السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010

مكانة مصر والفبركة الصحافية

السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010 par عبدالباري عطوان

نشعر بالخجل ونحن نقرأ تقارير اخبارية مطولة في معظم الصحف البريطانية، تتحدث عن كيفية اقدام صحيفة «الأهرام» العربية الرائدة، والتي تتلمذ في مدرستها آلاف الصحافيين على مدى قرن ونيف من الزمان، باجراء تغييرات فنية، على صورة بثتها وكالات الأنباء العالمية، لزعماء الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والأردن و«السلطة الفلسطينية» و«إسرائيل»، وهم في طريقهم الى قاعة الإجتماعات الرئيسية في البيت الابيض لتدشين افتتاح مفاوضات السلام المباشرة، بحيث ظهر الرئيس حسني مبارك يتقدم الجميع، بينما كان الأخير في الصورة الأصلية.

عملية التزوير هذه، وما تنطوي عليه من سذاجة، ألحقت ضرراً كبيراً بالجهود الضخمة التي يبذلها العديد من المثقفين والإعلاميين العرب داخل الوطن العربي وخارجه، لإصلاح الصورة السلبية عن الإعلام العربي في اوساط الصحافيين والسياسيين الغربيين.

[**

الصورة المفبركة كما نشرتها الأهرام في عدد الثلاثاء الماضي (صفحة6)

*] مصدر الخجل ان هذه الجهود، التي يبذلها جيل جديد من المراسلين والعاملين العرب في الإعلام الغربي، او في بعض الوسائط الإعلامية الغربية، بدأت تعطي ثمارها الإيجابية، وتغير الصورة النمطية عن عدم صلاحية الإعلاميين العرب للعمل بطريقة علمية ومهنية راقية. واصبحنا نشاهد العديد من الوجوه العربية على شاشات محطات دولية مثل «بي.بي سي» و «سي.ان.ان» وفي صحف مثل «الغارديان» و«نيويورك تايمز» و«لوموند» و«دير شبيغل» واخيراً في محطات تلفزة عربية محترمة ناطقة باللغتين العربية والإنكليزية.

لا نعرف من هو الشخص المسؤول عن هذه الفضيحة المهنية والأخلاقية، ولكننا نعرف جيداً انه اراد ان يوصل الى قرائه صورة كاذبة مزورة تظهر ان الرئيس مبارك يقود ولا يُقاد، ولهذا اتى بها من مؤخرة الصورة الى صدارتها، مستعيناً باحدث التقنيات الفنية او ما يعرف في عالم التصوير بـ «الفوتو شوب».

[**

الصورة الأصلية

*] ومن المفارقة ان برنامجاً ترفيهياً مصرياً اذيع على حلقات في شهر رمضان المبارك الماضي يحمل عنوان «فبريكانو» قد لجأ الى هذه التقنية لاحراج ضيوفه من الفنانين الكبار، باظهارهم في صور مع غرباء بشكل محرج، على غرار «الكاميرا الخفية» لاضحاك المشاهدين، ولا بد ان الذي يقف خلف عملية التزوير هذه لصورة الرئيس مبارك قد تأثر او استمد فكرته هذه من البرنامج نفسه.

من المؤكد ان الرئيس مبارك لم يأمر بارتكاب هذه الحماقة، وربما لا يعلم بأمرها حتى كتابة هذه السطور، فالحاكم الفعلي في مصر حالياً هو البطانة الفاسدة، واصحاب الصوت الأعلى هم «وعاظ السلطان»، وهذا ما يفسر حالتي التسيب والإرتباك اللتين نرى مظاهرهما في مختلف اوجه الحياة في البلاد.

[**♦♦♦♦*]

البطانة الفاسدة تدرك جيداً ان ايامها باتت معدودة، وان مصالحها باتت مهددة، ولذلك تريد اطالة امد النظام بالوسائل والطرق كافة، القانونية منها وغير القانونية، الأخلاقية وغير الأخلاقية، حتى لو جاءت النتائج مضرة بمصر وسمعتها وما تبقى لها من مكانة.

[**

الصورة المفبركة

*] ممارسة اعمال الفبركة والتزوير ليست حكراً على المشهدين الإعلامي والسياسي في مصر وحدها، وانما باتت «ثقافة» منتشرة في مختلف انحاء الوطن العربي، ولكن لا بد من الإعتراف لبعض وسائط الإعلام الرسمي المصري بالريادة في هذا المضمار، وتصديرها للكثير من الخبرات «المتميزة» الى الجوار الإعلامي الرسمي العربي.

فمثلما تتم عمليات تزوير صور الرئيس مبارك التي تنشر على صدر الصفحات الأولى شاباً يافعاً في الأربعينات من عمره في قمة لياقته البدنية والنفسية، فلا غرابة اذن اذا ما تم تزوير نسبة النمو الإقتصادي في البلاد، والأرقام حول الإحتياطي من العملات الصعبة، ونسب التضخم، والبطالة، واعداد الوظائف التي توفرها المشاريع الوهمية سنوياً.

نعلم جيداً ان مسؤولين كباراً في النظام المصري استأجروا خدمات شركات علاقات عامة غربية كبرى، واستعانوا بخبراء اعلاميين في محطات تلفزة بريطانية من اجل تحسين صورة النظام في الخارج، ورصدوا عشرات الملايين من الدولارات في هذا الصدد. ولا نعرف كيف ستكون مشاعرهم وهم يرون الصور المزورة هذه تنشر في مختلف صحف العالم الكبرى، وقبل اسابيع معدودة من اجراء الانتخابات البرلمانية التي تؤكد صحف النظام، نقلاً عن مسؤولين، انها ستكون الأكثر نزاهة وشفافية في تاريخ الإنتخابات المصرية.

توقعنا، وبعد افتضاح عملية تزوير الصور هذه، ان يتقدم المسؤولون عنها باستقالتهم، او ان يقدم «اولو الأمر» على إقالتهم، وان نقرأ اعتذاراً للقراء وحتى للرئيس مبارك عن هذه الخطيئة، ولكن هذا لم يحدث، ويبدو انه لن يحدث، فلا احد يستقيل في الوطن العربي من اهل البطانة، لأن هذه الأخطاء دافعها حسن النية اي حماية النظام وضمان ديمومته.

هذه الفضيحة الإعلامية ليست شأناً داخلياً حتى نتجنب الخوض فيها، فالأضرار الخطيرة المترتبة عليها لا تمس الصحافة المصرية وسمعتها ومصداقيتها، وانما سمعة الصحافة العربية ومصداقيتها والعاملين فيها ايضاً. فقد اعادتنا الى المربع الأول مجدداً، ووضعتنا جميعاً، او معظمنا على الأقل، في موضع الإتهام والدفاع عن النفس بالتالي.

فمصر كانت رائدة في الإعلام المهني الحر، وعندما كانت تشهد نهضة اعلامية وفنية وثقافية كان الوطن العربي في معظمه غارقاً في الجهل، ومن المؤلم ان نرى صحيفة «الأهرام» الأوسع انتشاراً والأعمق جذوراً، تنحدر الى هذا المستوى الذي لا يمكن ان نرضاه لها نحن الذين تخرجنا من مدرستها.

قيادة مصر ورئيسها للمنطقة، وللزعماء الآخرين لا تتم بالتزوير، وفبركة الصور، وانما من خلال نهضة سياسية واقتصادية حقيقية وسياسات اقليمية فاعلة وشجاعة، وهي امور بديهية لا نرى اي اثر لها في مصر حالياً.

[**♦♦♦♦*]

الرئيس مبارك كان يجب عليه ان يبقى في مصر، وان لا يلبي دعوة الرئيس اوباما، لكي يكون شاهداً على انطلاق مفاوضات مباشرة مفروضة بالقوة على الطرف الفلسطيني الضعيف، ووفق الشروط «الإسرائيلية»، وهو الرجل المريض والمسن.

القيادة الحقة تتأتى من خلال اقامة قاعدة اقتصادية صلبة، وديمقراطية حقيقية، وصحافة حرة، وقضاء مستقل، وفصل واضح ومقدس للسلطات، ورقابة برلمانية صارمة على اداء السلطة التنفيذية، ولا تنطبق اي من هذه على النظام الحالي في مصر، بل وجميع الأنظمة العربية الأخرى دون أي استثناء.

الكذب والتزوير وفبركة الصور لن تعيد لمصر ريادتها ولا مكانتها القيادية في المنطقة والعالم، بل جرها وبسرعة اكبر الى المزيد من التدهور على الصعد كافة.

النموذج التركي الذي نراه بأعيننا، ونتابع صعوده بشكل مطرد يمكن ان يشكل منارة تهتدي بها مصر والدول العربية الأخرى للسير في الطريق الصحيح نحو التقدم والنهوض والرخاء، نموذج عنوانه النزاهة والحريات ومحاربة الفساد، وفتح المجالات امام الإبداع، وتكريس الإصلاح السياسي والإقتصادي وفق ديمقراطية شفافة، وتعددية سياسية حقيقية، فهذا النموذج هو الذي جعل تركيا تحتل المكانة السادسة عشرة على قائمة اقوى الاقتصادات في العالم.

نريد ومن اعماق قلوبنا لمصر القيادة والزعامة، ولكن ليس من خلال التزوير والفبركة واعمال التضليل والكذب التي تمارس حالياً وتستهدف المواطن المصري الفقير المطحون، مثلما نريد لصحافتها القومية الرائدة ان تستعيد ريادتها في مصر والعالم العربي بأسره، ولكن من خلال ممارسة دورها كسلطة رابعة، وفي اطار منظومة من القيم والأخلاق المهنية الرفيعة، واعتماد الكفاءات العلمية والمعرفية، وتنقية صفوفها من كل المطبلين والمزمرين والمزورين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165930

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165930 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010