الاثنين 6 أيلول (سبتمبر) 2010

مذكّرات سماسرة وخزائن دولة الأسرار الميّتة

الاثنين 6 أيلول (سبتمبر) 2010 par راكان المجالي

ثمّة أسرار ميّتة، وأخرى أصـحابها ميّتون. وما بين موت الأسرار، ورحيل أصحابها وصانعيها، تُدفنُ أشياء كثيرة. أما الأحياء، فعلاوة على أسرارهم، التي يصنعونها بأنفسهم أو تلك التي يملكونها، فهم يحتفظون بمفاتيح خزائن أسرار أسلافهم، والمقصود هنا طبعاً مَن يحتلون مواقع المسؤولية والقرار.

ويزداد الأمر تعقيداً، حين تتعلّق الأسرار بتاريخ إنشاء الدولة العبرية، وتفاصيل تكوّن المأساة الفلسطينية. فتعقيد الأسرار لا يتوقّف عند ذلك «التـاريخ» أو تلك «المأساة»، بل يتعداهما الى ما هو أبعد مِن ذلك بكثير. لتصبح «قصة الأسرار»، وأنظمة إخفائها، هي حكايا تكوّن الشرق العربي المعاصر كلّه، بشكله العجائبي، الذي يعرفه الناس اليوم. ذلك الشرق القلق، الذي ذكر عنه معهد أبحاث هندي للسلام مؤخراً، في دراسة حديثة، أنه خسر على التسليح العسكري، خلال تسعة عشر عاماً، ما قيمته اثنا عشر تريليون دولار، أي بمعدّل 1,7 مليار دولار يومياً تقريباً.

... «إن السرّ هـو معلومةٌ يعرفها اثـنان فقط أحدهما ميت». تلك عـبارة كان يكرّرها كثيراً «تيدي كوليك»، رئيس بلدية القدس الأسبق. وهي عبارة قالها قبله كثيرون، بلغـاتٍ شتّى، وبألفــاظ ومفردات مختلفة، غير أنّ المعنى بقي، على طول الدهر، واحداً.

وفي هذا السـياق، صدر مؤخراً كتاب مترجم عن العبرية في دمشق. وعلى الرغم مِن تأخّر ترجمته (صدر بالعبرية في العام 1969)، إلا أنّه يفتح شهـية المعرفة العربية على الأسرار الميّتة كلها. فالكتاب هو مذكّرات لسمسار صهيوني، هو «يوسيف نحماني»، حيث عمل صاحب المذكرات، مع الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كايمت 1935 - 1965)، بصفة مدير مكتب الصندوق في الشمال، الذي أقيم في مدينة طبرية. وقد بدأ نشاطه الفعلي، كما توضح الرسائل واليوميات والمدونات، مع خروجه إلى الجليل في العام 1911، وانضمَّ إلى منظمة «الحارس ـ هشومير». لكنّ مركز تحركاته لشراء الأراضي كان في منطقة طبريا. والكتاب يتألّف من أربعـة أجزاء، لعلّ أهمّ ما فيه هو ما جاء في الجزء الثالث منه (المعنون : مدوّنات)، حيث يعرض تجربة «نحماني» في الوسـط العربي، منذ عهد الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن. تلك التجربة التي تكشف عن محاولته الدخول إلى تناقــضات المجتمع في فلسطين وشرقي الأردن، واستخدام معرفته بها لتحسين ظروف عمله. فطبرية، التي تقع شمالي فلسطين، هي على مسافة قليلة من شرقي الأردن وسوريا، وبُنيتها الاجتماعية متداخلة مع الجوار في المدن الأردنية والسورية (إربد وحوران والحمة والقنيطرة). (مذكرات سمسار أراض صهيوني (اسم الكتاب الأصلي : رجل الجليل باللغة العبرية)، تأليف : يوسيف نحماني، جمعه وحرّره : يوسـيف فايتس، ترجمة : إلياس شوفاني، الناشر : دار الحصاد ـ دمشق ـ 2010). ولحديث هذا الكتاب وأسراره، وعلاقتها بأسرار أخرى، شأنٌ آخر وصِلات أخرى ..!!

وفي السياق نفسه، لكن مِن موقعٍ آخر، كتبَ «توم سيغف»، المؤرّخ «الإسرائيلي» المعروف، مقالاً ، في صحيفة «هآرتس» أواخر شهر تمّوز (يوليو) الماضي، بعنوان «تكليس قانوني»، ينتقد فيه توقيع «نتنياهو» على تعليمات تُطيل أمد الكشف عن الوثائق السرية في الأرشيف «الإسرائيلي»، باعتبار أنّ ذلك «عملٌ لا فائدة منه». ذلك لأنّ الكشف عن بعض الوثائق أحياناً، التي تكشف عن فشل وإخفاق للأجهزة، يُسهم في منع حدوث ذلك في المستقبل.

وبحسب «سيغف»، صاحب كتاب «الإسرائيليون الأوائل 1949»، فإلى الآن لم يستطع مؤرّخ التوجّه الى أرشيف الدولة، والحصول على ملفات تلك المؤسسة الخفيّة في «نيس تسيونا»، المسماة «معهد الابحاث البيولوجية»، للنظر فيها.‏

إن تعليمات الأرشيفات الجديدة تطيل أيضاً إمكان إخفاء أسرار «إسرائيل» النوويّة، وكذلك أسرار «الموساد» و«الشاباك»، وكل مادّة تُنسّب لجنة ثانوية تابعةٍ للجنة الخارجية والأمن في «الكنيست» الى جهاز الأمن باخفائها، بزعم أن الكشف عنها قد يضرّ بأمن الدولة. ويحقّ للجنة أن تحدد أنه لا حاجة الى نشر قراراتها في «قوائم». أي أن مجرد القرار، بحفظ شيء ما في السرّ، سيبقى سراً. وعلى نحو مشابه، لا تُلزم التعليمات أرشيف الدولة أن يعرض للعموم فهارس تُصنّفُ الوثائق السرية. غير أنّ الأسوأ هو أن صلاحية إخفاء مادة، بزعم أنها قد تضرّ بأمن الدولة، موكولة الى وزير الدفاع نفسه، وليس الى خازن الدولة، أو موظّف مدني مثلاً.

تُمكِّنُ تعليمات «نتنياهو» الجديدة ، وهو ابن مؤرّخ، كما يقول «سيغف»، الدولة من أن تخفي جميع أسرار الحروب كلها، ومنها حرب «الاستقلال 1948»، لا تاريخ مشروعي «ديمونا» و«نيس تسيونا» وحسب. فالدولة لا تريد فقط إخفاء هوية المتعاونين العرب، بل الإخفاقات والفشل وجرائم الحرب، كمجزرة دير ياسين مثلاً. وهو ما يؤكّده المـؤرّخ المعروف «بني موريس»، في كتابه عن حرب الاستقلال، حول سلسلة من الوثائق تخفيها الدولة، وفيها تفصيلات عن مجازر أخرى نفّذها الجيش «الإسرائيلي».‏

ويعبّر «سيغف» عن دهشـته الشديدة مِن «أن اعتبارات سياسية»، أو على الأقل «رغبة في تجمـيل التاريخ»، تمنع كما يبدو الكشف عن تفصيلات تتعلق بعملية في كنيس «مسعودة شم ـ طوف» في بغداد، التي وقعت في العام 1949، حيث انّ الرواية الشائعة أن عملاء مِن «الموساد» قاموا بتنفيذها، ليشجِّعوا يهود العراق على مغادرة بلادهم والهجرة الى «إسرائيل».

وفي محضر جلسة، كُتبت في إحدى الجلسات الأولى للحكومة في العام 1948، تمَّ إخفاء عدة أسطر، تشتمل على ‏معلومات عن السطو على مكتبات خاصة لعرب القدس، ونقلها الى المكتبة الوطنية. ويؤكّد «سيغف» أيضاً، أنّه لم تُفتح، حتى اليوم، جميع الوثائق المتعلقة بقضية «الخزي» في ‏مصر، وقضية «لافون»، التي نشأت على إثرها، وكذلك القضية المتعلقة بعملية سيناء، وقضية «كاستنر»، و عملية «اختطاف ايخمن». وما يزال جزء من نقاشات الحكومة، التي سبقت حرب الأيام الستة، سرياً.

يعتقد «سيغف» : أنّه «لا ‏توجد في «إسرائيل» أسرار تاريخية كثيرة مهمة حقاً». لهذا، تبدو، بالنسبة إليه، محاولة إخفاء معلومات تاريخية حماقة انفعالية مع سبق الإصرار. إذ إنّه توجد معلومات لا ينبغي الكشف عنها، للحفاظ على كرامة الفرد ( ...!). لكن ما يوجد في الملفات معلومات عن إخفاقات تاريخية، وأخطاء وأفعال لا ينبغي فعلها، باعتبار أنّ المجتمع، الذي يلتزم القيم الديموقراطية الاساسية، ‏يستطيع أن يستمد فائدة من الكشف عنها، لأنه ليس هناك طريقة أفضل من ذلك، لمنع هذه الأفعال مِن الوقوع في المستقبل.‏

لا تزال ثقافة الأرشيف الصهيوني، برُفُوفهِ التي أصبحت تُقاس بالكيلومترات، منذ أكثر مِن خمسين عاماً، تُراوغ فــي المفازات العربية، الخاوية مِن كلّ ما يوثّق تاريخها وأحداثها. تلك المفازات، التي هُدرت، لحراثة أرضها وناسها وثرواتها، بالبارود والدمار، المِئات مِن «تريليونات» الدولارات، منذ إنشاء دولة الأسرار الميّتة، في شرقـنا المتوسطي العتيد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2165346

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165346 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010