الاثنين 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

لئلا تتحول حرب أكتوبر 73 إلى مجرد ذكرى

الاثنين 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

لو لم تتأكد «إسرائيل» تماماً من أن حرب أكتوبر/ تشرين الأول 73 هي آخر الحروب بينها وبين الدول العربية على ما قال زعيم عربي في حينه لما جرؤت على غزو لبنان في العام 1978 (في ما سمي بعملية الليطاني)، وعلى تدمير المفاعل النووي العراقي بالقصف الجوي (1981)، وغزو لبنان واحتلال عاصمته بعد حصارها (صيف 1982)، والعبث بأمنه طيلة حربه الأهلية من خلال شبكاتها العاملة في الداخل، واستباحة سيادة تونس مرتين : في قصف مقر منظمة التحرير في حمّام الشط (1985) وفي اغتيال القائد الشهيد أبو جهاد في بيته بالعاصمة (1987)، واجتياح جنوب لبنان في يوليو/ تموز 1993، وشن حرب «عناقد الغضب» على المقاومة اللبنانية (1996)، وإعادة اجتياح الضفة الغربية وحصار الشهيد ياسر عرفات (2002)، والعدوان على لبنان في حرب يوليو/ تموز 2006، والعدوان على غزة في عملية «الرصاص المسكوب»، ناهيك باستباحة أمن بلدان عربية لاغتيال قادة المقاومة كما حصل في لبنان والأردن والإمارات (دبي).

اطمأنت إلى أن جبهة الحرب في الصراع أقفلت، وتأكدت أكثر حين وقعت اتفاقية «كامب ديفيد» التي أطاحت بالتوازن العسكري وجعلت إمكانية الحرب أشبه ما تكون بالمستحيلة. ثم ما لبث اطمئنانها أن زاد وترسخ بعد أن حسم العرب أمرهم وسلموا بأن «السلام» بات خيارهم الاستراتيجي. وهكذا اجتمعت الأسباب كافة لتمنح «إسرائيل» أمناً استراتيجياً مفتوحاً من دون أن تدفع في مقابله أي ثمن سياسي. بل إنها استثمرت ذلك الأمن لإطلاق يدها في فلسطين استيطاناً وتهويداً وقمعاً، وفي لبنان عدواناً مستمراً وتخريباً وبثاً للفتنة. ولولا أن بعض الردع العربي لغطرستها وعدوانيتها أتاها من حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وكف جموح اندفاعتها الجنونية، وفرض عليها الانكفاء الاضطراري عن جنوب لبنان وغزة، وحساب التوازنات الجديدة في القوة (بعد حرب يوليو/ تموز 2006)، لأطلقت الدولة الصهيونية يدها في الأمن القومي من دون حسيب أو رقيب.

لم تكن حرب اكتوبر المجيدة استثناء شذ عن القاعدة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وإنما هي لحظة متقدمة في صراع حكمته الحرب كقاعدة كما تكرر التعبير عن أحكامها في أعوام 1948 و1956 و1967. الاستثناء الشاذ، الخارج عن مألوف الصراع ومنطقه، هو هذه الهدنة الممتدة على مدى شارف على الأربعين عاماً. وبينما خاض العرب أربع حروب في ربع قرن (1948 1973)، خرجوا عن القاعدة منذ سبعة وثلاثين عاماً. ولم تكن الدولة الصهيونية قد احتلت الضفة والقطاع (ما يسمى بفلسطين اليوم) حين قاتلها العرب في 48 و67. وهم قاتلوها في 73 كي تجلو عن أراضي الـ 67. أما حين هادنوها وأقفلوا الجبهات، وصالحها منهم من صالح، وتطلع اللاحق إلى ما فعل السابق، وترك الفلسطينيون وحدهم لقدرهم، وسلم مصير القضية لأكبر شركاء «إسرائيل» من القوى الدولية، حين حصل ذلك كله، لم تكن الدولة الصهيونية قد جلت عن الضفة والقطاع والقدس، واعترفت للشعب الفلسطيني بالحق في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة، وإنما أقامت على الأرض من الوقائع ما يجعل من هذه المطالب والحقوق على تواضعها أمراً مستحيل التحقق. وهكذا أعطيت السلام ولم تتخل عن شبر من الأرض؛ هل من شذوذ أبلغ في الوضوح والانفضاح من هذا؟

ليس عصرنا الحالي عصر سلام وأمن في العالم ينبذ الحروب ويستعيض عنها بحل النزاعات حلاً سلمياً، ينصف ذوي الحقوق المهضومة في حقوقهم، حتى نسقط خيار الحرب نهائياً ونهيل على قبره التراب. إنه عصر الحروب بامتياز، الحروب التي لم يوقفها انهيار الاستقطاب الدولي بين العظميين، وإنما أطلق جنونها من كل عقال. وفي منطقتنا بالذات، أصبحت الحرب (ضدنا طبعاً) من اليوميات، تتناسل من بعضها كالفطر، وتتحرك بإيقاعات زمنية استثنائية وبكميات خرافية لا سابق لها. في كل عقد حرب أو حربان، والثابت أننا لسنا طرفاً فيها إلا كما تكون الفريسة الطريدة «طرفاً» في المواجهة مع الوحش الكاسر. وكلما أمعنا في اللوذ بالسلم وطلبنا الأمان، أمعن العدو في ممارسة القوة أمام أنظارنا ونحن نتفرج، وهل قليل ما نشاهده كل يوم من وقائع التنكيل بشعبنا في فلسطين؟ ومن الاستهانة اليومية المتكررة بحكوماتنا وجيوشنا ورأينا العام؟

ثم إنه ليس في إقليمنا العربي ما يقوم به دليل شبهة دليل على أننا أصبحنا في منأى من خطر حروب «إسرائيل» وأن حاجتنا إلى الحرب أو إعداد النفس لها قد انتهت، فلا حروبها توقفت، ولا أسلحتها النووية وضعت تحت الرقابة الدولية، ولا إنفاقها العسكري على الصناعة الحربية واقتناء السلاح المتطور تراجعت، ولا مناوراتها العسكرية الكثيفة توقفت، هذا دون أن ننسى احتلالها المستمر لفلسطين والجولان وأجزاء من لبنان. ففيم إسقاط خيار الحرب إذن، بل لِمَ الإعلان عن ذلك جهراً وطمأنة العدو مجانياً على غير المعتاد والمألوف في الصراعات بين الدول؟

لا نبغي القول إن على الدول العربية أن تخوض حرباً جديدة، ولكنا ننبه إلى الحاجة الاستراتيجية إلى عدم إسقاط خيارها من الحسبان، لأن هذا أقل ما تفعله أية دولة أخرى في العالم تفهم معنى المصالح ومعنى الحقوق وكيف تحمى وتصان من الأخطار. وليس ينبغي أن ننتظر احتلالاً «إسرائيلياً» جديداً حتى ندخل الحرب في جدول أعمال السياسة لأن وظيفة القوة العسكرية، في الأساس، أن تمنع ذلك الاحتمال من الحصول. بل إننا نرى اليوم دولاً تخوض حروباً بعيداً جداً عن حدودها، ونحن لا نعلم إن كانت فيتنام أو العراق أو أفغانستان قد احتلت أراضي أمريكية كي تشن الولايات التحدة حروباً عليها. وهذه ليست دعوة إلى الاقتداء بأمريكا، ولكن إلى تعلم معنى الأمن القومي.

وبعد، مازال في وسع العرب أن يعيدوا النظر في مقولة «حرب اكتوبر آخر الحروب» إن أرادوا، ومازال يسعهم أن يتحدثوا عن الحرب والسلام كخيارين فيدفعوا العدو إلى الاختيار. والذين صنعوا ملحمة اكتوبر يشبهون في الكفاءة من صنعوا ملاحم المقاومة في العقود الثلاثة الأخيرة. وهذه الأرض ليست عاقراً وخلواً من الرجال. قليل من الإرادة يصنع الكثير من المعجزات.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165272

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165272 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010