرب كافة يتحدثون عن الديموقراطية، وفجأة تشاهد أميركا أكثر العرب عدداً وقد ثاروا يزيحون حكاماً مستبدين وفاسدين، ولكن ليس كل ما كان ولسون وبوش، وأوباما نفسه يحلم به، يلاقي القبول في دهاليز ومكاتب وزارة الدفاع الأميركية، أو في ندوات ومؤتمرات جماعات الضغط الصهيونية. نعرف جيداً كم بذل الكثيرون في الولايات المتحدة من جهود وأموال من أجل أن تكون مصر ذليلة وتابعة ومستكينة، وإن تدثرت بعباءة التحالف الاستراتيجي مع أميركا والعلاقات الأمنية مع «إسرائيل» وعضوية حلف الاعتدال العربي...

رابعاً : بالعقل والعاطفة معا أستطيع أن أقرر بكل ثقة أن أنظمة حكم في بلاد عربية بعينها لن ترحب بثورات سياسية واجتماعية جديدة في العالم العربي، ولن تعيش مرتاحة في مستقبل استقرت فيه ثورات عربية هي الآن ناشبة، هذه الحكومات لن تطمئن وستبذل جهودها وجهود غيرها للحيلولة دون استقرار هذه الثورات، وإن استقرت الثورات وشكلت حكومات «ثورية»، يصير متوقعاً أن تحشد بعض هذه الدول من مواردها ما يكفي لمنع هيمنة هذه القوى الثورية الجديدة على النظام الإقليمي العربي وتسييره.

كل عقبة من هذه العقبات، وكلها مجتمعة أو متحالفة، تهدد سلامة ثورة مصر وأمنها. لا شك عندي في أنه إذا أصاب هذه الثورة مكروه عادت مصر تابعة ومستكينة. لذلك أعتقد أن أول واجبات مؤسسات الثورة، وفي مقدمتها دبلوماسيتها، دعم الثورات العربية الأخرى باعتبارها تمثل خط الدفاع الخارجي للثورة المصرية، والعمل على توسيع تحالفات مصر الخارجية وإقامة، وبسرعة متناهية، علاقات أوثق بالدول والقوى الناهضة في النظام الإقليمي والنظام الدولي، وفي الوقت نفسه التأكيد على أن مصر الثورة لن تسعى عمداً إلى تصدير ثورتها أو إقامة تحالفات إقليمية تقوم على قواعد الثورة ومبادئها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165825

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165825 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010