الأحد 6 شباط (فبراير) 2011

مصر وسياسة «الجمل»

الأحد 6 شباط (فبراير) 2011 par نورالدين قلالة

ذكرتني الجِمال والأحصنة التي كانت تشق صفوف المتظاهرين في ميدان التحرير، بالفيلم المصري «بخيت وعديلة» والرموز «الحيوانية» التي أبرزها أثناء في مشهد الأحزاب المشاركة في الانتخابات، الجردل والكنكة والجمل.. على الرغم من أن قانون الانتخابات في مصر يمنع استعمال رموز مثل الجردل والكنكة والفأس والسيف والمسدس والمشط والمومبار..
لست مع هذه الرموز ولست ضد الجمل الذي يعتبر أقرب الحيوانات إلينا نحن العرب، واختياره رمزا، هو أفضل بكثير -في تقديري- من رمز الفيل والحمار في أكبر دولة ديمقراطية في العالم.. وإذا كان زج «الجمل» في العملية الانتخابية يعود إلى عهد ما بعد ثورة يوليو 1952 بسبب تفشي الأمية بين عدد كبير من المواطنين المصريين لعدم قدرتهم على قراءة أسماء المرشحين، فإن زج الجمل في معركة ميدان التحرير ينم عن جهل لا تفسير له. ومن الغريب أن يعتز الحزب الحاكم في مصر برمز «الجمل» باعتباره يرمز للصبر والقدرة على تحمل البلاء، وكأن هذا النظام هو من يتحمل الشعب وليس العكس، وكذلك رمز «الهلال» باعتباره يرمز لقهر الظلام ورمزاً للإسلام.

لكن للجمل حكاية غريبة في ما يحدث في مصر اليوم بين الشعب والنظام، فكلاهما انطبع بجزء من خصائص ومميزات هذا الحيوان الأليف، وكلاهما يشبه الآخر في جوانب كثيرة، فقد أخذ النظام والشعب كل ما اتصف به الجمل من صبر وتحمل وحقد وذكاء ووفاء وحنين وانتقام.

معروف عن الجمل أنه حيوان سريع الانقياد ينهض بالحمل الثقيل ويبرك به. ولهذا قال الله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»، ولا أعرف -إلى الآن- شعبا، في مستوى شعب مصر روحا وثقافة وتاريخا وذكاء، انقاد وراء حاكمه بتلك الصورة التي شهدنها طيلة الـ30 سنة التي حكمه فيها الرئيس مبارك، وجزء كبير من الفترة الساداتية التي قبله، وقد تحمل المصريون حملا ثقيلا لا تتحمله الجمال في صحراء النظام القاحلة، الفقر والفساد والإهانات اليومية في أقسام الشرطة وفي دور العلم والأسواق.

ومثلما تتجاوب الإبل مع التعامل الطيب وتستجيب للرعاية والمداعبة من قبل صاحبها، فقد تجاوب المصريون مع هذا النظام بما يكفي وبما لا يمكن لبشر أن يتحمله، لكن النظام المصري لم يدرك أن تجاوب المصريين مع قادتهم في معظم الأحداث والمناسبات كان نوعا من الصبر وتحمل الشدائد، وأنهم قد يهيجون مثل الجمال يوما وتخشن طباعهم ويتغير سلوكهم، من فرط قهرهم ومعاملتهم بقسوة.

النظام المصري حاليا يوشك على الانتهاء -إن لم يكن قد انتهى فعلاً- والشعب المرابط في الشارع يريد أن يمسح ذاكرته من أي شيء له علاقة بهذا النظام الذي لم يجلب إلا المهانة والذل ليس لشعب مصر فقط بل لكل الأمة العربية. لقد عاش هذا النظام 30 سنة وهو متوسط مأمول الحياة للجمل، ثلاثة عقود من الزمن كانت مليئة كلها بالحقد على هذا الشعب العربي الذي يدرك جيدا المثل الشائع «أحقد من جمل»، فلم يكن منه إلا أنه قرر الانتقام من هذا النظام الذي تمادى في إيذائه والإساءة إليه، فالجمل لا ينسى من قام بإيذائه ولو بعد زمن طويل وهو ينتقم لنفسه من كل من سولت له نفسه التعرض له بأي نوع من أنواع الإساءة، وهي كثيرة جدا في حق الشعب المصري، وهو شعب مطيع وسريع التعلم والتعود وسهل التطبع مثله مثل الجمل تماما.

الصفة الأخرى التي يتصف بها الجمل هي الخوف، فالإبل كثيرة الخوف وتخشى أي شيء غريب حولها حتى المتاع الذي يسقط من على ظهرها، كما أنها رغم حجمها الكبير فإن طفلاً يمكن أن يسوقها لوحده ببساطة. الشعب المصري عاش تحت وطأة الخوف لعقود عديدة، ولازمه الخوف حتى صار من مكونات شخصيته، لكن الثورة التي يقودها شباب مصر الآن تثبت -بما يدع مجالا للشك- أن النظام السياسي هو من خلق هذا الانطباع لدى الشعوب الأخرى بأن المصريين يخافون من خيالهم، فقد خرج شباب مصر في ميدان التحرير خلال الأيام الأولى للثورة وهم يرددون «قالوا عنا شعب جبان.. شوفوا اللي حاصل في الميدان».

وفضلا عن تخلصهم من الخوف، برهن المصريون هذه الأيام أنهم من أشد الشعوب العربية ذكاء وقوة، فهم يديرون الأزمة بحنكة، يتقدمون ببطء وبثبات، يخططون للمستقبل، يعرفون لأول مرة في حياتهم ماذا يريدون «يريدون إسقاط النظام»، ففي العادة، وحسب الانطباع السائد عامة أن المصريين لا يبدون رأيا أو موقفا قبل أن يتأكدوا من الاتجاه العام لمن هو أعلى سلطة منهم، رئيسا كان أو وزيرا أو مديرا أو أي مسؤول آخر.. اليوم حدثت قطيعة فعلية لكل هذه الانطباعات، رغم كل التنازلات المخزية والمخجلة للنظام لا يزالون متمسكين بموقفهم.. «رحيل مبارك». هذا الرجل لطالما اعتبره المصريون زعيما كبيرا وأبا وواحدا من الشعب، كانوا أوفياء ومخلصين إلى أبعد الحدود، لم يبخلوا بكل ما يملكون من أجل مصر وحتى من أجل مبارك، قولا وفعلا، فلن تجد بشرا على وجه هذه الأرض يدافع عن بلده ويعبر لك عن حبه لها مثل المواطن المصري، لديهم «إفراط» في حب مصر، رغم كل ما لاقوه من أنظمتها وساستها.

هذا الوفاء لا يمكن أن تجده إلا عند الجمال التي تقوم بحماية راعيها من البرد والبلل عند هطول الأمطار لدرجة أنها تفتح قوائمها الأمامية على غير العادة ليتمكن من الدخول والاحتماء.

آخر فصول العلاقة بين الجمل وحالة مصر، الحنين، فمثلما تشتاق الإبل إلى ديارها أو مراعيها وتقوم بتنبيه صاحبها أنها تريد العودة.. يشتاق المصريون أكثر من غيرهم إلى بلادهم وهم في أرض الغربة، فما بالك بشوقهم إلى مصر وهم على أرضها. لقد حن الشعب المصري لمصر. حن لمصر عبدالناصر وعرابي وزغلول وأم كلثوم وعبدالوهاب والمنفلوطي وطه حسين والعقاد والرافعي وحافظ إبراهيم وشوقي ومحمد فريد وطلعت حرب.. وكره مصر مبارك وعزّ وسرور ونظيف والشريف والعادلي.. وهو يريد مصر زويل والبرادعي وأيمن نور والجنزوري وفاروق الباز.. والقوائم طويلة طبعا.
فهل يدرك مبارك أخيرا أنه ليس أفضل من عبد الناصر الذي تنحى بشجاعة أمام الجماهير لأنه فشل في حفظ كرامة مصر بعد النكسة، وهو رمز القوة والكاريزما. في حين أن مبارك «مرمط» بكرامة مصر الأرض، وله في رصيده 30 سنة من الفشل، لكنه يرفض أن يرحل، لأن الذين ورطوه وهو يحكم، حفاظا على مصالحهم، هم أنفسهم الذين لم يحفظوا له كرامته وهو يبحث عن مخرج مشرف يحفظ به ماء الوجه.. فهل بقي في الوجه قطرة ماء واحدة يا مبارك؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2166047

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

29 من الزوار الآن

2166047 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 30


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010