الاثنين 28 شباط (فبراير) 2011

الجيش والثورة: نظرة جديدة

الاثنين 28 شباط (فبراير) 2011 par د. عبد الاله بلقزيز

ينبهنا الموقف الإيجابي للمؤسسة العسكرية من عملية التغيير الثوري في تونس ومصر إلى نظرة جديدة لهذه المؤسسة إلى نفسها وإلى دورها في النظام الاجتماعي وفي كيان الدولة . إذا كان من تحصيل الحاصل أنها تدرك هذا الدور جيداً في مستواه السيادي والأمني العام لكيان الدولة بما هي المؤسسة الحارسة للسيادة والاستقلال والأمن الوطني، فإن ما يقبل أن يُحْسَبَ جديداً هو أثر ذلك الإدراك في نظرتها إلى المجتمع الوطني وإلى علاقة المجتمع بالدولة، وموقع السلطة السياسية في هذه العلاقة، هنا نحسب أن جديداً طرأ في مفاهيم العسكرية العربية لعلاقة كانت ملتبسة، أو كانت المصالح تجعلها تبدو كذلك في ما مضى، وهو طرأ على النحو الإيجابي الذي يحفظ للمؤسسة العسكرية معناها وموقعها الصحيحين .

والحق أن ما نعده جديداً في موقف هذه المؤسسة، خاصة في مصر وتونس ولبنان، إنما هو في حقيقة أمره ليس أكثر من التزامها تكليفها الدستوري كمؤسسة من مؤسسات السيادة، وقد يكون حصل التباس مقصود في معنى السيادة كان الجيش، مثل الشعب، من ضحاياه خلال فترة الاستبداد الطويلة التي تعرضت فيها السياسة للتحريف والحقوق والحريات للهدر والانتهاك .

فلقد قصد دائماً أن تقرن السيادة برئيس الدولة وتختزل فيه، والحال إن مؤسسة رئاسة الدولة ليست أكثر من واحدة من مؤسسات السيادة، حتى ولو كان هو- في التعيين الدستوري - القائد الأعلى للقوات المسلحة والممثل الرسمي للدولة في نظر القانون الدولي . السيادة كما يقول جان جاك روسو، وكما هي في الفلسفة السياسية الحديثة وفي الفقه الدستوري المعاصر، لا تقبل التجزئة وإن كانت تقبل التوزيع على مؤسسات تمثلها بحصص متفاوتة ومختلفة الحجوم من نظام الى آخر . فلا معنى، إذاً، لمثل ذلك الاختزال الذي ظل يغمط الجيش، كما الشعب، حقوقه .

من النافل القول إن صاحب السيادة، في نظام الدولة الحديثة، هو الشعب على ما تنص على ذلك دساتيرها التي تردد المادة المفتاحية التي تقول إن “الشعب مصدر السلطة”، وليس لموقع أو منصب في الدولة أن يصادر من الشعب هذه السيادة التي له، والتي هي مبدأ قيام الدولة كتعبير مؤسسي عنها . على أن الشعب السيد، أو المالك الأول للسيادة، لا يمارس السلطة مباشرة (* ماخلا في الوهم “الجماهيروي” الليبي)، وإنما يختار من يمارسها باسمه ممن ينوبون منابه في التشريع والرقابة على السلطة السياسية التنفيذية، ويمثل هذا التفويض منه لذلك الجسم السياسي التمثيلي جزءاً من ممارسته السيادة، وهو بهذا المقتضى، يملك أن يمنح السلطة إلى من شاء وأن ينزعها ممن شاء لأنه - ببساطة - مصدر السلطة .

ما موقع الجيش في هذه الهندسة الكيانية للدولة الحديثة؟

الجيش نظرياً هو الشعب، تماماً مثلما نقول إن البرلمان هو الشعب، لأن من مقتضيات سيادة الشعب وممارسة هذه السيادة أن يحافظ الشعب على سيادته وأمنه الذي قد تتهدده أخطار من الخارج . على أن الشعب الذي لا يستطيع كله أن يمارس السلطة مباشرة فيكل أمرها إلى جسم سياسي نائب، كذلك لا يستطيع كله أن يتفرغ ليحفظ السيادة وحماية الأمن القومي فيكل أمر القيام بذلك - نيابة عنه - إلى جسم مؤسسي هو الجيش .

على أن بعض الالتباس يبدأ من هنا، أن يحمي الجيش سيادة الدولة وأمنها الخارجي أمر في غاية الوضوح، وقد يختصره القول إنه مؤتمن على صون استقلال الدولة والوطن وترابهما، وأن يحمي أمن الدولة القومي يعني، في جزء آخر منه أيضاً، حماية استقرارها بما هي الكيان المؤسسي المعبر عن سيادة الشعب والإرادة العامة . غير أن عبارة “حماية الاستقرار” تحمل على أكثر من وجه في صراعات السياسة . فالنخب الحاكمة، خاصة في المجتمعات غير الديمقراطية، لا تفهم منها سوى أن على الجيش أن يتدخل لحماية استقرار نظام سياسي تهددته ثورة اجتماعية، أي تهددته حركة اجتماعية من خارج المؤسسات “الشرعية” . أما عند الشعب والمعارضة، فالعبارة تعني أن على الجيش أن يحمي استقرار الدولة لا النظام، وأن يتدخل حين تصادر السلطة من الشعب أو حين يقع الانقضاض الأوتوقراطي أو الأوليغارشي على النظام الديمقراطي .

لا يمكن إدراك وجاهة رواية الشعب والمعارضة لمعنى حماية الجيش للدولة والشرعية إلا متى أخذنا في الحسبان أن مؤسسة الجيش، كمؤسسة من مؤسسات السيادة، نصاب في الدولة مستقل عن حركة الصراع الاجتماعي الداخلي ومحايد إزاءها . إنها ليست جهازاً في يد السلطة الحاكمة إلا في الحالة التي يتعرض فيها الوطن وكيان الدولة إلى تهديد أو خطر خارجي يمس الأمن القومي والسيادة والاستقلال . وهي في هذه الحال جهاز في يد الشعب أيضاً، بل أساساً . أما في ما غير تلك من الحالات، في حال الصراع بين الشعب والسلطة، بين النخب المعارضة والنخب الحاكمة، مثلاً، فلا مجال لانحياز الجيش إلى فريق لأن في مثل ذلك الانحياز مساً بوظيفة المؤسسة العسكرية . وقد تكون الحال الوحيدة لتدخله في الصراع الداخلي هي التي يقع فيها اعتداء على الدستور كتعبير عن الإرادة العامة أو على الشرعية الشعبية باسم الشرعية الدستورية . وقد يكون التدخل هنا مباشراً بإزاحة النخبة الحاكمة المنتهكة للشرعية وتسليم السلطة للمدنيين من طريق تنظيم انتخابات حرة، على مثال ما حصل في سودان الانتفاضة على نظام جعفر نميري، كما قد يكون تدخلاً غير مباشر من طريق حماية الثورة، أو عدم الصدام معها على الأقل، على مثال ما حصل في الثورتين التونسية والمصرية .

على أن الذي يدعو إلى الارتياح الكبير، ونحن في غمرة هذا الشتاء الثوري العربي الذي يوشك أن يمتد زمناً فيصير ربيعاً ثورياً، أن الوعي الحاد بالفارق بين الدولة والنظام السياسي لدى العسكرية العربية - وهو تحول استراتيجي في تاريخها المعاصر - لا يضارعه في القيمة سوى الوعي النظير بالفارق بينهما لدى الشعب . هكذا شهدنا عزوفاً شعبياً، في ثورتي تونس ومصر، عن الصدام مع الجيش أو الاحتكاك به ليس في حقيقته أكثر من إدراك لديه بأن الثورة لا تقارع الدولة وإنما تقارع النظام الحاكم .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165884

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165884 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010