الخميس 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010

تركيا المعاصرة بين حقائق التاريخ والجغرافيا

الخميس 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010 par د. يوسف مكي

عانت تركيا طيلة تاريخها المعاصر، من حالة ارتباك بين العصرنة والأصالة . فتركيا في بنيتها التحتية دولة مسلمة، تربطها علاقة الثقافة والتاريخ والجوار بالأمة العربية . وظلت على تماس مباشر بمعظم الأقطار، أثناء توسع ممتلكات السلطنة العثمانية . العودة إلى المحيط العربي والإسلامي، تأتي في سياق تاريخي وموضوعي صحيح .

لكن المشكلات الداخلية والإقليمية التي تعرضنا لبعضها في الحديث السابق، تجعل الحكومات التركية على اختلاف توجهاتها السياسية، حريصة على استمرار علاقتها الاستراتيجية بحلف الأطلسي، ووجود قواعد عسكرية أمريكية فوق أراضيها . فقد كانت العلاقات مع الغرب، أثناء الحرب الباردة، صمام أمان لحمايتها من احتمالات التدخل السوفييتي .

لقد شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ، أن تقع تركيا على الحدود الجنوبية لجمهوريات الاتحاد السوفييتي، وأن تتسم علاقتها به بالتوتر . كانت الأساطيل والغواصات النووية السوفييتية تقترب دائماً من المياه الإقليمية التركية، عابرة مضيق الدردنيل، متجهة إلى المياه الجنوبية في البحر الأبيض المتوسط . ولم تكن علاقاتها بجيرانها العرب، مستقرة دائماً . فإضافة إلى المطالبة السورية التاريخية، بلواء الاسكندرون الذي يشكل امتداداً جغرافياً وبشرياً للأراضي السورية، هناك مشكلة مياه نهر الفرات، التي تسببت في أزمات حادة بين تركيا وبين سوريا والعراق . ولم تكن علاقاتها بجارتها إيران، وبشكل خاص بعد قيام الجمهورية الإسلامية في وضع جيد .

فرضت التحديات المركبة والمعقدة والكثيرة، الداخلية والإقليمية على حكومات تركيا الاعتماد باستمرار على مظلة حلف الأطلسي . وكان على هذه الحكومات أن تدفع ثمن ذلك، بالحرص من جهة، على تبني القيم الليبرالية الغربية، ووضع أراضيها في خدمة استراتيجية الحلف . ليس ذلك فحسب، بل والمشاركة في أحلاف أخرى، كما هو الحال، مع مشروع أيزنهاور لملء الفراغ بالشرق الأوسط، وحلف بغداد، وحلف السنتو، المعروف بحلف المعاهدة المركزية، وجميعها مشاريع موجهة ضد السوفييت والكتلة الشيوعية .

مع بداية التسعينيات حدثت تغيرات كبيرة في المزاج السياسي التركي . لقد تزامنت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، بحدثين رئيسين: الأول صعود التيار الإسلامي السياسي، والثاني فرض الحصار على العراق، الذي استمر لثلاثة عشر عاماً، بعد عاصفة الصحراء . ولكل من هذه الحوادث تبعاته وإسقاطاته على التطورات اللاحقة التي شهدها المسرح السياسي التركي . فنهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، تعنيان أن السيف المطبق على رقبة تركيا من الشمال، جرى التخلص منه . وأن الحاجة لمظلة حلف الأطلسي لحماية المصالح القومية قد تراجعت . ومن جهة أخرى، أدى استمرار الحصار الغربي على العراق، والقمع “الإسرائيلي” للفلسطينيين، واستمرار بناء المستوطنات بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وانطلاق انتفاضة الأقصى، لخلق وضع شعبي مناوئ لسياسة المعايير المزدوجة التي يتبناها الغرب .

وقد ساعد على ذلك، النمو المتسارع للإسلام السياسي، والرفض الأوروبي المتكرر، لانضمام تركيا للسوق الأوروبية المشتركة، وللاتحاد الأوروبي . لقد وجد الكثير من الأتراك في الرفض الأوروبي لالتحاق تركيا بهم، موقفاً استعلائياً، وأرجعوه إلى هوية تركيا الإسلامية، باعتبارها السبب الرئيس لحرمانهم من الحوافز الاقتصادية، التي يتيحها الارتباط بالقارة الأوروبية .

واقع الحال، أن تركيا تعاني من تركيبة سياسية معقدة، فالحريصون على علمانية الدولة هم المؤسسة العسكرية المعادية بحكم موقعها في السلم الاجتماعي، للنهج الديمقراطي . وكانت هي الضامنة لعلمانية الدستور . وهي المستهدفة بالاتهام بارتكاب خروقات واسعة لحقوق الإنسان . ويبدو أن إصلاح هذه المعادلة من الصعوبة بمكان إن لم يكن مستحيلاً . ويبدو الأمر هنا في غاية التعقيد، فالاتحاد الأوروبي، يريد نظاماً تركياً يتماشى مع سياساته، ويلتزم بمعاييره للصواب والخطأ . وكان العسكر لحقب طويلة هم المؤتمنون على جانب واحد من المعادلة، المتمثل في رعاية علمانية الدولة، لكنهم يقودون الانقلابات ويطيحون بالحكومات المنتخبة وتلك هي المعضلة .

من المؤكد أن صعود “الإسلاميين” لسدة الحكم، ليس مبعث رضا من قبل الغرب . ووضع الأتراك في ذلك، يشبه إلى حد كبير، وصول حركة حماس بالأراضي المحتلة للسلطة عن طريق الانتخابات، التي جرت بضغط أمريكي، لكن الأمريكيين أنفسهم ومعهم “الإسرائيليون” لم يكونوا سعداء بنتائج تلك الانتخابات . إنهم مع الديمقراطية شرط اتساقها مع سياساتهم . ولذلك يجدون أنفسهم مجبرين على تأييد الانقلابات العسكرية، والأمثلة في هذا السياق كثيرة . مع الحكومة الحالية، شهدت العلاقات التركية - “الإسرائيلية” جملة من الانهيارات، ففي 29 من يناير/ كانون الثاني 2009 غادر أردوغان مؤتمر دافوس بعد مشاحنة كلامية مع الرئيس “الإسرائيلي”، شيمون بيريز بشأن الحرب على غزة . وأوقفت المناورات المشتركة، بين تركيا و”إسرائيل” . ودعمت تركيا محاولات فك الحصار عن قطاع غزة .

إن التيار الإسلامي التركي، يدرك طبيعة التحول في المزاج السياسي في بلاده . ويعي تماماً أن بقاءه طويلاً في السلطة، لن يكون مرتبطاً بحصده أغلبية المقاعد في البرلمان، أو من خلال الاحتكام إلى القانون، ولكن من خلال الاستناد إلى الشارع ذاته . إنه يدرك أن العسكر لن تكون معركتهم مع التيار الإسلامي سهلة، إذا ما تمكن هذا التيار من جعل الشارع يقف إلى جانبه . فليس هناك قضية سياسية أكثر قدسية وعدالة من قضية فلسطين . وجاذبيتها كفيلة بإضعاف العسكر .

إن أي خطوة، تقدم عليها حكومة أردوغان تجاه تقوية علاقاتها بالجنوب، ستكون رصيداً مضافاً لها داخلياً . فقد اكتشف الأتراك، أن الأوروبيين، ليسوا على استعداد لقبولهم عضواً في قارتهم، رغم محاولاتهم المتكررة، لتجاوز عقبة الدخول إلى السوق الأوروبية، والاتحاد الأوروبي . وطالما أفصح الأوروبيون عن عنصريتهم، ورفضوا أن يجعلوا لتركيا عمقاً أوروبياً، فليس لها إلا أن تعود لمجالها الحيوي الذي استمدت منه حضورها التاريخي، المتمثل في البلدان العربية والإسلامية .

هكذا يتشكل المشهد السياسي والثقافي التركي، فتشهد تركيا مؤتمرات التأييد لعروبة القدس، وتقدم الحكومة التركية على تبنى مسلسل تلفزيوني، “صرخة حجر” يفضح حملات الإبادة “الإسرائيلية”، وتنتقل بعلاقتها مع سوريا، من علاقة مشحونة بالتوترات إلى المستوى الاستراتيجي . إن من شأن ذلك أن يضعف المؤسسة العسكرية، الراعية للعلمانية . ويسهم في تغيير الدستور، ليتواءم مع المتغيرات الجديدة .

لكن السؤال الذي يظل قائماً، هل تمكن الإسلام السياسي، من حسم الصراع نهائياً مع المؤسسة العسكرية، لصالحه، أم أنها استراحة محارب؟ الإجابة عن هذا السؤال رهينة بتقدير التوازنات السياسية في تركيا، وهي أمر لا يمكن الجزم به الآن، وستتكفل الأيام المقبلة بالإجابة عنه .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 86 / 2165261

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165261 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010