الاثنين 21 آذار (مارس) 2011

حفاظاً على الثورات العربية

الاثنين 21 آذار (مارس) 2011 par د. كلوفيس مقصود

أمام الإلهام الذي استولدته كل من ثورتي تونس ومصر والآمال الواعدة من إصلاحات جذرية لمؤسسات الدولة وتمكين المجتمعات المدنية من الإسهام في تجيير خبراتها وتجاربها مع الحاكمية الجديدة، نجد في المقابل استفحالاً لشراسة الثورات المضادة في ليبيا واليمن وإن بنسب متفاوتة في ممارسة القمع والاستئثار غير المسبوق بالسلطة وفساد الاحتكار للثروات الوطنية . أجل، أمام هذا الوضع من الكبت و”البلطجة” والتقتيل من دون هوادة يبدو وكأن استرخاص حياة المواطن هو حق ناتج عن سياسات التهميش لحقوقه والإذلال لكرامته، فاحتكار السلطة من شأنه أن يجعل من كل اعتراض بمثابة تمرد يستوجب السحق فتصبح أية معارضة مرشحة للإلغاء، وتصبح كل وسيلة تبرر غاية الاستئثار بالحكم والثروة .

ما هو حاصل في المنظر السائد هو أن الثورة المضادة هي تصميم على تطويق الثورتين الأصيلتين، وإن أمكن ردع حتمية تأثيراتها على المستوى العربي العام .

لذا يجيء قرار مجلس الأمن فرض الحظر الجوي على ليبيا إيجابياً وإن متأخراً جداً، لكن ما دامت الإجراءات التي ينطوي عليها دخلت طور التنفيذ العاجل فهذا من شأنه ردع نظام القذافي أو ما بقي منه من الاستمرار في حالة الإنكار التي يبدو أنه مدمن عليها، وأن يعاقب بشكل فوري في حال قام بتنفيذ تهديداته العشوائية، إذ نستطيع التأكيد أن القرار لحماية الشعب الليبي من شأنه أن يسهم في إخراجه من إطار الثورة المضادة إلى إطار توسيع صلاحية ثورة التغيير التي يتوق الشعب العربي في كل أقطاره إلى صيرورة ما كان يندرج كأحد المستحيلات، أي الوحدة العربية، يصير في حيز الممكن، وإن لم يحقق ذلك جيلنا فعلى الأقل الأجيال التي أنجزت بداية معالمها وتقدمية برامجها . قد يندرج هذا في باب التمني، لكن بعد ما حصل في تونس ومصر يمكن توصيف “التمني” بالواقعية الجديدة .

ولكن ما يحدث في المرحلة الانتقالية الراهنة مليء بالتعقيدات والكثير من العراقيل والتخلف أحياناً في تبني السياسات المطلوبة أو الإجراءات الملحة، كما أن ثورات التغيير عادة تشمل تيارات متعددة ما يستوجب تحويل التعدد إلى تنوع حتى تستقيم معادلة الحوار الذي يعزز حرمة وحرية دراسة البدائل، في حين أن التعددية تستبقي لكل من هذه التيارات حق التفرد مما قد يعطل ثراء الحوار ونجاعة الاختلاف وقد يحول مجرد التباين إلى الاختلاف، وبالتالي إلى الانشقاق، إذا ساد التعدد تقلص درس الخيارات، وإذا تنوعت البدائل عندئذ يتم اعتماد دراسة وتبني الأنجع في رسم استراتيجيات المراحل حيث لا مزايدة ولا مناقصة وبالتالي توافق في الحد المطلوب والإجماع الطوعي في الحد المرغوب .

فمثلاً كان التفوق في تأييد الجماهير العربية لثوار ليبيا وبالتالي كانت إدانة نظام القذافي واضحة بما أسقط شرعية النظام من قبل معظم الأقطار العربية . وعندما استفحلت شراسة القتل العشوائي والجماعي على شعب ليبيا جراء رجحان القوة العسكرية ما مكن القذافي من محاصرة واقتحام بعض المدن التي حررها الثوار كما استرجع مناطق جراء استخدامه للطائرات والدبابات والزوارق الحربية، رغم بطولات من الشعب الليبي، تنامى الشعور بضرورة التمسك بأولوية عقيدة “مسؤولية حماية” المدنيين وهو ما يشير إليه القانون الدولي ب “حق التدخل الإنساني” . ما كاد القذافي يباشر بالقتل الجماعي حتى ارتفعت المطالبة بحق التدخل ما أدى إلى اعتراضات ناتجة عن تجربة غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها ما دفعها إلى تجاوز شرعية مجلس الأمن الدولي . لكن المطالبة بتدخل دولي كان مطلباً للثوار الليبيين أنفسهم منعاً للمجازر التي يمارسها النظام الليبي، لذا فإدانة “التدخل” بشكل مطلق تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب . من هنا كان مطلب ثوار ليبيا شرعياً من المنظور القومي، كما الإنساني، ما دفع مجلس الجامعة العربية إلى المطالبة باستصدار قرار بهذا الاتجاه يوم الجمعة الماضي . إذاً، فإن شرعية هذا التدخل مكتملة والطعن بها أو حتى انتقادها لن ينتقص مطلقاً من شرعية القرار وترحيب الثوار الحماسي بصدوره، فالحماس الذي استقبل به ثوار ليبيا قرار فرض الحظر الجوي إضافة إلى إجراءات احترازية تستهدف حماية الشعب الليبي لا يعزز شرعية القبول بل إن التشكيك بنجاعته يدل إما على سوء فهم لدوافع القرار أو إفراز لشك في نوايا الإدارة الأمريكية .

صحيح أن التشكيك بنوايا الإدارة الأمريكية الحالية فيه الكثير من عناصر المنطق، ليس بالنظر إلى خلفية الذرائع الكاذبة لغزو العراق فحسب، بل أيضاً لأن ممارسة حق النقض (الفيتو) الأخيرة في ما يتعلق بالمستوطنات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية المحتلة من شأنه تعزيز الشكوك بالسياسات الأمريكية في المنطقة العربية . لكن عندما يصبح التشكيك شاملاً ومطلقاً عندئذ يفقد العرب في عالم شديد الاشتباك قدرة التمييز ما يفوت علينا فرص إنجاز قرار مهمش، كما في حالة أي رفض أو تقاعس أو حيادية تجاه قرار مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن، تلبية عاجلة لحاجة الليبيين إلى الحماية القادرة . جدير بالذكر أن أكثر من تردد في المشاركة في إقرار الحظر الجوي على ليبيا في الأسابيع الأخيرة كانت الإدارة الأمريكية خاصة وزير دفاعها ما جعل الرأي العام الدولي خاصة في أوروبا (باستثناء ألمانيا) يدين سلوك إدارة أوباما في بطء اتخاذ القرار المطلوب .

نشير إلى هذه الإشكالية كي نتجنبها مستقبلاً، خاصة أن تحديات كثيرة سوف تجابه حركة النهضة العربية آنياً ومستقبلاً، إذ إننا نشاهد بدايات الثورة المضادة تهدد رصيد ما أنجز وتحقق، ما يستدعي من الطلائع القيادية دراسة الخيارات المتاحة أمامها بشكل يجعلها قادرة على استيعاب المتغيرات المحيطة بالثوابت المبدئية التي تشكل العمود الفقري لبوصلة ثورة التغيير وتوفير المناعة للحيلولة دون نجاح الثورات المضادة التي نراها تصمم على إجهاض ما أنجز وبتر ما تحقق .

يبقى أن الثورة الإصلاحية في تونس وخاصة ما أنجز لغاية الآن في مصر من شأنها حماية مناعة النهضة العربية السائرة نحو أهدافها ومُثلها وإنجاز مطالب جماهيرها . أجل مثلت واقعية ثوار ليبيا في الاستقواء بمصر وتونس في المرحلة الراهنة التمهيد لاستقواء متبادل وبالتالي تكون الثورة العربية هي الرافد الرئيسي لتحرير فلسطين بشعبها وأرضها ومقدساتها، كما هي الممهد لانفتاحنا على العالم، وانفتاح العالم على حقوقنا المشروعة، وبالتالي خروجنا من جاهلية التقوقعات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية وغيرها من الرواسب التي تجهض طاقاتنا في العطاء، لأن من لا يعطي بسخاء لا يستطيع أن يأخذ بكرامة . هذا هو جوهر ثورة التغيير، فلنكن أحرص على مناعتها من خلال الرفض القاطع للمناقصة الهادرة وللمزايدة الهادرة أيضاً .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 106 / 2177190

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2177190 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40