الجمعة 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

الحرب الأميركية على الفلسطينيين

الجمعة 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. عبد الستار قاسم

تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً شعواء لا هوادة فيها على الفلسطينيين في الوسط الشرقي من فلسطين (الضفة الغربية)، وهي تستعمل أساليب صفيقة وحقيرة وصلفة من أجل تركيع الشعب وتذليله وإذلاله وإخضاعه، وتحويله إلى مجرد جثث هوجائية تحل في أجساد بشرية حيوانية لا تعرف حقوقاً، ولا تثأر لكرامة، ولا تبحث عن عزة وشأن.

يتعرض الوسط الشرقي من فلسطين لخطر داهم على يد الولايات المتحدة الأميركية، وهو خطر أشد من الخطر الذي يمثله الاحتلال الصهيوني، ذلك لأنه يهدف إلى هدم الشعب وتحويله إلى أفراد مرتزقة يقايضون، بوعي أو بدون وعي وطنهم وأعراضهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم بحفنة بسيطة من المال، وبمصالح معيشية يومية غير دائمة.

الاحتلال يفرض التحدي، وفشل عبر السنين في تذويب شعب فلسطين، وفشل في قتل الحقوق الوطنية للشعب، لكن الأميركيين بالتعاون مع عملائهم الفلسطينيين من سياسيين وأكاديميين ومثقفين مزورين يحققون نجاحاً متزايداً، ويعملون بدأب على تغييب الوعي وتمزيق الشعب وتفتيته.

المسألة لا تقف عند جرس إنذار لأن الجرس قد دُق مراراً وتكراراً، وتتعدى ذلك لتشكل خطراً إستراتيجياً مرعباً على مصير الشعب والوطن، ولتصنع من الشعب الفلسطيني مهزلة تاريخية تتندر بها الشعوب كمثال على السذاجة والعهر الأخلاقي وتغليب المصالح الذاتية على الأوطان والمقدسات والأعراض.

إننا أمام مهمة عظيمة وقاسية ومقدسة لا يمكن تجاوزها لصالح الفذلكات الدبلوماسية والسياسية، وهي تتطلب جهوداً كبيرة من كل واحد منا : رجل وامرأة، شاب وشابة، عامل وفلاح، مهني وحرفي، مثقف وطني وغير مثقف.

نحن جميعاً أمام اختبار تاريخي : فإما أن تتمزق بواقي ورق التوت وتتكشف عوراتنا تماماً، أو نقف جميعاً متلاحمين نقتسم الرغيف ويحمل كل منا الآخر، فترتفع أعناقنا لنعيد لشعب فلسطين هيبته وكرامته وإصراره على انتزاع حقوقه.

لهذه الحرب الأميركية ملامح رئيسية ومعالم وخطوات عملية نلمسها في الحياة اليومية للوسط الشرقي. لكن قبل أن آتي على عناوين هذه الحرب، أقدم اختزالاً لمسارات السياسة الخارجية الأميركية الاستقطابية والمؤدية في النهاية إلى السيطرة.

تفضل الولايات المتحدة أن تتبع أسلوب تثقيف الأمم الأخرى على الطريقة الأميركية لكي يصبح أبناؤها أميركيين بالثقافة، ويعملون على تبني السياسة الأميركية بطريقة تلقائية بناء على تشريب تربوي. هذه مهمة يقوم بها أبناء الدول المستهدفة من المثقفين والأكاديميين الذين تغريهم الأموال والنعم الأميركية. وقد أقامت أميركا لهذا الهدف آلاف المراكز والجمعيات عبر العالم التي تسوق لها فكرها وثقافتها، وهي تغدق عليها أموالا بمئات الملايين من الدولارات سنوياً.

المسار الثاني يتعلق بالهيمنة الاقتصادية والمالية، وفحواها أن أميركا تتباكى بداية على الأحوال الاقتصادية للناس فتقدم لهم المنح أو القروض، خاصة من خلال المؤسسة الاستعمارية المعروفة بالبنك الدولي. وتبدأ أميركا بإغراق الحكام ببعض المال، وربط مقدرات البلاد بالاستثمارات المالية الأميركية، وخطوة خطوة تغرق البلاد المعنية بالديون، ويتحول اقتصادها إلى مجرد تابع لا يقوى على الحركة بدون التخطيط والتوجيه الأميركيين. وتعمل أميركا بداية على إقامة مشاريع تسر الحكومة والناس، لكنها في النهاية تمص اللحم والعظم.

تعمل أميركا على استبدال زعماء بآخرين إذا لم تجد تجاوبا. إنه من السهل عليها أن تطيح بزعامات لأنها تخترق أمن الدول، وتملك أموالا كثيرة لتجنيد العملاء، ووسائل قتالية متنوعة لتقديم الدعم العسكري إن لزم.

تتوجه أميركا بعد ذلك إلى العقوبات الاقتصادية والحصار إن لم تتمخض السياسة الاقتصادية عن تبعية، آملة من خلال ذلك تركيع النظام القائم وإجباره على التنازل عن إرادة الأمة السياسية. وإن لم ينجح ذلك، تلجأ أميركا إلى تقييم إمكانية القيام بعمل عسكري، وتهاجم إذا رأت ذلك ضرورياً ومفيداً.

في فلسطين، تحقق أميركا نجاحاً من خلال التالي :

[**رعاية التنسيق الأمني*]

أميركا هي التي ترعى التنسيق الأمني بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» من خلال المنسق الأمني الأميركي الذي يتبدل اسمه الشخصي بين الحين والآخر، وهي حريصة تماماً على مراجعة أعمال الفلسطينيين الأمنية لتطمئن على أنهم يتقيدون تماماً بمتطلبات الأمن «الإسرائيلية». وتشارك أميركا «إسرائيل» في تقييم وضع الأجهزة الأمنية الفلسطينية من نواحي التسليح والجهوزية والرواتب والتثقيف وأسس قبول الأشخاص في الأجهزة، ومقتضيات إنهاء خدماتهم. ومعا يعملان على تقييم المرشحين لقيادة الأجهزة الأمنية ومعاونيهم ومساعديهم المباشرين، وتقييم الضباط القائمين على عمليات خاصة.. إلخ.

تصر أميركا باستمرار على التزام «السلطة الفلسطينية» بمعايير وإجراءات ملاحقة «الإرهاب» و«الإرهابيين» (أي المقاومة الفلسطينية)، وهي تحرض دائماً على اعتقال أفراد المقاومة أو الذين يمكن أن يقاوموا من مختلف التنظيمات الفلسطينية بما فيها حركة «فتح»، وتقدم دائماً النصائح والإرشادات، وتصدر أحياناً أوامر لأجهزة «أمن السلطة». وفوق ذلك، يقوم ضباط أميركيون و«إسرائيليون» بالتفتيش على مقار الأجهزة الأمنية في مختلف مناطق الضفة الغربية للتأكد من حسن التزام الفلسطينيين.

أمريكا تعمل بجد واجتهاد على تحويل الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى فرقة من المرتزقة في روث الأجهزة الأمنية «الإسرائيلية»، وهناك من السياسيين والأكاديميين والعسكريين الفلسطينيين من يساعدها في ذلك، ويبرر لها أعمالها.

[**الإشراف على «الأمن الفلسطيني»*]

لا تكتفي أميركا بالتأكد من التزام الفلسطينيين بمتطلبات الأمن «الإسرائيلي»، بل تعمل على الإمساك بالأمن الفلسطيني ليكون في قبضتها تماماً فتسيره كيفما تشاء. وفي سبيل ذلك تعمل على : تقديم تمويل للأجهزة الأمنية خارج إطار ميزانية الدول المانحة التي توفر النفقات الجارية بصورة عامة.

توظف أميركا أموالاً لبناء معسكرات ومقرات للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وللإنفاق على التدريب سواء داخل فلسطين أو في الأردن، أو أحياناً في «إسرائيل» والولايات المتحدة. وتساعد في تكاليف النفقات العسكرية، وتتأكد من أن السلاح الفلسطيني لا يعمل بكفاءة في مواجهة «الإسرائيليين»، وأنه كاف لمواجهة الفلسطينيين.

طبعاً أنا لا أشك لحظة في أن أميركا لا تكتفي بعملائها المباشرين الذين يزودونها بالمعلومات، وهي تزرع مختلف المقار الأمنية الفلسطينية بمختلف أنواع أجهزة التنصت الدقيقة والحساسة، والتي لا تكاد العين المجردة تدركها. ومن المحتمل جداً أن هذه الأجهزة موجودة في خلطات مواد البناء وأساسات الأبنية.

أميركا تستعين أيضاً بمراقبين أوروبيين وكنديين، وخاصة في مجال الشرطة لتتأكد من أن ممارسات الشرطة لا تستثير الناس العاديين، وفي نفس الوقت تلتزم بالمعايير التي لا تتناقض مع الرغبات «الإسرائيلية».

[**الإمساك بأموال «السلطة الفلسطينية»*]

عملت أميركا منذ اللحظة الأولى لتطبيق اتفاق أوسلو، وجنباً إلى جنب مع «إسرائيل»، على التحكم في مصادر دخل «السلطة الفلسطينية» حتى لا تكون للسلطة، فيما إذا وقعت بأيد لا ترضى عنها أميركا، قدرة على اتخاذ القرار. أميركا تدرك أكثر من غيرها، ومن خلال تجاربها المتكررة في دول كثيرة أن الإمساك بالمال يعني الإمساك برقاب الحكام وشل قدرتهم على اتخاذ القرار. ولهذا عملت على إغراء العديد من القادة المدنيين والعسكريين بالمال بطرق متعددة لا تبدو الأمور فيها وكأنها رشوة، ودفعت باتجاه تضخيم الطواقم الإدارية في السلطة لزيادة أعداد الناس الذين يعتمدون على الرواتب المرتبطة بالدول المانحة.

قدمت أميركا الأموال لجهات عدة، وقدمت مع الدول الأوروبية آلاف السيارات الفاخرة وغير الفاخرة حتى يسهل على الفلسطينيين مقايضة الحقوق الفلسطينية. لقد أنشأت طبقة من المستفيدين المباشرين في الجهازين المدني والعسكري وأثارت حسد العديد من الشعب الفلسطيني، كما أثارت احتقار عديدين آخرين. هذه طبقة موجودة الآن وتمسك بزمام الأمور الإدارية، وترى في نفسها قيادة حقيقية يجب أن يحسب لها ألف حساب على المستوى الشعبي. لقد أتت بأنواع متعددة من السيارات الحديثة الأميركية الصنع واليابانية والألمانية، وقدمت الكثير من التسهيلات في التنقلات الداخلية والخارجية.

شجعت أميركا «السلطة الفلسطينية» على توظيف أكبر عدد ممكن في الأجهزة الأمنية والإدارية حتى بلغ عدد الموظفين حوالي 200,000، (لا أعلم العدد الآن بالضبط لأن هناك تكتماً عليه)، وهو عدد لا تحتاجه فلسطين. وقد بلغ عدد أفراد الأجهزة الأمنية حوالي 90,000، وهو رقم لا يحتاجه الوسط الشرقي بتاتاً. الوسط الشرقي (الضفة) لا تحتاج إلا قوة شرطة متواضعة لحفظ الأمن الداخلي، أما الأمن الوطني فلا تستطيع القيام به إلا تنظيمات سرية تعمل بتكتم شديد ضد الاحتلال.

صحيح أن الدول المانحة هي التي تصرف الأموال «للسلطة الفلسطينية»، لكنها لا تستطيع ذلك بدون إذن أميركا و«إسرائيل». أميركا و«إسرائيل» تعطيان الإذن، المرتبط أصلا بمدى اقتناع الدولتين بأداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

[**الإمساك بلقمة خبز الناس*]

عدد الموظفين في «السلطة الفلسطينية» أكبر بكثير مما تحتاجه السلطة الفلسطينية، كما أسلفت، لكن الهدف كان واضحاً وهو ربط أكبر عدد من الفلسطينيين براتب آخر الشهر، وليفكر هذا العدد مراراً وتكراراً قبل تأييد سياسات قد تؤدي إلى عرقلة وصول الراتب. هذا الراتب لا يقصد منه مساعدة الناس وإنما مقايضتهم بالحقوق الوطنية الفلسطينية. إذا كان للشخص أن يحصل على راتب، فإن عليه تأييد «السلطة الفلسطينية»، والابتعاد عن تأييد سياسات لا تتوافق مع الاتفاقات الموقعة مع «إسرائيل». لقد جففوا ينابيع تدفق الأموال إلى الناس وحشروهم في زاوية الراتب الذي يعتبر شريان الخبز الرئيس، بل والوحيد، لمئات آلاف الفلسطينيين في الوسط الشرقي (الضفة).

وإلى جانب ذلك، تم العمل على تعطيل أعمال إنتاجية كثيرة في الوسط الشرقي (الضفة) بسبب الاستيراد من الخارج. لقد أصرت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أن يكون الوسط الشرقي ضمن منظومة التجارة الحرة ولو بشكل غير رسمي من خلال اتفاقية باريس الاقتصادية، فتم تدمير جزء كبير من الإنتاج الفلسطيني. الفلاح لم يعد قادرا على العيش من خلال الزراعة، وتم ضرب النجار والحداد، وضرب العديد من المعامل والمصانع مثل معامل الأحذية في الخليل والخياطة في طولكرم. لقد ارتمى المنتجون في الشارع يستجدون المعونات من المنظمات غير الحكومية، وانتفخ عدد الموظفين الذين لا يعملون.

الهدف واضح وهو نزع الإرادة السياسية الفلسطينية من خلال نزع القدرة الفلسطينية على الاعتماد على الذات. صحيح أن الوسط الشرقي غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكن السياسة الاقتصادية القائمة على تطوير الاقتصاد بطريقة متناسبة مع متطلبات التحرير لا يمكن أن تقبل زيادة الاعتماد على الآخرين، وخاصة عندما يكونون أعداء.

لقد أوجز لي أحد موظفي السلطة الأمر عندما دار حديث حول سحب جزء من السيارات الحكومية من أيدي مستخدميها بالقول : لقد تنازلت عن فلسطين مقابل السيارة، والآن لدي الاستعداد لأقاتل من أجل بقائها معي.

وطبعاً سيلقي الأميركيون بالناس في القمامة غداً بعدما يطمئنون على أن الأنفاس الوطنية للناس قد ضاعت في زخم رغيف الخبز.

[**صناعة القادة والتدخل في تعيينهم*]

أميركا تعمل منذ أواخر السبعينيات على صناعة قيادات فلسطينية، وخاصة من الأكاديميين والمثقفين. لقد بدأت بإقامة جمعيات غير حكومية تحت سمع وبصر الاحتلال بهدف استقطاب فلسطينيين وأغدقت عليهم الأموال. لقد تعرضت أنا نفسي لإغراء عام 1983 لاستقطابي نحو هذا المنزلق، لكنني رفضت. وحاول القنصل الأميركي في القدس زياتي في بيتي قبل عقد مؤتمر مدريد ورفضت، وكان سيأتي -وفق الوسيط الذي كلمني- لإقناعي بالانضمام إلى الوفد الفلسطيني المتوجه إلى مدريد.

لقد ربّت أميركا العديد من الأشخاص على يديها على مدى سنوات طويلة، ومنهم الآن من يتبوؤون مراكز عليا في السلطة، ومنهم من يفاوضون. وفي كل مرة أسمع أحاديث عن المفاوضات والمقترحات والمقاربات، أشعر بالأسى على هذا الشعب الفلسطيني الذي يقدم التضحيات لأن «إسرائيل» في الغالب تفاوض نفسها، أو تناقش مع ممثلي الولايات المتحدة الفلسطينيين.

أميركا استحدثت «للسلطة الفلسطينية» منصب رئيس وزراء، وأصرت على أن يكون محمود عبّاس رئيساً للوزراء. وهي التي قامت بالضغط على عرفات لتعيين الدكتور سلام فيّاض وزيراً للمالية، ثم لعبت دوراً رئيسياً في تعيينه رئيساً للوزراء. وعلى ذلك نقيس.

إن من تصنعه أميركا أو تعينه سيلتزم -لا مفر- بما تريده أميركا، وأميركا تعطيه هامشاً للأخذ والرد حتى لا يظهر إمعة أو مجرد أداة بيدها. إنها تحاول أن تبقي للمتعاونين معها بعض الهيبة لكي يكونوا مقنعين على الأقل للسذج من الناس.

أميركا و«إسرائيل» تلمّعان الزعماء المصنوعين بوسائل عدة، مثل إشاعة أن هذا الزعيم مهني ويدافع عن الحق، أو أنه نظيف اليد وليس كسابقيه من السارقين واللصوص، أو أنه صاحب علم وأخلاق. ومن الممكن أن تسجنه أحيانا لتكون لديه مصداقية.. إلخ. لكن الأهم الآن هو أن يكون هو القابض على المال، ويعتبر المصدر الأول للرواتب.

[**صناعة المثقفين الأميركيين*]

لقاءَ المال، استطاعت أميركا أن تصنع لنفسها طابوراً من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين الذين يصفقون لها وينفذون سياساتها ويدافعون عن مواقفها. لقد قدمت أميركا الكثير من الأموال لإنشاء مراكز للديمقراطية وحقوق الإنسان، وللدفاع عن المرأة وغير ذلك، من أجل استقطاب قيادات، وربط مثقفين بالدخل المالي الذي يحصلون عليه من خلال رواتبهم وحلهم وترحالهم.

هناك عدد لا بأس به من أساتذة الجامعات انضموا إلى أسطول المثقفين المتأمركين، والذين يتغذون على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. هؤلاء المثقفون هم أبطال الغسيل الثقافي الذي من شأنه طمس ثقافة الشعب والأمة لصالح ثقافة غازية لا تهدف إلا إلى السيطرة والهيمنة.

انخرط العديد من المثقفين في جمع المعلومات عن الشعب الفلسطيني تحت مسمى البحث العلمي، وقدموا معلومات قيمة ساهمت في تحسين قدرة أميركا، وقدرة دول غربية أخرى على اختراق المجتمع الفلسطيني، والنفاذ إليه بسياسات مبنية على استنتاجات وتوصيات هؤلاء المثقفين الفلسطينيين. وقد حصل هؤلاء على أموال طائلة إلى درجة أن ورقة من عدة صفحات كانت تأتي لصاحبها بأكثر من ألف دولار. هذا فضلاً عن السفريات التي كانوا يحصلون عليها، والمؤتمرات التي كانوا يشاركون فيها والتي كانت تعقد داخل فلسطين وخارجها.

هل رأى العالم فلسطينياً بسيطاً كفلاح أو عامل أو حرفي يصافح صهيونياً بهدف بيع الوطن أو يقيم معه علاقات أو يساوم على فلسطين؟، هذه أمور لم يجرؤ على القيام بها إلا الذين دست أميركا في أفواههم الدولارات من المثقفين والأكاديميين.

[**تقديم أموال الدعم*]

عدا عن الإمساك بميزانية السلطة وتوجيهها بالطريقة التي تراها مناسبة لأمن «إسرائيل» والتبعية المالية، تقوم الولايات المتحدة بإنفاق أموال على إقامة مشاريع مثل شق وتعبيد طرق، وبناء مدارس وعيادات صحية، وتمديد شبكات كهرباء وماء، وذلك لتصنع لنفسها وجها جميلاً في أعين الناس. عادة ما تتولى مؤسسة «يو أس إيد» مثل هذه المشاريع، وينتشر لها الآن الكثير من اللافتات الدعائية في مختلف أنحاء الضفة الغربية.

تريد أميركا أن يذوق الناس طعم الرفاه حتى لا تشغلهم الهموم الوطنية. عندما يصاب الناس بالرفاه فإن معايير المصالح تتبدل وتتغير، ويتحول الناس إلى مصالحهم الخاصة بدل الانشغال بالهموم العامة. فمن ركب السيارة الفاخرة، وحصل على الخلوي، ووفر مالاً للأكل في المطاعم، واستطاع السفر، وارتفع منسوب استهلاكه بصورة عامة، لا يفكر في العودة إلى الوراء من أجل وطن. هذه قاعدة لا تنطبق على الجميع، لكنها تصف ظاهرة حاضرة وقوية في الشارع الفلسطيني.

وينشط في هذا المجال البنك الدولي الذي طالما خدم الاستعمار الأميركي، والذي يعمل باستمرار على دراسة الأوضاع الاقتصادية في الوسط الشرقي وتوجيهها بالطريقة التي تبقي على رقبة الفلسطينيين مربوطة بالإرادة الاقتصادية الأميركية.

وقد نجح هذا البنك - مع مختلف عناصر العمل الأميركي والعمالة الفلسطينية - في أن يوصل عددا كبيراً من الناس إلى درجة الاقتناع بأن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يستمر في الحياة إلا إذا كان متسولاً. أعداد غفيرة من الناس تحتج عند مواجهتها بالحقيقة سائلة : من أين نأكل؟، نسي هؤلاء الناس - الذين في أغلبهم يؤدون الصلاة والصيام - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأن يحتطب أحدكم أفضل من أن يسأل الناس. ونسوا قوله إن اليد العليا خير من اليد السفلى. لقد ألقى الأميركيون والمثقفون الفلسطينيون على عيون الشعب غشاوات مقيتة مضمونها الذل والهوان والتواكل.

دعمت «إسرائيل» رئيس مجلس قروي في منطقة طولكرم لأنه التحق بروابط القرى التي كان من المفروض أن تمسك «السلطة الفلسطينية»، فعبدوا له طرقات بلدته، ومدوا له شبكة ماء وكهرباء، وحسنوا من أوضاع قريته. نظر الناس إلى تلك القرية، فتمنى بعضهم لو أن كل رؤساء المجالس القروية أعضاء في روابط القرى. لقد صنع «الإسرائيليون» من خلال الدعم المالي من ذلك المتعاون العميل بطلاً في منطقته، وبطولته لم تكن سوى تخاذل وطني مقابل مشاريع غير مؤهلة للديمومة.

هذا وتشهد تجارب الأمم بأن البنك الدولي والأموال الأميركية قد حفرا أخاديد المديونية، وأصبحت الدول مدينة وغير قادرة على سداد خدمة الديون، وتحول حكامها إلى أدوات ومطايا للسياسة الأميركية.

[**الزعران (الأشقياء) المؤدبون*]

ترسل أميركا إلى فلسطين أميركيين مدربين على خداع الناس واستقطابهم وإيهامهم بأن الخير كله لهم ومن أجلهم. أميركا معنية بأشخاص يتقنون «الزعرنة» المؤدبة التي تبدو حلوة في ظاهرها، وهي خبيثة في داخلها. هؤلاء يتدربون على مسح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، على الرغم من أنهم ليسوا خبراء حقيقيين، ومن ثم يقدمون توصياتهم المختلفة والتي من شأنها في النهاية أن تخدم مصالح الولايات المتحدة لا مصالح الناس.

فمثلاً قال الخبراء الأميركيون إن الخصخصة هي السياسة الاقتصادية الحكيمة والناجحة، ودفعوا السلطة إلى خصخصة ما هو موجود من مؤسسات اقتصادية مثل الكهرباء. هذه الخصخصة تعني أن الأرباح تصبح هي هاجس أصحاب الشركات، وليس فكرة تحرير الوطن واستعادة الحقوق. إذ كيف يمكن لشعب أن يسير في طريق خصخصة تقوم على هوس الأرباح وهو تحت الاحتلال؟، وجود الاحتلال يتطلب إقامة سياسة التكافل والتضامن والتعاون، لا سياسات الأرباح. وللأسف نحن في فلسطين نتصرف كالبلهاء، ونسير مربوطين في ذيل الحمار الأميركي.

ومثال آخر هو تخفيض الضرائب على السيارات. لقد سر الناس كثيرا بهذه الخطوة، ولكنهم لم يدركوا أن الهدف هو تعزيز العقلية الاستهلاكية لديهم، ودفعهم نحو الحصول على قروض من المؤسسات المالية في الوسط الشرقي.

هؤلاء الزعران قادرون على تجميل القبيح، وهم يتمتعون بقدرة جدلية قوية، ويساعدهم في ذلك شعور العربي بالنقص الذي يجعل من الأجرب خبيرا. هؤلاء الخبراء الوهميون عبارة عن نصابين وأفاقين وجدليين تدربوا على الخداع والكذب وقلب الحقائق، وهم قادرون على التلاعب بحكام يدينون لأميركا بوجودهم كحكام.

[**التلاعب بالأرقام*]

أميركا تتلاعب بالأرقام وخاصة من خلال البنك الدولي الذي يصدر إحصائيات تشير إلى نجاح الحكام الذين تدعمهم أميركا. فمثلا قد تتحدث الأرقام عن نمو اقتصادي كبير، في حين أن هذا النمو يذهب إلى جيوب الأثرياء ولا يرى منه الفقراء إلا النزر اليسير. أو قد تشير إلى زيادة أعداد السيارات مما يدل على الرفاه، لكن ذلك يتم على حساب القيم الوطنية والمسؤوليات الأخلاقية. أو قد تقول إن نسبة جباية الضرائب قد ازدادت، لكن دون أن تشير إلى ضغف الإنتاج، وهكذا.

إنهم يوهمون الناس في الوسط الشرقي بأرقام لا تعبر عن الحقيقة، وهي كالتالي : إنهم يعملون على زيادة الفجوة بين الخدمات والإنتاج، وبين الاستهلاك والإنتاج. إنهم معنيون بأن يبقى المستوى الاستهلاكي في الوسط الشرقي أعلى من مستوى الإنتاج من أجل أن يبقى الشعب الفلسطيني تحت طائلة الديون، أو متسولاً. مثل هذا الوضع لا يخدم إلا «إسرائيل»، ويتغذى على الروح الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني في الوسط الشرقي.

ومن يحكم الوسط الشرقي؟.. الذين يحكمون الوسط الشرقي هم المنسق الأمني الأميركي، والقنصل الأميركي في القدس، والمخابرات المركزية الأميركية. أما الوجوه التفلزيونية فهي فلسطينية. يعتمد هذا الثالوث على وكلاء أمن سريين وظاهريين، وعلى مؤسسة «يو أس إيد»، والبنك الدولي، وعلى المثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين قدموا أنفسهم لخدمة السياسة الأميركية، وعلى أجهزة أمنية فلسطينية. ربما لم يكن بعضهم راغبا في تقديم هذه الخدمة بداية، لكنه الآن متورط فيها حتى أذنيه، ولا يستطيع أن يخرج إلا إذا تغيرت الأحوال الفلسطينية في الوسط الشرقي بصورة جوهرية.

وخلاصة القول : إن الأميركيين في حربهم على الشعب الفلسطيني يحققون نجاحاً في الوسط الشرقي (الضفة)، لكنهم لم يحسموا المعركة بعد. فما زالت هناك قوى كبيرة ومنتشرة على الساحة تقف في وجه هذا العدوان المستمر، وهي في الحقيقة فاعلة ومن الممكن أن تضع كوابح على التقدم الأميركي.

لكن هذا الغزو يمكن أن يصاب بضربة قوية إذا نشطت المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال «الإسرائيلي».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 96 / 2165622

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165622 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010