الجمعة 24 أيلول (سبتمبر) 2010

حل الدولتين.. الصهيونيتين

الجمعة 24 أيلول (سبتمبر) 2010 par د. سمير كرم

تدل كل المؤشرات الصادرة من المفاوضات المباشرة بين «إسرائيل» و«السلطة الفلسطينية» على أن «إسرائيل» تريد أن تستمر في حكم العشرين في المئة من اراضي فلسطين التاريخية التي ستكون نصيب الفلسطينيين من الاراضي في نهاية المطاف.

بمعنى آخر فإن «إسرائيل» تريد ان تفرض سلاماً صهيونياً كنتيجة لمفاوضات السلام. اي انها تريد سلاماً تحكمه العقيدة الصهيونية ليس فقط في دولة «إسرائيل» كما نعرفها اليوم بحدودها الجغرافية ونظام الحكم وبهيمنتها الاقليمية والعالمية، وتريد ان تشمل العقيدة الصهيونية في الحكم ايضاً الدولة الثانية، فيما يسمى «حل الدولتين».

وينبغي ان لا يفوتنا هنا ان العقيدة الصهيونية ليست في الاساس عقيدة دينية او فكرية، انما هي عقيدة في الحكم والسيطرة. وتمسّك «إسرائيل» بالصهيونية هو في اساسه تمسك بطريقة في الحكم. افكار الصهيونية لا تتعلق بالمجتمع قدر ما تتعلق بالدولة التي تحكم هذا المجتمع، اي الطريقة التي تتم بها الدولة قمع الطبقات لقبول حكمها بينهم... حتى لا نقول قمع طبقة لباقي الطبقات المجتمعية.

كذلك ينبغي ان لا يكون خافياً ان الصهيونية الاميركية التي تضع نفسها في خدمة النخبة الحاكمة «الإسرائيلية»، اي في خدمة النخبة الصهيونية، تقوم بدور مساعد لا يمكن إغفال النظر عنه في المسعى الأميركي لإنجاح هذه المفاوضات المباشرة. فلقد تمكنت العقيدة الصهيونية بقوة من السيطرة على مجالين اساسيين في الحكم، احدهما الاقتصاد وثانيهما السياسة الخارجية للدولة الاميركية، وفي هذين المجالين تحديداً تظهر هيمنة الصهيونية «الإسرائيلية» على الدولة الاميركية، على نحو يتجاوز كثيراً قدرات اللوبي الصهيوني الاميركي، الذي يلعب دورا مستمراً في توجيه السياسة الاميركية لمصلحة الصهيونية الاميركية.

من ثم فإنه ليس من العسير إقناع الدولة الاميركية بأن دولة فلسطينية «صهيونية» ستكون في خدمة الولايات المتحدة ومصالح الدولة الاميركية على غرار «إسرائيل»... حتى وإن بدا للمراقب العربي ان الامر هو على العكس تماماً من ذلك.. اي ان الدولة الاميركية هي في خدمة الصهيونية «الإسرائيلية» لأبعد مدى ممكن.

المهم ان ندرك ان ثمة تعاوناً اميركياً كاملاً في تنفيذ خطة «حل الدولتين». وهنا ايضاً لا بد من إيضاح الفرق بين مجتمعين ودولتين. لا يمكن تحويل المجتمع الفلسطيني اياً كانت مساحة الارض التي يعيش عليها الى مجتمع صهيوني، فهو مجتمع عربي الثقافة والتاريخ والعقائد الدينية والأخلاقية وعربي النظرة للمستقبل... اما الدولة فهي شيء آخر. انها اداة الحكم والسيطرة على الطبقات. وليس من قبيل الصدفة ان المجتمع الفلسطيني قد شهد في السنوات العشرين الاخيرة تبلور نخبة ثرية يمكن ان تلعب دور الطبقة الرأسمالية في التعامل مع العالم الغربي ـ اميركا اولاً ـ لم تكن موجودة الا في الشتات الفلسطيني. اما الآن فان ثمة نخبة حاكمة فلسطينية في السلطة تملك وتحكم، تملك الثروة وتحكم بها ومن اجل صيانتها. وهذا وضع ساهمت الولايات المتحدة في خلقه وتجده ملائماً كثيراً لمصالحها.

ربما نتساءل اذا كانت «السلطة الفلسطينية» برئاسة عبّاس تعي ـ بوعي كامل ـ خطة «إسرائيل» لتحيل سلطته في الحل المنتظر الى دولة صهيونية تدين بالتبعية للصهيونية «الإسرائيلية». وأياً كان الجواب فإن نيات «إسرائيل» تبقى كما هي : ان تحكم الدولة الفلسطينية حكماً مباشراً من خلال وجود المستوطنين اليهود في اراضي الدولة الجديدة... وهذا احد أهم اسباب تمسك اليمين «الإسرائيلي» الحاكم باستمرار الاستيطان في الاراضي التي ستصبح خاضعة نظرياً للدولة الفلسطينية. إن الدولة الفلسطينية التي تحكمها الصهيونية تشكل الضمان الكامل لسيطرة «إسرائيلية» عقائدية وفكرية وسياسية واقتصادية، بل وحتى نفسية، على الدولة الثانية.

ان «إسرائيل» الصهيونية ممثلة بشكل خاص في اليمين الحاكم الآن بزعامة نتنياهو لا يكتفي بأي قدر من التعهدات من جانب «السلطة الفلسطينية» بأن الدولة الفلسطينية لن تكون معادية للسامية او لن تكون ذات سياسة قامعة للعداء للسامية. وهذا سبب آخر لإصرار دولة «إسرائيل» على ان تكون الدولة الثانية التي ستقوم الى جانبها، انما بسيادة محدودة ومنزوعة السلاح، ستكون صهيونية الاتجاه والسياسات. ولا نستطيع ان نغفل حقيقة ان «إسرائيل» حاولت في زمن سابق ان تطبق القاعدة نفسها على السلام مع مصر ثم على السلام مع الاردن ولكنها لم تستطع المضي في محاولتها الى المدى الذي تهدف اليه الآن بالنسبة للدولة الفلسطينية.

قد يواجهنا عند هذا الحد من رؤية الهدف «الإسرائيلي» في المحادثات المباشرة تساؤل ـ وهو بالتأكيد تساؤل مشروع ـ عما اذا كان هذا الطرح غريباً في وقت تتراجع فيه الصهيونية بعد كل ما ارتكبته «إسرائيل» باسم الصهيونية من اخطاء، بعضها بحجم جرائم... ابتداء من حرب تموز 2006 في لبنان ثم الحرب على غزة في شتاء 2008 - 2009 ثم جريمة قتل تسعة من نشطاء السلام الاتراك على السفينة التي كانت متجهة بهم الى غزة من اجل رفع للحصار «الإسرائيلي» عنها.

نعم السؤال مشروع ولكن تراجع الصهيونية في انظار العالم ونشطائه المدافعين عن السلام وحقوق الانسان انما يشكل سبباً إضافياً لحقنها بقوة إضافية، علها تبدو كما بدت في بداية تأسيس الدولة الصهيونية : «إسرائيل». ان الصهيونية في ظروف التراجع الحالي تطالب من يرعاها ويقدم الأدلة على نجاحها على ان يضع اختامها على اوراق تأسيس الدولة الفلسطينية تحت مظلة «إسرائيل» العسكرية والامنية والسياسية.

إن العالم يمر الآن بلحظة تاريخية لم يعد فيها يرى اخطاء «إسرائيل» الاستراتيجية والامنية مسؤولية «إسرائيلية» بحتة، انما يردّ هذه الاخطاء الى العقيدة الصهيونية ويوجه انتقاداته الى الصهيونية وزعمائها والى مجموعة الاساطير ـ الاكاذيب التي بنيت عليها، منذ البداية، ثم تحولت الى عقيدة تتبنى التطهير العرقي وتمارس سياسة القوة وسياسة الاستعمار الاستيطاني والتشريد ضد الفلسطينيين. وهذه هي بالتحديد اللحظة التي يعتقد زعماء الصهاينة في «إسرائيل» وأميركا انها تتيح الفرصة لرد الاعتبار للصهيونية.

اما كيف يكون رد الاعتبار للعقيدة الصهيونية فإن التمسك بهذه العقيدة يفرض سلوكيات ونظريات معينة لا يمكن التخلي عنها من دون التخلي عن الصهيونية، وبالتالي التخلي عن سبب وجود «إسرائيل» حيث هي. إن المتمسكين بالصهيونية لا يستطيعون على اي نحو ان يغيروا نظرتها العنصرية للمسلمين والمسيحيين، الفلسطينيين بوجه خاص. فهؤلاء في نظر المعتنقين للصهيونية في مرتبة ادنى من المرتبة البشرية وبالتالي لا يمكن ان يمنحوا الحقوق التي تمنحهم العقيدة السماوية لليهود من دون غيرهم (...).

والعالم ايضاً يمر بفترة اعادة نظر في الاعتقاد الذي رسخته «إسرائيل» بأنها دولة ديموقراطية بحكم كونها صهيونية. لقد كشف العالم بوضوح ازدواجية النظرة «الإسرائيلية» الى، من هو يهودي صهيوني ومن هو يهودي مناهض للصهيونية، ثم الى من هو غير يهودي. هذه مستويات ثلاثة للتعامل مع البشر حتى من هم مواطنون «إسرائيليون»، وهذا مناقض تماماً لزعم الديموقراطية. ان استخدام «إسرائيل» لمعايير دينية في التمييز بين الناس، يتناقض كلية مع مبادئ الديموقراطية، ولكنه لا يتناقض انما يتفق تماماً مع ما تمليه العقيدة الصهيونية بنظرتها العنصرية التي لم تعد تخفى على المعنيين بقضايا السلام وحقوق الانسان، فضلاً عن ميلها الجارف لاستخدام القوة المفرطة والعنف حتى ضد المدنيين غير المسلحين. وقد شهدت على ذلك حتى الصور التي وزعها الجيش «الإسرائيلي» لعمليات قذف غزة بالقنابل الفوسفورية البيضاء، والتفاصيل عن هذا العدوان الواسع اكثر من ان تحصى.

ولا تزال «إسرائيل» تبدي حرصاً لم تتوقف عنه ابداً في اي مرحلة منذ تأسيسها على ان تبعد الامم المتحدة عن «القضية الفلسطينية». ليس هذا فقط لأنها تفضل الولايات المتحدة على الامم المتحدة كطرف ينحاز لها بصفة دائمة، انما لأن الامم المتحدة تمثل بالنسبة لـ «إسرائيل» المنظمة التي تابعت الصهيونية من بداية تأسيس الدولة اليهودية واتخذت منها مواقف سلبية في اقل الاوصاف. وما إبعاد الامم المتحدة عن مفاوضات يفترض ان هدفها تأسيس دولة جديدة هي الدولة الفلسطينية الا دليل إضافي على ان «إسرائيل» تريد لهذه الدولة ان تكون تابعة لها قبل ان تكون عضواً في الامم المتحدة فضلاً عن ان تولد في داخل المنظمة الدولية.

فضلاً عن هذا كله فان «إسرائيل» تريد دولة فلسطينية تسيطر هي على مستقبلها، ترسم هي حدود علاقاتها مع العرب والدول العربية، على اساس من منها، اقام علاقات سلام مع «إسرائيل» ومن منها لم يدخل السلام مع «إسرائيل» من اي من ابوابه. ان «إسرائيل» تريد ان تكون الدولة التي تحكم الجزء اليسير من فلسطين الذي سيكون تحت حكم السلطة دولة تستطيع ان تضمن احداث اليوم التالي ليوم توقيع معاهدة السلام او معاهدة الدولتين. ولنا ان نتصور نوع التعهدات التي ستلزم «إسرائيل» بها الدولة الثانية لكي تضمن امنها. ..تعهدات ضد المقاومة، تعهدات ضد مناهضة الصهيونية او التعاون مع المنظمات والجمعيات المناهضة لصهيونية «إسرائيل»، وتعهدات ضد التعاون او حتى التعامل مع المنظمات والجمعيات اليهودية التي سبق لها ان ارتكبت خطايا تأييد حقوق الشعب الفلسطيني، او تلك التي تظاهرت يوماً ضد الترسانة النووية «الإسرائيلية» في اوروبا او في اميركا او آسيا او في اي مكان.

ولن تستطيع «إسرائيل» ان تحتمل دولة فلسطينية تقيم صلات مع المنظمات الاميركية التي تناهض الصهيونية، او التي تعتقد ان كل ما تعاني منه الولايات المتحدة من عداء او كراهية من جانب المسلمين او انصار السلام وحقوق الانسان، انما يرجع الى تحيّز اميركا التام واللامبدئي واللاأخلاقي لـ «إسرائيل» ضد العرب وضد المسلمين. ولا يضمن هذا الامتناع الفلسطيني عن التعامل مع منتقدي «إسرائيل» الا ان تكون الدولة الفلسطينية نفسها دولة صهيونية.. اي جهاز قمع لكل ما هو ومن هو ضد الصهيونية ومبادئها وممارساتها.

ولا يمكن ان يغيب عن اذهان المفاوضين «الإسرائيليين» وسط هذا كله ان الحل البديل المطروح من قبل كل القوى التقدمية فلسطينية وعربية ويهودية وعالمية هو حل الدولة الواحدة الديموقراطية التي يعيش فيها اليهود والفلسطينيون مسيحيون ومسلمون على قدم المساواة. هذا هو الحل المناهض للصهيونية فعلا الذي يمكن ان تنتهي اليه القضية الفلسطينية نهاية عادلة من وجهات النظر تلك، عدا وجهة النظر «الإسرائيلية» الصهيونية. ولا يكاد يكون هناك شك في ان «إسرائيل» تريد المفاوضات المباشرة من اجل حل الدولتين لتتخلص من حل الدولة الواحدة اكثر من اي احتمال اخر.

انه التمسك بالصهيونية والحل الصهيوني الذي يجعل «إسرائيل» تريد حل الدولتين وتريده بصفة اساسية ان يكون حل الدولتين الصهيونيتين.

قوة «إسرائيل» وراء حل الدولتين بهذا المعنى. وقوة الولايات المتحدة وقدراتها وراء حل الدولتين ايضا بهذا المعنى. تؤيده الصهيونية «الإسرائيلية» وتعمل بكل جهدها لانجازه. وتؤيده الصهيونية الاميركية وتعرض امكانياتها لتحقيقه.

وفي هذا الاطار المحفوف بالمخاطر، لا يتمتع حل الدولتين بتأييد حقيقي خارج اطار الدولة «الإسرائيلية» وخارج اطار الدولة الاميركية. فلقد اصبحت الصهيونية حصاناً خاسراً في سباق السلام حتى وإن كانت لعبت دور الحصان الفائز في سباق الحرب.

وأصبح من الضروري خوض المعركة الآن باعتبارها المعركة ضد الصهيونية... وضد خطط الدولتين الصهيونيتين «الإسرائيلية» والفلسطينية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2165962

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165962 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010