الاثنين 27 أيلول (سبتمبر) 2010

في الذكرى السنوية الأربعين لرحيل عبدالناصر

الاثنين 27 أيلول (سبتمبر) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

ليس في وسع أية كاريزما أن تصطنع نفسها اصطناعاً، فهي وإن كانت ظاهرة سياسية عريقة في تاريخ المجتمعات والأمم والحضارات، ليست صناعة سياسية تقوم بأمرها الدولة والسلطة والأيديولوجيا. وكل من جربوا أن يصطنعوا لهم كاريزما متوسلين هذه الأدوات، خسرت تجارتهم في حياتهم وبعد الممات خاصة. هيبة القائد، ورمزيته الأسطورية، وسحر تلك الرمزية في النفوس، ليس مما يكون بالاصطناع ولا القوة على الناس تفرضه. القوة الوحيدة التي تفتح لهذه إمكان الكينونة هي قوة الكاريزما نفسها. وهذه، وإن كانت أشبه ما تكون بالقوة السحرية غير القابلة للتعليل، تقبل تفسيراً اجتماعياً يخرج ظاهرتها من الإبهام والغموض. وبيان ذلك أن الكاريزما لا تخرج من عدم، وأن الناس لا يرفعون رجلاً إلى مقام الرمز الأسطوري، إن لم يكن قد أتى من عظيم الأفعال ما يمنحه استحقاق السمو به إلى ذلك المقام.

جمال عبدالناصر واحد من هؤلاء الذين استوطنوا الوجدان الجماعي، وارتفعوا في مخيال الناس إلى مقام الرمز الأسطوري، وشكلت كاريزماهم السياسية علامة فارقة في تاريخ العرب : قديماً وحديثاً. وعبدالناصر من هؤلاء الذين لم تصطنع الدولة هيبتهم وسحرهم في النفوس، ومن الذين لا تدين صورتهم وقامتهم إلى دعاية أو أيديولوجيا. وقد يقول قائل اعتراضاً منه على ما زعمناه إن عبدالناصر كان رئيساً لدولة ذات تاريخ عريق في التنظيم المجتمعي وفي إنتاج أساطير البطولة وتخليد الحكام في النقوش والمعابد والمدافن، وإنه لا يبعد أن تكون كاريزما عبدالناصر من ثمار هذه التراكمات والمواريث، فالدولة التي حكمها عرفت بقوة أجهزتها الدعائية، والمجتمع الذي عاش فيه مسكون بفكرة الأنا الجماعية المتجسدة في رمز، وحين تلتقي قدرة الدولة على تصنيع صورتها المهيبة، وصورة القائد الذي يقوم على أمرها، بالفكرة الفرعونية الضاربة بجذورها عميقاً في المخيال الجمعي للناس، فما الذي يحول دون قراءة وفهم أسباب كاريزما عبدالناصر من هذا المدخل الأنثروبو سياسي؟

وقد نسلّم مع القائل بما يقوله تسليم المفترض لا تسليم المعتقد لو أن الجغرافيا الرمزية والكاريزمية لعبدالناصر كانت مصرية حصراً. حينها قد يكون عسيراً رد هذه الفرضية على ما يعتور مادتها وبناءها من قصور. أما وأن جغرافيا تلك الكاريزما فاضت عن حدود مصر البشرية، والسياسية، والأنثروبو ثقافية، وغطت البلاد العربية من أقصى المغرب إلى أقصى الخليج، فالأمر قطعاً يختلف. فقد مر على العرب من غير شعب مصر حينٌ من الدهر لم يكن فيه عبدالناصر، بالنسبة إليهم، مجرد رئيس دولة من دول العرب المتكاثرة، كان أشبه ما يكون برئيس العرب أجمعين، يأمر فيطاع وتنقاد إليه النفوس والإرادات انقياداً، صوره معلقة على جدران الغرف ومحفورة في الذاكرة، صرخته تهتز لها الشوارع، ضحكته تفتح أفقاً، ونكسته أو وفاته قيامة قبل الميعاد. ليس قليلاً أن ملايين الأطفال الذين ولدوا في الخمسين عاماً الأخيرة حملوا اسم جمال : وما كان شعبياً اسمه قبل أن يهل هلال صاحبه، وأن جمهورا غفيراً من الآباء آثر تسمية البكر من أبنائه خالداً كي يكنى بأبي خالد تيمناً بعبدالناصر.

لم تكن كاريزماه، إذن، من فعل فاعل : إذاعة، أو جريدة، أو مجلة، أو تلفاز. ولا كان الولع الجماعي به زلفى ونفاقاً وتقرباً بالتجلة من حاكم. صنعتها له في الناس أفعاله بعد إذ أدركت الناس كم كانت ثمارها على حياتهم ومستقبل أبنائهم عظيمة. وصنعها له صدقه مع النفس والشعب والأمة، وتواضعه الاستثنائي، وعطفه الإنساني العميق على الفقراء والمحرومين ونضاله من أجل تحسين أوضاعهم وكفالة حقوقهم. ثم صنعتها له شجاعته في مواجهة الأعداء بإمكانات متواضعة ما كان له أن يغطي الثغر فيها بغير تفجير طاقات الأمة واستنهاضها من الخمود والخمول. «ارفع رأسك يا أخي» : عبارة في غاية البساطة، قد تقرأها في كتاب أو جريدة، أو تسمعها في حديث إذاعي أو من أفواه المارة، فلا يستوقفك فيها شيء ولا تحرك في أعماقك ساكناً راكداً. لكن عبدالناصر ملك بها دنيا العرب من أقصى الماء إلى أقصى الماء، وافتتح بها درساً في الكرامة القومية، وأفرج بها عن طاقات كانت تنتظر من يفلقها فتتفجر كينبوع ماء في بيداء يحرقها الصَّهْد. ولقد ارتفع رأس العرب في عهده لأن رأسه كان مرفوعاً.

هو وحده، مع شعبه وأمته، صنع كاريزماه. صنعها بما اجترحه من مكتسبات كثيرة، في بحر عقد ونصف، في ميادين التنمية الوطنية والعدالة الاجتماعية، ومقاومة الأحلاف الاستعمارية والمشروع الصهيوني، ودعم حركات التحرر الوطني، والعمل الدؤوب من أجل الوحدة العربية. في عهده، دخل الملايين من أبناء الفلاحين إلى المدارس، وعادت الأرض المسروقة من أهلها إلى أهلها بالإصلاح الزراعي وتحديد الملكية العقارية، وأصابت الكادحين النَّصفة في حقوقهم. وفي عهده تعلّم المشروع الصهيوني كيف يحسب حساباً للعسكرية العربية ولإرادة القتال في الأمة. وفي عهده، لم تعد الوحدة العربية مجرد فكرة نظرية أو فرضية سياسية، بل إمكان تاريخي قابل للتحقق متى صدقت الإرادات. وفي عهده، أصبح العرب شركاء في صوغ النظام الدولي من طريق اجتراح منظومة عالمية مستقلة عن المعسكرين. وفي عهده كانت مصر القائد والمعلم والقدوة والمثال، وكان الوطن العربي مركزاً من مراكز القرار في العالم. رجل النهضة العربية الثانية ورمزها كان، وذلك كان يكفي كي يرتفع مقامه في وجدان العرب أجمعين.

مثل ومضة سريعة شعّت واختفت ظهر عبدالناصر ورحل. وبين اللحظتين غيّر وجه التاريخ في المنطقة. ولقد ذهب الزمان بالكثير الكثير مما صنع وأنجز، وانقض على تراثه الثوري والنهضوي مَن انقضّ، وبقي منه اسمه وذكراه وما يبعثانه في النفس من حنين إلى حلم ضائع لم يجد من يعثر عليه ويبتعثه من تحت رماد الحريق العظيم. وكلما بلغ الاستنقاع العربي مداه وأوغلنا في عصر الانحطاط الجديد، نلتجئ إلى عبدالناصر ونلوذ به ونشهده على حالنا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2178341

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178341 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40