الجمعة 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017

المستجدّات في المشهد الدولي والإقليمي والعربي -تقدير موقف

الجمعة 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 par زياد حافظ

- مقدمة
تأتي هذه الورقة استكمالا لأوراق سابقة قدّمت لكل من الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي عامي 2016 و2017 وفي الدورة السنوية للمؤتمر القومي العربي الذي عُقد في حمامات في شهر نيسان عام 2016 وبيروت في أيار 2017. لن نكرّر ما جئنا به ولكن سنكتفي بالتركيز على بعض العناوين التي نعتبرها جديرة بالاهتمام وإن كنّا نتحمّل مسؤولية ذلك الاستنساب.
من الواضح أن المشهد العربي مرتبط بشكل عضوي بالمشهدين الإقليمي والدولي كما أن المشهدين الإقليمي والدولي يتأثران بشكل مباشر بالتحوّلات التي تحصل في بعض الساحات العربية وخاصة ساحة سورية والعراق وفلسطين واليمن بشكل رئيس، وبالساحات المصرية والليبية والجزائرية والمغربية. والمستجدّ في المشهد العربي التطوّرات التي حصلت في الجزيرة العربية ومجلس التعاون الخليجي ما يؤكّد قراءاتنا السابقة لها.
الجزء الأول-المستجدّات على الصعيد الدولي
هناك عدّة أحداث، منها استكمال لحقبة سابقة ومنها جديدة، طالت الساحة الأميركية والأوروبية ومجموعة البريكس.

- أولا-المشهد الأميركي
ليس هناك من جديد على الساحة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. لكن الاحداث التي عصفت بالإدارة الأميركية في السنة الأولى من ولاية ترامب كانت متوّقّعة. فالدولة العميقة تعرّقل محاولات الرئيس الأميركي في “تجفيف المستنقع” على الصعيد الداخلي بينما استطاعت ترويضه على صعيد الخيارات السياسية الخارجية. والسمة الأساسية للسياسة الخارجية الأميركي هي المزيد من التخبّط والفوضى وحالة الإنكار لوقائع جديدة في مراكز القوة الدولية. فما زالت النخب الحاكمة في الولايات المتحدّة تقلّل من دور روسيا بل تذهب إلى تحقير قيادات الكرملين، بينما تبرز عجزها في إيقاف التقدّم التي تحرزه موسكو في الشرق الأوسط سواء في الساحة العربية أو في الساحتين الإيرانية والتركية، ناهيك عن الساحات في وسط آسيا. وإذا أردنا تلخيص المأزق الأميركي فيمكن القول إنه ناتج عن تناقض صارخ بين الرغبات الأميركية والإمكانيات المتوفرة لدى الإدارة، وحتى لأي إدارة غير إدارة ترامب. فالواقعية السياسية التي سادت السياسة الخارجية خلال العقود الماضية لم تعد مرغوبة بل أصبحت مرفوضة لصالح ما يمكن تسميته بمواقف عقائدية كمواقف المحافظين الجدد الذين عادوا إلى الواجهة، أو مواقف المتدخّلين الليبراليين منذ عهد الرئيس كلنتون وحقبة هيلاري كلنتون في الخارجية الأميركية، وهذا ما يظهر التناقض بين المواقف العقائدية والإمكانيات الموضوعية لتحقيقها.
هذا التناقض بين الرغبات والقدرات يتجلّى بترهّل ليس فقط البنى السياسية والاقتصادية بل أخطر من ذلك في البنية العسكرية التي تشكل العمود الفقري لتنفيذ السياسة الخارجية الأميركية كما تبيّن في جلسات استماع للقيادات العسكرية في الكونغرس الأميركي في شهر شباط/فبراير 2017 وفي التقرير السنوي لمعهد “هريتاج فونداشن” المحافظ والذي يصد كل سنة تقريره حول جهوزية القوّات المسلّة. كما تبيّنت أيضا في تكرار حوادث الاصطدام بين القطع البحرية الحربية وسفن مدنية إثر الإرهاق وقلّة التدريب وتضخّم المهمات الملقاة على البحرية الأميركية. ويتبيّن ذلك أيضا في رداءة القيادات العسكرية الميدانية ضمن الوحدات الخاصة حيث حوادث إطلاق النار الصديقة (أفغانستان) أو عدم التخطيط المتقن لعمليات عسكرية (اليمن) أو إهمال (نيجر) أو عمليات إجرامية (مالي) أو حوادث اغتصاب، فجميعها تدلّ على أن الجهوزية غير متوفّرة كما يجب للقيام بمهام في كافة أنحاء العالم.
التقارير المختصة حول جهوزية القوّات المسلّحة الأميركية تؤكّد رداءة الجهوزية كما أنها تقارن النوعية التجهيزية والقتالية بين القوّات الأميركية والروسية. فعلى ما يبدو إن التفوّق النوعي للسلاح الروسي بشكل عام أصبح واضحا كما أن الفجوة تزداد مع الأيام. فالقطاع الخاص الذي ينتج السلاح في الولايات المتحدة معني فقط بتحقيق الأرباح وليس بالجودة التي قد تكون مكلفة على الطريقة الأميركية. بينما في روسيا السلاح من صنع الدولة والمؤسسات التي تنتجها ملزمة بالنوعية والكلفة في آن واحد. وأخيرا لا بد من الإشارة أن حروب أميركا في المشرق العربي وأفغانستان كلّفت ما يوازي 5،6 تريليون دولار وفقا لدراسة أعدتها جامعة براون المرموقة وقد تصل إلى 8 تريليون دولار إذا ما احتسبت الفوائد على سندات الاستدانة. فقدرة الولايات المتحدة على خوض حروب أصبحت مقيّدة بكلفتها الباهظة. في مطلق الأحوال نذكّر أن الولايات المتحدة لم تربح حربا بعد الحرب العالمية الثانية. النجاحات العسكرية هي فقط من صنع خيال أفلام هوليوود.
من مظاهر التخبّط الأميركي معالجة الإدارة للأزمة الكورية. فمن جهة هناك تصعيد كلامي غير مسبوق من قبل الرئيس الأميركي ومن جهة أخرى كلام أكثر هدوءً لوزير خارجيته ريكس تيللرسون ولوزير دفاعه جيمس ماتيس. وإذا أضفنا كلام مستشار الرئيس ستيف بانون أن الحرب مع كوريا الشمالية غير ممكنة نرى مدى الفجوة بين الرغبة والواقع. في تقديرنا، يعود الكلام العالي النبرة تجاه كوريا الشمالية لأسباب داخلية وخارجية في آن واحد. على الصعيد الداخلي يجد الرئيس الأميركي أنه بحاجة إلى إظهار تلاحم مع المؤسسة العسكرية التي أصبحت صاحبة الخيارات والقرارات في السياسة الخارجية. العداء لكوريا، ومعها الجمهورية الإسلامية في إيران يعادلان عدم العداء لروسيا عند الرئيس ترامب. فالعداء لروسيا هو أولوية لدى المؤسسة العسكرية الأميركية. ولكن لهذا العداء سقف، بمعنى آخر، توتّر دون مواجهة شاملة فالقوّات المسلّحة ليست مؤهّلة لها في المدى المنظور. لذلك تصبح نقطة التلاقي بين الرئيس الأميركي والمؤسسة العسكرية العداء لإيران ومحور المقاومة.
أما على الصعيد الخارجي فالكلام الكبير عن كوريا الشمالية هو لتطمين حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وإن كانت هذه الدول لا تريد مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية. غير أن الكلام الكبير للرئيس ترامب هو إنذار لكل من الصين وروسيا، أي كما يُقال في العامية: “كلّم الجارة لتسمع الكنّة”. لكن قراءتنا للسلوك الصيني والأميركي هو عدم المبالغة في الاهتمام إلى التصريحات النارية التي لا تدعمها وقائع على الأرض. جولة الرئيس ترامب الأخيرة لدول آسيا اتسمت بخطاب هادئ نسبيا أقرب لواقعية قد تكون موقّتة ولكنها مرغوبة من قبل حلفائه. حتى أن الرئيس الأميركي عاد إلى خطابه في الحملة الانتخابية ودعا كوريا الشمالية لعقد صفقة فليعود فيما بعد ليصف الرئيس الكوري بالديكتاتور في نظام مهووس! لكن ما لفت نظرنا في رحلة الرئيس الأميركي إلى شرق آسيا هو عدم التغطية المناسبة إعلاميا من قبل الإعلام المهيمن ألأميركي. وكأن ذلك الإعلام لا يكترث إلى قضايا الأمن والاستقرار العالمي بينما اهتمامه هو في الأخبار المزيّفة أو الكاذبة التي تملأ الصفحات الأولى أو مقدّمات الأخبار المرئية أو المسموعة لهدف تدمير الرئيس الأميركي مهما كلّف الثمن. بالمقابل فإن رحلة الرئيس ترامب إلى عدد من الدول الآسيوية ليست هدفها تجنيدهم في مساعي دبلوماسية بل لعقد صفقات شراء أسلحة خدمة للمجمع العسكري الصناعي واسترضائه لحماية ولايته.
إن ما يهمّنا أن نلفت النظر إليه هو أن أميركا أصبحت الرجل المريض في القرن الحادي والعشرين. لم تعد تلك القوّة العظمى المهيمنة على مقدّرات العالم بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي. المرض ينخر الجسم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الولايات المتحدة حيث مستقبلاها “قد يكون قاب قوسين” إن لم تجر إصلاحات جذرية في البنية السياسية والاقتصادية والثقافية وبالتالي الاجتماعية. فالتحوّلات في البنية الرأسمالية الأميركية من بنية رأسمالية منتجة للسلع والخدمات تخدم القطاع الإنتاجي إلى رأسمالية مالية تنتج ثروة افتراضية من خدمات لا قاعدة إنتاجية لها وعلى حساب القطاع الإنتاجي الحقيقي، فهذه التحوّلات أسّست لترهل النظام السياسي عبر حكم المال. تمركز الثروة وتمركز قطاعات الخدمات المالية والمواصلة والاعلام في يد أقلّية من شركات عملاقة أجهضت حرّية الرأي فالمسائلة والمحاسبة والمراجعة. لذلك نشهد تكرار الأخطاء في كافة المجالات على أمل أن النتيجة قد تكون مختلفة، وهذا هو تعريف الجنون. والفساد الذي ينخر المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية والقضائية والتربوية والثقافية ينذر بتلاشي المجتمع فالدولة. العولمة أصبحت دينا جديدا يبرّر التدخّلات في الخارج ويهدف إلى إضعاف الدولة الأمة. ما لم ينتبه إليه الأميركيون أن دعاة العولمة والتدخّل في الخارج يساهمون بشكل مباشر في ضرب هيبة الدولة-الأمة في الولايات المتحدة عبر تجاوزهم لكافة معايير القيم والأخلاق وخاصة حكم القانون.
لقد كتبنا الكثير في هذا الموضوع والخلاصة التي وصلنا إليها منذ بداية الألفية الثانية هي تراجع ثم أفول وربما تلاشي الولايات المتحدة في ظرف قد لا يتجاوز الخمسينات من هذا القرن.
- ثانيا-في المشهد الأوروبي

ما زال المشهد الأوروبي يعاني المزيد من التصدّع بعد قرار البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وبعد موجة النازحين واللاجئين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبعد محاولة الانفصال الفاشلة في كتالونيا. وعلى ما يبدو فإن النزعات الانفصالية لن تتوقف وقد تنتشر إلى المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا. فهناك مجموعات عرقية داخل الاتحاد الأوروبي لم تعد قادرة على تحمّل سياسات دول الاتحاد. ليست موازين القوة حاليا في مصلحة تلك الحركات ولكن بات واضحا أن على دول الاتحاد والاتحاد نفسه أن يعيدوا القراءة لمواقف مكوّنات شعوب القارة. فإجراءات التقشّف بحجة ضرورة تنفيذ قرارات وأحكام اللجنة الأوروبية العليا في بروكسيل المتماهية مع سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم تعد مقبولة من قبل شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية.
المهم هنا هو تأكيد الهجوم على مفهوم الدولة-الأمة. فتصريحات رئيس وزراء اسبانيا تشابه تصريحات الرئيس الفرنسي الذي اعتبر المصالح الأوروبية فوق اعتبارات الدولة-الأمة. كما أن التشريعات التي تمكّن قوة المؤسسات العابرة للحدود وعلى حساب السيادة الوطنية والهويات المحلّية هي طريق المستقبل وفقا لوجهة نظر المعولمين. ومن ضمن تلك التشريعات إضعاف الحركة العمّالية عبر فرض القيود عليها وعبر تخفيض الخدمات الاجتماعية. هذه الإجراءات تأتي في سياق التحوّلات للبنية الرأسمالية التي أصبحت رأسمالية مالية تجني الثروة الافتراضية عبر المضاربات المالية والعقارية. مكافأة الرأس المال هو على حساب العمل. أوروبا تتماهى مع الولايات المتحدة في التوجّه نحو حكم الاوليغارشية المالية بدلا من المؤسسات السياسية المعمول به منذ قرنين تقريبا. ونود أن نذكّر هنا أن الاوليغارشية تؤدّي إلى البلوطوقراسية أو حكم المال والأخيرة ليست إلاّ الصيغة المنمّقة للكلبتوقراسية أو حكم اللصوص. فالنظام النيوليبرالي عبر العولمة والفساد وإضعاف الدولة-الأمة يؤدّي في آخر المطاف إلى حكم اللصوص.
من جهة أخرى نشهد أن استمرار أزمة النازحين واللاجئين في العديد من الدول الأوروبية متلازمة مع حوادث إرهابية تسبّب اتخاذ إجراءات أمنية وغيرها تأكل من الحرّيات العامة. الهجوم على الحرّيات بحجة مكافحة الإرهاب يحظى بقبول نسبي بين الجماهير الأوروبية بينما الهجوم على المكاسب الاجتماعية يواجه بعنف. لكن من الواضح أن القبول بتقييد الحرّيات لن يؤدّي إلى المزيد من الأمن بل ربما العكس. فالعنف يولّد العنف والعنف المضاد. في تقديرنا، إن تقييد الحرّيات العامة ليس هدفه مكافحة الإرهاب بل عسكرة المجتمع الغربي بشكل عام والسيطرة على الرأي والتفكير عبر تمركز الإعلام بيد الشركات العملاقة التي تتماهى مع المؤسسات الأمنية. ندعو إلى قراءة مؤلف توم انجلهاردت حول صعود “الدولة الظل”، وهي الدولة الأمنية، والتي بدأت التشريعات في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا واسبانيا وألمانيا في تأسيسها ودعمها.
بالنسبة للعلاقات مع الولايات المتحدة فإن دول الاتحاد الأوروبي في حيرة. من جهة لا يمكنها أن تقبل بالقرارات الأحادية لإدارة ترامب من عقوبات على كل من يتعامل مع روسيا كما لا تستطيع في المدى المنظور مجابهة الولايات المتحدة. لكن من الواضح أن الدول الوازنة في الاتحاد كألمانيا وفرنسا غير مستعدّة لمغامرات غير محسوبة ضد روسيا تماشيا مع رغبات الإدارة الأميركية. وتفيد التقارير أن القرارات الهوجاء للإدارة الأميركية ستدفع عاجلا أم آجلا المانيا إلى المزيد من التقارب مع روسيا. من هنا يمكن فهم “صبر” الرئيس الروسي بوتين على المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. في رأينا إن مستقبل أوروبا هو في التوجّه إلى الشرق، في الالتحاق بالكتلة الاوراسية بدلا من الاستمرار في حلف أطلسي لن يحميها طالما ذلك الحلف بقيادة الولايات المتحدة. فالأخيرة ستستمر في ابتزاز حلفائها الأوروبيين إلى أن يعوا أن يقين مصلحتهم ليس مع الولايات المتحدة.
أما فيما يتعلّق بمستقبل الاتحاد الأوروبي فلا بد له من إجراء مراجعة لتكوينه كما لا بد له من الإصغاء إلى الشعوب التي تشكّله. فالنموذج الاقتصادي الذي يريد فرضه وصل إلى طريق مسدود حيث التخاصم مع الولايات المتحدة يحلّ مكان التكامل أو حتى التنافس التي لا تستطيع الأخيرة تحمّله. فالولايات المتحدة مقدمة على معاقبة منافسيها بدلا من تحسين قدراتها التنافسية التي تستلزم استثمارات كبيرة وطويلة المدى والخارجة عن التفكير الحالي للنخب الحاكمة في اميركا.

- ثالثا-في مشهد “البريكس”
من الواضح أن هناك مشروعين مختلفين يتنافسان على كسب العالم. المشروع الغربي بقيادة الولايات المتحدة يريد الحفاظ على الوضع القائم، ويتبع سياسة “فرّق تسد” في كل أنحاء العالم لإخضاع الدول للمشيئة الأميركية وإن كان على حساب الشعوب. أما المشروع المنافس بقيادة الصين المتحالفة مع الاتحاد الروسي فيعرض شيئا آخرا يهدف إلى تحقيق النمو والتنمية للعالم، ويأخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار، ويخرج عن سياسة “فرّق تسد” لمصلحة التجمّع والتوافق. في مرحلة سابقة لم تكن بعيدة، كان الهدف المشترك لتلك الدولتين ومعهما البرازيل وجنوب إفريقيا والهند، أي دول البريكس، التصدّي لمشاريع الهيمنة الأميركية ورفض التبعية لها. بالمناسبة عقدت مجموعة دول البريكس اجتماعا قبل انعقاد قمة العشرين مما يدل على تماسك المجموعة رغم الأحداث والتطوّرات في كل من البرازيل وجنوب إفريقيا. هذا الموقف الرافض للهيمنة الأميركية طابعه سلبي. أما اليوم فهناك مشروع طابعه إيجابي يصعب على الولايات المتحدة إفشاله، ومن يقف معها من الدول المضلّلة إقليميا وعالميا، والتي فقدت القدرة على قراءة التحوّلات الدولية. فذلك المشروع هو مشروع “طريق الحرير” أو مشروع “حزام واحد وطريق واحد”.
والسوق المرتقب يتميّز بالتواصل الكبير أو المبالغ به (هيبر كونكتيفتي). هذا هو مستقبل العولمة التي قتلها جشع النخب المالية في العالم بينما مشروع الترابط والتواصل التي تروّجه الصين قد يصحّح الانحرافات التي أوجدتها العولمة غير المنضبطة وغير مهتمة بمصالح الشعوب. فهذا السوق الاوراسي يحمل في طيّاته مشاريع عديدة تقدّر 1،4 تريليون دولار وتشمل 64 دولة و4،4 مليار نسمة وتشكّل 40 بالمائة من الاقتصاد العالمي. وهذه المشاريع ستخلق طرقا جديدة، ومترابطة، وجامعة، ومبدعة، في التجارة والصناعة والتواصل مما يجعل جميع المشاركين، دولا وشعوبا، في موقع الرابح.
أما بالنسبة إلى الصين فإن مؤتمر حزب الشيوعي الحاكم في الصين الذي عُقد مؤخّرا شهد رفع مرتبة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى مرتبة القائد المؤسس للثورة الصينية ماو تسي تونغ وإلى مرتبة الرئيس الموجّه لصعود الصين دنغ شاو بينغ. وصعود الصين اقتصاديا أفضى إلى نشأة قوّة عسكرية لا يمكن تجاهلها. في شهر آب عرضنا قراءة لهذه الظاهرة نرى أنه من المفيد إدراج بعض ما أتينا به.
يرى المحلّلون العسكريون أن إجراءات الرئيس الصيني في إعادة هيكلة القوّات المسلّحة عبر تقليص العدد وتحسين النوعية والجهوزية القتالية والعتاد التقنّي الفعّال لإعداد قوّة نخبوية يعني أن الصين تقول للعالم أننا أصبحنا قوّة عظمى ليس فقط على الصعيد الاقتصادي بل أيضا على الصعيد العسكري. هذا يعني أن منظومة شانغهاي الأمنية والاقتصادية أصبح لها أنياب. كما يعنى أن الكتلة الاوراسية ليست فقط كتلة بشرية ومساحة جغرافية ومركز موارد طبيعية هائلة، بل هي أيضا منظومة جيوسياسية عسكرية لا يمكن تجاهلها من بعد. فطريق الحرير، أو ما هو معروف بالحزام الواحد والطريق الواحد، أصبح معبّدا بقوة عسكرية. هذا هو معنى المناورات الضخمة المشتركة التي تقيمها بشكل منتظم مع روسيا، وهذا هو معنى الكشف عن السلاح النوعي الموجود. وأن تأتي هذه الرسائل بعد الإنجازات في كل من سورية ولبنان يعطي بعدا عربيا لتلك الكتلة كما يعطي بعدا على مستوى القارة الآسيوية لمحور المقاومة. التراجع الأميركي في سورية يقابله صعود روسي صيني إيراني عربي مشترك.
لا بد من الإشارة أيضا إلى الخطوات المتقدّمة التي تقوم بها دول البريكس وهي الاستمرار في بناء منظومة مالية مرادفة للمنظومة المالية الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. فالمباشرة بتسعير السلع الاستراتيجية في المبادلات الثنائية بالعملات المحلية كاليووان الصيني أو الروبل الروسي يخفّف من الطلب على الدولار ويعطي بعدا دوليا لليووان. في هذا السياق نسجّل أن صندوق النقد الدولي أقرّ بأن اليووان أصبح نقدا احتياطيا دوليا. كما نشير أن كل من اليووان والروبل يرتكزان إلى الذهب. فما أقدمت عليه الولايات المتحدة عام 1971 بقطع العلاقة مع الذهب لإطلاق عنان الدولار عالميا كنقد احتياطي أول توشك على النهاية. عودة الذهب كقاعدة داعمة للتبادل النقدي أصبحت مسألة وقت ولم تعد مسألة إذا.
أما بالنسبة لروسيا فدورها تنامى بشكل كبير في المشرق العربي وفي دول الإقليم. المفارقة اليوم هو أهمية الدور الروسي الذي تجاوز دور الاتحاد السوفيتي منذ الخمسينات حتى تفكيكه في بداية التسعينات. فالواقعية السياسية المبنية على ضرورات الشعور القومي الروسي ومستلزمات أمنه القومي كان أكثر فعّالية من العقيدة. بالمناسبة مرّت الذكرى المئوية لثورة أكتوبر 1917 بهدوء في مختلف أنحاء الاتحاد الروسي وكأنها فعلا من الماضي الذي يريد أن ينساه الروس.
العلاقات المتطوّرة مع كل من تركيا والجمهورية الإسلامية في إيران جعلت روسيا اللاعب الدولي الأول في المنطقة وعلى حساب الغرب وخاصة الولايات المتحدة. ولا تقتصر الدبلوماسية الروسية على المنطقة بل شملت أيضا شمال إفريقيا. نجاح زيارة رئيس الوزراء الروسي مدفيديف لكل من المغرب والجزائر دليل على دقّة تلك الدبلوماسية. استطاعت روسيا أن تعمّق علاقاتها مع الجزائر التاريخية التي بدأت بالخمسينات مع دعم الاتحاد السوفيتي لجبهة التحرير الوطني في نضاله ضد المستعمر الفرنسي. بينما استطاعت أن تنسج علاقات متينة مع المغرب في القطاع الاقتصادي وخاصة في الزراعة وتزويد المغرب بالغاز السائل.
الجدير بالذكر أن السلطات في كل من المغرب والجزائر استقبلت رئيس الوزراء الروسي بينما ما زال كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل ينتظران تحديد موعد مع العاهل المغربي والرئيس الجزائري. هذا دليل إضافي على التحوّلات التي تجري في العالم والتي تنعكس بشكل واضح في المشهد العربي.

الجزء الثاني-المشهد الإقليمي

أولا-الجمهورية الإسلامية في إيران
من الواضح أن الجمهورية الإسلامية في أيران وصلت إلى مرتبة قوّة إقليمية عظمى يحسب لها ألف حساب. ومن الواضح أن الجمهورية الإسلامية التي أصبحت دولة مراقبة في منظومة شانغهاي الأمنية قد تصبح عضوا كاملا فيها كما أصبحت عمليا جزءا من المنظومة الاوراسية وحتى البريكس. فطريق الحرير التي تسعى الصين مع روسيا إيجاده لا يمكن أن يتحقّق والجمهورية الإسلامية بعيدة عنه. لكن هذا لا يعني أنها لا تواجه تحدّيات كبيرة. فهي مستهدفة من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبعض الدول الخليجية بشكل مباشر.
التطوّرات الأخيرة في بلاد الحرمين جعلت المجابهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية من قبل المحور الأميركي الصهيوني الخليجي أكثر احتمالا مما كان عليه في الماضي القريب. السيناريوهات عديدة ولكنها تأتي تحت سقف الحرب المفتوحة والشاملة التي لا قدرة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني تحمّله في المنطقة. فالجمهورية الإسلامية لها حلفاء عرب وإقليميون ودوليون يستطيعون أن يشكلّوا رادعا. لكن بقواها الذاتية تستطيع أن تلحق الخسائر التي لن تتحمّلها أي من دول العدوان. لكن بالمقابل تستطيع هذه الدول استنزاف الجمهورية الإسلامية إلى حدّ ما كما فعلت بسورية والعراق واليمن. لكن قدرة هذه الدول على الاستنزاف محدودة لأن ضبط إيقاع الاستنزاف ليس بيدها بل بيد الجمهورية الإسلامية التي تستطيع أن تنقل الاستنزاف إلى دول الخليج.
إن تصعيد الكلام بوجه الجمهورية الإسلامية في إيران جاء استجابة لرغبات الإدارة الأميركية التي تريد إعادة النظر بالاتفاق النووي لصوغ اتفاق آخر يشمل القدرات العسكرية والسياسية الإيرانية. وهذه الرغبة الأميركية رغبة منسجمة مع توجّهات الكونغرس الأميركي الذي يقع تحت سيطرة اللوبي الصهيوني. فنقض الاتفاق النووي هو رغبة صهيونية تبنّتها إدارة ترامب. لكن إمكانية نجاح نقض الاتفاق محدودة وإن خرجت الولايات المتحدة بشكل انفرادي من الاتفاق الذي يضم دولا أوروبية بالإضافة إلى روسيا. ليس هناك بوادر تشير أن الدول الأوروبية الموقّعة على الاتفاق تريد الخروج منه أو التعديل فيه كما أنها لا تشاطر موقف الولايات المتحدة.
على الصعيد العربي ساهمت الجمهورية الإسلامية في إيران في القضاء على جماعات التعصّب والغلو والتوحّش في كل من العراق وسورية عبر دعمها للقوات العراقية والسورية والقوى المتحالفة معها. وهذا ما أغاظ كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحكومة الرياض. كما أن الجمهورية الإسلامية داعمة لسورية وفي اليمن لحركة أنصار الله والمؤتمر الشعبي. فإخفاقات قوى التحالف المعتدية على اليمن جعلت حكومة الرياض أكثر تصلّبا في سياسة الهروب إلى الأمام دون أن يتضح أفق الحل.
لكن بالمقابل نجد في العديد من الأوساط العربية المؤيّدة للمقاومة ولسورية نوعا من التململ من بعض المواقف لبعض المسؤولين الإيرانيين توحي بأنهم يتصرّفون بنشوة القوّة الفائضة. فالكلام عن نفوذ إيران في عدد من العواصم العربية لم تبدّده التصريحات الأخيرة لمسؤول كبير في الجمهورية الإسلامية الذي قال إلا يمكن البت بأي شيء في هذه الدول دون الرجوع إلى إيران.
في هذا السياق، كنّا قد أكّدنا في عدد من المقالات والمحاضرات والحوارات مع بعض المسؤولين الإيرانيين أننا كعروبيين نعتبر الجمهورية الإسلامي في إيران عمقا استراتيجيا للأمة العربية وأننا نسعى إلى تكريس التكتّل التاريخي في المشرق بين العرب والإيرانيين والأتراك على قاعدة الندّية والتكامل وليس على قاعدة الهيمنة والتنافس. فالعرب والإيرانيون إيرانيون والأتراك أتراك وعلى الجميع احترام القاعدة. ففي حواراتنا ومقالاتنا حذّرنا من خطر الوقوع في فائض القوة لما يؤدّي إلى انزلاقات مؤذية للقضية العربية والتوازن الإقليمي. فالتصريحات التي تعبّر عن فائض القوّة والسلوك التابع له غير الموفق في العراق مثلا يعطى الحجج لمن يريد مناهضة إيران في المنطقة ويعزّز المواقف التي تدّعي أنها حامية العروبة بينما هي الرائدة في التطبيع مع الكيان الصهيوني. وما زلنا نتابع الحوار على أمل أن تتفهّم القيادات الإيرانية حساسية ودقة الموضوع.
ثانيا-تركيا
ما زالت تركيا تعاني من تداعيات الانقلاب الفاشل الذي أدّى إلى موجة تطهير في مجمل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وخاصة داخل القوى العسكرية والأمنية والقضائية والتربوية. كما اللغة المزدوجة للحليف الأميركي بالموضوع التركي تعتمد على ما تعتبره الولايات المتحدة ضعفا في البنية التركية يمكن الاستفادة منه لتحقيق مكاسب وإن كانت ظرفية وعلى حساب علاقة استراتيجية استمرّت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نشهد سلسلة خطوات اتخذتها القيادة التركية في التقارب مع كل من روسيا والجمهورية الإسلامية وتباعدا متدرّجا عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإلى حدّ ما عن حكومة الكيان الصهيوني. هذا لا يعني أن تركيا تخلّت عن تحالفاتها السابقة إلاّ أن حالة ذلك التحالف ما زالت قائما إلاّ انها أصبحت متصدّعة ومترنّحة باتجاه الانهيار. من الواضح أن القيادة التركية تجد في توجّهها نحو الشرق ملاذا بينما سعيها للتقارب مع الغرب والدخول في منظومة الاتحاد الأوروبي وصل إلى طريق شبه مسدود. لم تخرج تركيا من الحلف الأطلسي ولكن تلك العلاقة أصبحت قاب قوسين. فهناك محاولات تركية لترميم العلاقة مع الولايات المتحدة وذلك هو هدف الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء التركي إلى الولايات المتحدة ولكن من المبكر أن نحكم على النتائج. لكن منحى مسار الأمور هو المزيد من التقارب مع الجمهورية الإسلامية في إيران وروسيا.
إن مصداقية الرئيس التركي في الاستمرار بالتحوّل نحو الشرق هي مصدر قلق في أوساط عربية عديدة. ما زلنا نعتقد أن الرئيس التركي يحاول الابتزاز لكل من روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. سلوك الحكومة التركية في شمال سورية ما زال يثير الشبهات ولكن ما زال الرئيس التركي يعلن تمسّكه باتفاقات الاستانة. الأسابيع القادمة ستبيّن مدى التزام الرئيس التركي بتعهّداته تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران وروسيا. نعتقد أن الدولتين تعيان بشكل واضح “زئبقية” الرئيس التركي وأنها تملك أوراقا حاسمة لمنعه من الانحراف إلاّ بكلفة باهظة لن يتحمّلها.
إن قرار روسيا بتزويد شبكة من الصواريخ المتطوّرة من طرازا “أس-400” تشكّل نقلة نوعية في الدور الروسي كما تشكّل كسرا لأحادية التسليح للقوّات المسلّحة التركية بالسلاح الغربي وخاصة الأميركي. فالجنوح إلى التوازن في مصادر التسليح يؤشّر إلى توازن في المواقف السياسية والتي ليست بالضرورة منسجمة مع توجّهات الحلف الأطلسي. وبالتالي، فإن المزيد من الترقّب والمتابعة للشأن التركي هو عنوان المرحلة الحالية والقريبة المدى وإن كنّا نميل إلى أن المصلحة الاستراتيجية لتركيا تقع في حسم أمورها والتوجّه كلّيا نحو الشرق. فالغرب لن يقدّم لتركيا غير الكلام المعسول في وقت الضيق التركي إذا ما تناقضت مصالح الغرب مع تركيا وهذا هو حال الأمور حاليا ومستقبليا كما لن يحمي أمنها القومي.
ثالثا-الكيان الصهيوني
حالة الكيان الصهيوني لا تختلف عن حالة الغرب عموما وحالة الولايات المتحدة خاصة. فمن جهة نسمع كلاما عالي النبرة تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران وتجاه المقاومة في كل من لبنان وفلسطين المحتلّة وحتى لبنان الدولة، بينما القدرات والإمكانيات المتوفرة للكيان ذاتيا ودوليا تحول من تحقيق أي من الأهداف. تتباهى حكومة الكيان بالتحالفات الجديدة غير المعلنة مع عدد من دول مجلس التعاون وفي مقدّمتها حكومة الرياض وذلك في مواجهة محور المقاومة. لكن بالمقابل نشهد هذه الأيام أول امتحان لذلك التحالف عندما تحرّض حكومة الرياض حكومة الكيان على الهجوم على لبنان للقضاء على المقاومة مقابل المليارات من الدولارات. تردّد حكومة الكيان تعود إلى التحذيرات المتكرّرة للقيادات العسكرية الصهيونية التي تأخذ بكل جدّية مضمون التحذيرات الصادرة عن المقاومة في لبنان وعلى لسان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله. كما أن الكيان لا يعتبر نفسه موظّفا عند حكومة الرياض بل ربّما العكس!
على صعيد آخر تعتقد حكومة الكيان، وخاصة رئيس وزراءها أن البيت الأبيض أصبح في جيبه بسبب العلاقة الحميمة بينه وبين صهر الرئيس الأميركي جارد كوشنر والمستشار للملف الصراع الفلسطيني الصهيوني جاسون غرينبلات. لكن الرئيس الأميركي لم يتخّذ حتى الآن أي قرار ولم يقدم على أي خطوة تحرّك مسار الأمور في مصلحة الكيان كنقل السفارة الأميركية من تل ابيب إلى القدس. من جهة أخرى لا نجد اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يعمل إلى تخفيف الهجمات والانتقادات للرئيس الأميركي سواء في الإعلام المهيمن أو في الكونغرس الأميركي، وكلا المؤسستين تحت قبضة اللوبي.
فيما يتعلّق بالتحوّلات البنيوية في الكيان فما زالت موجة الهجرة من الكيان إلى الخارج أقوى من الموجة الوافدة. كما أن العنصرية الصهيونية من بين مكوّنات المجتمع الصهيوني تتفاقم خاصة فيما يتعلّق بالصهاينة الإفريقيين أو الهنود أو حتى العرب المنحدرين من العراق والمغرب واليمن. كما أن استطلاعات الرأي بين الشباب الصهيوني تفيد أن اثنين من أصل ثلاثة يريدون الهجرة دون العودة. كما أن الاستطلاعات تفيد أن أكثر من 70 بالمائة من الصهاينة يملكون أكثر من جواز سفر أجنبي وأكثر من مكان إقامة واحد في العالم. يبدو أن الصهاينة يتصرّفون وكأن الأيام في البقاء أصبحت معدودة. قد تطول بعص السنين ولكن في آخر المطاف لا سبيل في البقاء بل في الهجرة النهائية.
على الصعيد الدولي مُني الكيان بعدّة نكسات سواء في اليونسكو أو في اللقاءات الدولية في سوتشي أو سان بطرسبورغ أو حتى في بعض الدول العربية التي تسعى بشكل أو بآخر إلى دعم محاولات التطبيع. نشير هنا إلى الموقف المشرّف للمستشارين في البرلمان المغربي الذين طردوا مجرم الحرب عامير بيريتز الذي كان يزور المغرب. كما نسجّل أيضا تصاعد الحملات الأهلية في المغرب وعدد من الدول العربية في رفض التطبيع. هنا أيضا لا بد من تسجيل الموقف المشرّف لرئيس البرلمان الكويتي غانم المرزوق الذي أجبر الوفد الصهيوني على الخروج من قاعة الاجتماع لمؤتمر الاتحاد الدولي للبرلمانيين في سان بطرسبورغ. ونسجّل أيضا مندوبة كوبا في اليونسكو التي هاجمت ممثل حكومة الكيان واتهمتها بجرائم حرب. نسجّل أيضا في المواقع الإلكترونية الأميركية تصاعد الانتقادات لحكومة الكيان من قبل شخصيات محسوبة على مختلف الإدارات وخاصة من بين ضباط الاستخبارات. ولا بد من الإشارة إلى استياء اللوبي الصهيوني من نجاحات حركة بي دي اس المقاطعة للكيان حيث اضطرت للضغط على المجالس المحلّية لتجريم المقاطعة ما أثار الاستياء واعتبار تلك القرارات اعتداء على حرّية الرأي والتعبير.

الجزء الثالث-المشهد العربي

تتسارع الأحداث في مختلف أنحاء الوطن العربي وجميعها قد تستدعي الوقوف عندها لتحليلها واستيعابها. غير أننا وجدنا من المناسب أن نتوقّف عند التطوّرات في الساحات التالية دون الإهمال عمّا يجري في ساحات أخرى وذلك لضيق المساحة. ونعتذر مسبقا من الأخوة والأخوات إن اعتبروا أن ما يحدث في ساحاتهم قد أهمل أو اعتبر غير هام. فكل ما يجري في كل قطر عربي هام وعزيز علينا.

أولا-فلسطين
فلسطين كانت وما زالت وستستمر بوصلة تحليل ما يجري في الوطن العربي. فإلى حد كبير فكل ما يجري في الوطن العربي، من محيطه الأطلسي إلى خليجه العربي، مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بما يجري في فلسطين. في هذا السياق، فإن الحدث الرئيس الذي حصل بعد اجتماع المؤتمر القومي العربي في بيروت في الربيع الماضي هو المصالحة بين حركة حماس وحركة فتح، وإنشاء المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الشتات واستمرار حالات المقاومة الشعبية للاحتلال.
المصالحة كانت برعاية مصرية وجاءت بعد التفاهمات بين الحكومة المصرية والقيادات الجديدة لحركة حماس. المهم هنا أن إعادة العلاقات بين مصر وحركة حماس حصلت بعد قمة الرياض التي جمعت دولا عربية وإسلامية بالرئيس الأميركي دونالد ترامب والتي وضعت جماعة الإخوان المسلمين على قائمة الإرهاب. فإعادة العلاقات مع حركة حماس جاءت لتضرب مضامين قرارات الرياض. من جهة أخرى فإن المصالحة بين حماس وفتح لاقت ترحيبا شعبيا في فلسطين وفي الوطن العربي لما شكّلت عنوانا لنهاية الانقسام العبثي بين القوى السياسية الفلسطينية. لا يغيب عن بالنا شكوك العديد من المراقبين والمتابعين للشأن الفلسطيني حول “جدّية” المصالحة. لكن عودة السلطة إلى غزّة لا تعني نزع سلاح المقاومة وهذا هو بيت القصيد رغم ادعاءات بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية.
فهناك تكهّنات عديدة تتناولها وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي حول “صفقة” ما تعيد ترتيب القيادة الفلسطينية كي تتوافق مع مشاريع “الحل” أو “الصفقة التاريخية”. بعض المعلومات تفيد بأن رئيس السلطة الفلسطينية اُستدعى إلى الرياض وقيل له على ضرورة قطع العلاقات مع حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران وقبول أي عرض أميركي لحل القضية. لا نستطيع نفي تلك التكهّنات وربما قد تتحوّل إلى حقيقة ملموسة إن تمّ التساهل بها. فنزع سلاح المقاومة في فلسطين كما في لبنان هو المطلوب لإنجاح “الصفقة”. لكن ما يجهله المخطّطون لتلك الصفقة هو أن الشعب الفلسطيني عصي على كل الصفقات كما أن الجماهير العربية ما زالت عصّية على القبول بالتطبيع. كفاح الشعب الفلسطيني يتجاوز القرن بعد مئوية وعد بلفور ولكن كافة المؤامرات والمشاريع المشبوهة والاتفاقات المبتورة والجزئية لم تثن الشعب الفلسطيني عن الاستمرار في كفاحه حتى التحرير. وما يمكن أن يتغيّر ليس الشعب الفلسطيني بل القيادات والنخب في فلسطين والوطن العربي باتجاه المزيد من العزم على المقاومة. هذه حقائق ودروس التاريخ البعيد والقريب.
إقامة المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج دليل على تطوّر في الفكر السياسي الفلسطيني واستجابة لرغبة بالخروج عن الأطر التقليدية لتطلّعات الشعب الفلسطيني. ففلسطينيو الخارج لا يقل عددهم عن فلسطينيي الداخل إن لم يفوقنهم. غير أن صوتهم لا يصل إلى السلطة الفلسطينية. والمؤتمر الشعبي جاء ليؤكّد على ثوابت الشعب في التحرير وعبر خيار المقاومة بمختلف أشكالها. من الواضح أن المؤتمر لا يملك مقاليد السلطة ولكنه يتمتّع بسلطة معنوية لا يستهان بها. كما أن فلسطينيي الداخل لا يختلفون مع إخوتهم في الخارج وبالتالي تتوثّق أطر سياسية خارجة عن المؤسسات التي تحجّرت بسبب المال والفساد.
المشهد الثالث في فلسطين هو استمرار المقاومة الشعبية خارج عن غطاء الفصائل التي لا تعارضها بالأساس. لكن المقاومة الشعبية من قبل أفراد ليست بديلا عن المقاومة المنظّمة ونرى أوجه التكامل بينها. كما أن المقاومة الشعبية تلاقي صدى كبيرا بين أطياف الجماهير العربية التي تساهم في التعبير عن دعمها رغم الضغوط ومحاولات التطبيع البائسة.

ثانيا-بلاد الشام وبلاد الرافدين
من جهتها شهدت بلاد الشام وبلاد الرافدين تطوّرات ميدانية كسرت المعادلات التي حاول التحالف الأميركي الصهيوني وبعض العرب فرضها في الإقليم مع ارتداداتها المحلّية والدولية الهامة جدّا إن لم تكن مفصلية. أولى هذه التطوّرات اقتراب الهزيمة العسكرية النهائية لداعش وجماعات التعصّب والغلو والتوحّش في كل من سورية والعراق. ما عجز عن تحقيقه التحالف الدولي في العراق تم إنجازه بفضل القوّات العراقية والقوى الشعبية وحلفائها. بالمقابل استطاع الجيش العربي السوري مع حلفائه الإقليميين والدوليين والعرب في أيقاف أولا العدوان الكوني على سورية ومن بعد ذلك استرجاع الأراضي التي احتلّتها جماعات التعصّب بسب الدعم الدولي والإقليمي والعربي.
التحوّل الثاني هو تلاقي قوّات الجيش العربي السوري مع الجيش العراقي والقوى المتحالفة على الحدود العراقية السورية ما أسقط الخطوط الحمراء الوهمية التي حاولت فرضها الولايات المتحدة. إن التلاقي على ضفتي الحدود أكّد استمرار التواصل بين بغداد ودمشق ما عزّز خط الامداد للمقاومة في لبنان. إن التلاقي الميداني هزم الهدف الحقيقي للهجمة على سورية والعراق وأسقط بالتالي محاولات تقسيم العراق وسورية.
التحوّل الثالث هو فشل مشروع انفصال كردستان التي كانت إحدى الأوراق المتبقية للحلف الأميركي الصهيوني العربي. إن تقارب كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا في مواجهة تقسيم العراق وسورية وتركيا وإيران أجهض الرهان على الفتنة السنّية الشيعية.
أما على الصعيد السياسي فمسار استانة ما زال قائما وقد يعطي ثماره خاصة أن الطرف الأضعف بات ما يُسمّى بالمعارضة المدعومة من حكومة الرياض. التفاهم الأخير بين الرئيس الروسي والرئيس الأميركي على هامش قمّة دول شرق جنوب آسيا في فيتنام يمهّد لتسريع وتيرة الحل السياسي، وإشراك الأكراد في الحل السياسي ومعهم الفصائل التي تدعمها تركيا. لكن بالمقابل فإن حكومة الرياض ما زالت في حال إنكار للتحوّلات الميدانية وتعتقد أن الكيان الصهيوني قد يكون عاملا مع بعض الجهات في الإدارة الأميركي من تعطيل أي حل يكرّس هزيمتها السياسية في المنطقة.
ليس هناك من معلومات مؤكّدة حول طبيعة الحل السياسي المرتقب في سورية. غير أنه بات من المسلّمات أن الرئيس السوري بشّار الأسد باق حتى إتمام ولايته وأن الشعب السوري سيختار رئيسه الجديد. والرئيس الحالي قد يختار خوض المعركة الرئاسية بعد أن أُسقط التحفّظ الدولي عنه.
أما في العراق فالعامل الجديد في المعادلة السياسية هو دور قوّات الحشد الشعبي وما يمكن أن يؤول إليه. ليس واضحا حتى هذه الساعة كيف ستتعامل الحكومة مع الحشد الشعبي بعد الانتهاء من الحرب على جماعات التعصّب والغلو والتوحّش. كما أن أسئلة كبرى ما زالت عالقة وهي دور الجمهورية الإسلامية في إيران ومستقبل المصالحة بين كافة مكوّنات المجتمع الشعبي والسياسي في العراق. كنّا وما زلنا ندعو إلى ضرورة مراجعة مرحلة “العملية السياسية” وما نتج عنها من تهميش لفئات وازنة في المكوّن السياسي والاجتماعي العراقي كي لا تتكرّر ظاهرة جماعات التعصّب. نعتقد أن القيادات العراقية ومعها الجمهورية الإسلامية مدعوة إلى إقامة تلك المراجعة للحفاظ على إنجازات الحرب على جماعات التعصّب ولترسيخ الاستقرار الداخلي ومنع قوى عربية وإقليمية ودولية من اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي. كما أن قضية الإقليم في كردستان يجب أن تحظى بالاهتمام الكافي لصون الحقوق الثقافية والسياسية للأخوة الأكراد بما لا يشكّل تهديدا للأمن القومي العراقي والعربي وخاصة لمنع التمدّد الصهيوني في شمال العراق.

ثالثا-الجزيرة العربية
تصدّرت الأحداث في الجزيرة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي اهتمام المراقبين والمحلّلين لما أفرزت من تحوّلات ضربت التوازنات في منطقة الجزيرة العربية.
مما لا شك فيه أن مجلس التعاون الخليجي أصابه تصدّعا قد لا يمكن علاجه في المستقبل القريب. فالقمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض في شهر حزيران 2017 بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب أدّت إلى نتائج لم تكن متوقّعة. فالهدف المعلن كان إقامة حلف في مواجهة ما سمّته حكومة الرياض والإدارة الأميركي “التمدّد الإيراني” في المنطقة ومحاربة التطرّف الإسلامي. فوضع فصائل المقاومة وفي طليعتها حزب الله ومعها جماعة الإخوان المسلمين على قائمة الإرهاب الدولي كان أحد أهداف هذه القمة. غير أن الموقف المصري بتأكيده على تسمية الدول الداعمة للإرهاب أدّى إلى تسمية دولة قطر ومقاطعتها يقوده تحالف رباعي من حكومة الرياض والقاهرة وأبو ظبي والمنامة، وبتشجيع واضح نت الرئيس الأميركي. الأخير استغلّ الفرصة لابتزاز كل من حكومة الرياض والدوحة بمبالغ خيالية عبر صفقات تسليح ومشاريع استثمارية في الولايات المتحدة تقارب نصف تريليون دولار.
قمّة الرياض كانت “قمّة المخدوعين”. والمخدوعون هم حكومة الرياض ومن يدور في فلكها. حكومة الرياض اعتقدت أن باستطاعتها قيادة العالمين الإسلامي والعربي بدعم من الولايات المتحدة مقابل “الخوّة” التي تدفعها إليه. لم تتعهد الإدارة بإيقاف قانون جاستا ولم تتعهّد بإيقاف الكونغرس الأميركي من فرض العقوبات عليها. كما أن مصر أفشلت مفعول تلك القمّة عبر إقامة العلاقات مجدّدا مع حركة حماس وفك الحصار عن غزّة.
من نتائج قمة الرياض مقاطعة قطر. ومن نتائج تلك المقاطعة زيادة النفوذ الإيراني في الخليج وتثبيت الوجود العسكري التركي في قطر. حتى الساعة فإن مساعي إجراء تغيير في سلوك حكومة قطر باتت بالفشل. مجلس التعاون مصاب بأزمة وجودية وهو منقسم إلى ثلاثة محاور: محور الرياض وأبو ظبي والمنامة؛ محور على الحياد في ذلك الصراع ويضم كل من الكويت ومسقط، ودولة قطر على انفراد. حياد مسقط والكويت يضعف قوّة التحالف الرباعي كما ينذر بتشظي مجلس التعاون. كما نشهد المزيد من التعاون الثنائي بين مسقط وموسكو والحفاظ على العلاقة مع طهران. أما الكويت فمحاولات رأب التصدّع لم تفلح حتى الآن. الأمور مستمرّة على حالها ما زالت حكومة الرياض مصرّة على المواجهة المفتوحة مع إيران بدعم أميركي وصهيوني وفتور عربي واضح.
من الممكن قراءة ما يحصل في مجلس التعاون واستمرار العدوان العبثي على اليمن على قاعدة التطوّرات داخل الحكم في الرياض. فصعود ولي العهد محمد بن سلمان بعد الإطاحة بولي العهد محمد بن نايف الذي خلف ولي العهد المخلوع مقرن بن عبد العزيز وكل ذلك في فترة زمنية قصيرة جدّا، فكل ذلك يوحي بأن التحرّك الخارجي لحكومة الرياض هو لتمكين ولتثبيت “شرعية” ولي العهد الشاب. كما أن حملة “الإعفاءات” لعدد من الوزراء واعتقال عدد من الأمراء والشخصيات من رجال أعمال وأعلام بحجة تهمة الفساد تأتي في سياق التمهيد لتسليم ولي العهد مقالد السلطة بلا شريك أو منافس. قد يكون ربح ولي العهد جولة أساسية في طريقه إلى العرش لكن تداعيات ما أقدم عليه قد تلاحقه فيما بعد.
فمحاولات “الإصلاح” السياسي والديني التي يحاول فرضها قد تطيح بالتوازنات الداخلية كما قد تطيح بقاعدة شرعية الأسرة الحاكمة المبنية على تحالف آل سعود مع المؤسسة الدينية ودعم من طبقة التجّار. فالسياسة لآل سعود والاقتصاد للتجار. بينما ولي العهد صاحب نظرة مختلفة لمستقبل المملكة والتي لا تستند بالضرورة على تلك التحالفات البنيوية. فهل ينجح؟ المهم هنا أن أكثر من 70 بالمائة من سكّان الجزيرة تحت الثلاثين من العمر، وقد يؤيّدون تحرّكات ولي العهد. ولكن هل هذا كاف خاصة أن مصداقية “ضرب الفساد” مضروبة من قبله عبر تكديس الثروات والانفاق على اليخوت بمبالغ خيالية تفوق نصف مليار دولار. وبالتالي نعتقد أن بلاد الحرمين دخلت مرحلة انتقالية قد يشوبها الاضطرابات المتعدّدة بسبب انخفاض سعر برميل النفط وما سيرافقه من تخفيض الخدمات الاجتماعية والرفاهية وبسبب التوترات المذهبية التي اعتمدتها حكومة الرياض في المنطقة الشرقية وبسبب تداعيات الحرب العبثية على اليمن.
في هذا السياق لا بد من تسجيل أن العدوان على اليمن لم يحقّق أي من الأهداف السياسية المعلنة أو حتى غير المعلنة. لكن بالمقابل تمّ تدمير البنى التحتية في اليمن مما ينذر بأن الهدف الفعلي هو التدمير لمنع إقامة يمن قوي، صاحب حضارة وثقافة تعود إلى الاف السنين تؤهله لقيادة الجزيرة العربية. إن صمود شعب اليمن رغم القتل والتجويع والحصار غير الأخلاقي لمنع وصول مواد غذائية وطبية ورغم انتشار وباء الكوليرا وغيرها من أمراض قلّة التغذية، فجميعها لم تثني شعب اليمن عن التعبير عن وحدته، وعن عروبته، وعن تمسّكه بالقضية الفلسطينية.
نضال شعب اليمن لا يختلف عن نضال شعب البحرين المغيّب في الإعلام. فهذا الشعب الذي يتعرّض لأبشع أنواع القمع ما زال متمسّكا بالمسيرة السلمية لانتفاضته المحقّة المطالبة بالإصلاح كما زال متمسّكا بعروبته وبثوابت الأمة العربية وفي مقدّمتها قضية فلسطين.
في هذا السياق لا بد من تسجيل وتقدير موقف رئيس مجلس النواب الكويتي الذي تصدّى إلى وجود الوفد الصهيوني في اجتماع الاتحاد العالمي للبرلمانيين في سان بطرسبورغ وسط تصفيق القاعة المملؤة بوفود من مختلف الدول فأدّى إلى انسحاب الوفد الصهيوني. هذا يؤكّد أصالة التزام أهلنا في الخليج بأحقية القضية الفلسطينية وتنفي مزاعم بعد القوى المشبوهة التي تروّج إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني.

رابعا-مصر
ما زالت مصر تسير في طريق تثبيت استقلالية قرارها السياسية رغم الظروف الموضوعية التي تمر بها من ضيق اقتصادي ومالي وبسبب حرب جماعات التعصّب والغلو والتوحّش التي ما زالت بعض الدول العربية والأجنبية توفّر لها الغطاء السياسي واللوجستي والتسليحي. فمصر مضت في إجراء توازن في تسليح قوّاتها المسلّحة التي ما زالت عقيدتها القتالية مبنية على اعتبار العدو الصهيوني العدو للأمن القومي المصري. فعودة التسليح الروسي إلى مصر يوقف مسارات طال أربعة عقود بعد اتفاقيات كامب دافيد التي يتم تفريغ مضمونها بشكل هادئ. فعودة الجيش المصري إلى سيناء تحت غطاء محاربة جماعات التعصّب والغلو والتوحّش يحقق استرجاع السيادة العسكرية على سيناء بشكل تدريجي.
من جهة أخرى حرصت مصر على ألا تتدخل في سياسة المحاور المتحاربة في الوطن العربي. فهي رفضت المشاركة في الحرب على سورية، واكتفت بمشاركة رمزية غير قتالية في الحصار على اليمن، ورفضت مؤخرا محاربة طهران وحزب الله. كما لا بد من تسجيل الإنجاز الكبير في إجراء المصالحة بين حركة فتح وحماس التي لم تتم إلاّ بعد إعادة العلاقات مع الأخيرة. وهنا نسأل: أين القرارات بمحاربة كافة تشكيلات الإخوان المسلمين وها هنا نشهد توثيقا للعلاقة مع حماس وفك الحصار على قطاع غزّة.
مصر تستعيد تدريجيا دورها العربي ليعود التوازن الفعلي. لكن هذا الدور منوط بالابتعاد عن كامب دافيد. نتمنّى أن يحصل ذلك اليوم قبل غدا ولكن علينا أن نقدّر الظروف التي تمرّ بها مصر وأن نتحلّى بالصبر إيمانا بعودة مصر عاجلا إلى دورها الرائد في الوطن العربي. هذا الدور لن يكتمل فقط بالابتعاد عن كامب دافيد بل عبر إجراء مصالحات مع كافة مكوّنات الشعب المصري. هنا تقع مهمة جوهرية على جماعة الإخوان المسلمين الذين عليهم أن يقوموا بمراجعة مواقفهم وعلى التسليم بدور الدولة المصرية واحترام مؤسساتها وشعور مواطنيها. بالمقابل، فعلى السلطة أن تشجّع تلك المراجعة عبر التخفيف من القسوة وملاحقات قيادات وكوادر الإخوان الذين لم يتورّطوا بمسؤولية هدر دم القوّات المسلّحة وقوّات الأمن المصرية.

خامسا-المغرب العربي
ما زالت قضية الصحراء المغربية سببا في التوتر في العلاقات بين الجزائر والمغرب. وهذا أمر مؤسف يؤخّر في تحقيق وحدة المغرب العربي في مواجهة مختلف التحدّيات سواء كان مصدرها جماعات التعصّب والغلو والتوحّش أو محاولات ضرب عروبة المغرب الكبير. فأجهزة الاستخبارات الغربية والصهيونية تعمل على تغذية النزعات المعادية للعروبة وللغة العربية عبر تصعيد موجة العامية من قبل مؤيّدي الفرنكوفونية والعرقيات المحلّية. كما أن مشاريع التطبيع موجودة في كافة دول المغرب ولكنّها تواجه مقاومات شعبية قوية تكبح من توغّل التطبيع في أروقة الحكم وداخل المجتمع. نسجّل هنا ما قام به مستشارون في البرلمان المغربي بطرد مجرم الحرب عامي بيريتز. موقف المستشارين في المغرب تلاه بعد بضعة أيام موقف رئيس البرلمان الكويتي غانم المرزوق في اجتماع الاتحاد العالمي للبرلمانيين.
أما في ليبيا فما زالت الأزمة قائمة وتصارع شرعيتين متنافستين. ليس هناك في الأفق ما يبشّر بحل قريب للأزمة إلاّ اننا نعتقد أن مصر والجزائر قد تلعبان دورا كبيرا في الحل حين تسمح الظروف.

سادسا-لبنان
لبنان مرآة الوطن العربي. فما يحدث في لبنان يعكس ما يحصل في الوطن العربي وما يحصل في الوطن العربي يؤثّر بلبنان مباشرة.
الأيام والأسابيع الماضية شهدت سلسلة من التطوّرات كان هدفها الإطاحة بالتوافق السياسي بين مختلف القوى السياسية المتنافسة على الساحة والتي لها امتدادات عربية وإقليمية ودولية بشكل واضح لا يحتاج إلى “توضيح”. فالتوافق السياسي، الناتج عن تحوّلات عربية وإقليمية ودولية، ولكن بالأساس الإنجازات الميدانية في سورية أدّت الت تفاهم بين قوى مناهضة للتوجّه الأميركي العربي في المنطقة مع القوى المنخرطة معها. فمحور المقاومة والممانعة برموزه السياسي استطاع أن تأتي بالرئيس ميشال عون على سدّة الرئاسة بعد فراغ رئاسي استمرّ أكثر من سنتين. انتخاب الرئيس عون جاء في لحظة توافق نادرة عربية وإقليمية ناتجة عن الموازين الجديدة في المنطقة. ومن ضمن التفاهم الذي حصل وأدّى إلى انتخاب ميشال عون رئيسا رجوع سعد الدين الحريري إلى رئاسة مجلس الوزراء. ومجلس الوزراء، في حكومة الوحدة الوطنية التي تضم الأكثرية من المكوّنات السياسية في لبنان، استطاع أن ينجز استقرارا نسبيا في لبنان، ربما أكثر من أي دولة عربية أخرى. كما باشر ببعض الإصلاحات السياسية في مقدّمتها قانون جديد للانتخاب يعتمد النسبية “النسبية” والذي قد يسمح لقوى جديدة المشاركة الفعّالة في التشريع والحكم. كما لا بد من الإشارة إلى أنجاز كبير وهو تحرير جرود الجبال على الحدود الشرقية للبنان من فلول جماعات التعصّب والغلو والتوحّش بعد إسقاط الغطاء السياسي عنها مع حصول التوافق داخل حكومة الوحدة الوطنية.
لكن بعد مرور سنة التحوّلات التي حصلت في بلاد الحرمين والصراع على السلطة بين مختلف أجنحة الأسرة الحاكمة أدّت إلى أسلوب جديد في التعاطي مع المتغيّرات في بلاد الشام والرافدين. فإخفاقات حكومة الرياض في كل من المسرح العراقي والسوري واليمني أدّى إلى حركة هروب إلى الأمام ما أدّى إلى المزيد من التصلّب في مواجهة محور المقاومة بشكل عام وخاصة الجمهورية الإسلامية وحزب الله. تعتقد حكومة الرياض أن لبنان الحلقة الأضعف ويمكن استنزاف كل من إيران وحزب الله في صراعات دامية مع قوى لبنانية مناهضة لهما. فكانت مسرحية استدعاء ثم جلب رئيس مجلس الوزراء اللبناني وإملائه بخطاب استقالة أريد منه تحقيق عدّة أهداف.
الهدف الأول إذلال رئيس مجلس الوزراء اللبناني الذي لم يدافع وينفّذ سياسة حكومة الرياض كما يجب وفقا لوجهة نظرها. فالرئيس الذي أُجبر على الاستقالة حرص طيلة السنة المنصرمة على الحفاظ على التفاهم وحكومة الوحدة الوطنية رغم كل الضغوط والمطبّات التي وُضعت في وجهه. الهدف الثاني هو معاقبة لبنان كدولة صاحبة سيادة تستعيد تدريجيا عافيتها السياسية والاقتصادية رغم كل ما يحصل في الجوار. الهدف الثالث إشعال فتنة في لبنان قد تحرق الأخضر واليابس وتسهّل لعمل عسكري واسع يقوم به العدو الصهيوني لضرب المقاومة.
غير أن حساب الحقل لم يكن مطابقا لا من قريب ولا من بعيد مع حساب البيدر. فاللبنانيون ما زالوا يتذكرّون ويلات الحرب الأهلية ويرفضون الانجرار إلى مجابهة عبثية جديدة. كما أن اللبنانيين جميعا، سواء كانوا مستهدفين من قبل تدخّل حكومة الرياض، أو من المؤيدّين لها، أجمعوا على رفض الاستقالة بشكلها قبل مضمونها لما لها من انتهاك لكرامة جميع اللبنانيين، ولكرامة الدولة ودستورها وميثاقها. هذا الإجماع لم يكن في الحساب عند حكومة الرياض ما أدّى إلى قلب الموقف الدولي والعربي لصالح استقرار لبنان ورفض ما كان منتظرا من الاستقالة. كما أن الكيان الصهيوني اكتفى بضرورة توظيف الاستقالة سياسيا ودبلوماسيا وغض النظر عن الدخول في متاهات حرب جديدة. وأخيرا كانت هناك رهانات على انتفاضة في المخيّمات الفلسطينية ضد الدولة اللبنانية والمقاومة غير أن الفصائل الفلسطينية رفضت الانجرار في ذلك الاتجاه. لدلك وجدت حكومة الرياض أنها معزولة عربيا ودوليا في موقفها ولحالة الانكار لموازين القوة الجديدة.
ما زالت فصول المسرحية تتدحرج عند تحرير هذا التقرير ولا نعتقد أن الأمور ستتأزم أكثر مما تأزمت حتى الآن في لبنان. وحدة اللبنانيين قلبت موازين القوة التي كانت تراهن عليها حكومة الرياض بعدما أن اعتقدت أن الوضع هشّ في لبنان يمكن إشعاله متى أرادت.
ملاحظة أخيرة-الحرب الشاملة المقبلة: قريبا أو بعيدا؟
التحوّلات الميدانية في سورية والفشل في تحقيق انفصال كردستان في العراق والفشل الذي منيت به حكومة الرياض في لبنان يطرح بشكل جدّي السؤال: ماذا بعد؟
في تقديرنا أن موازين القوة حاليا لا تسمح بأي مغامرة عسكرية لا في لبنان ولا في المنطقة. وإذا افترضنا أن العقلانية موجودة عند كل الأطراف فأن التقدير الدقيق لميزان القوة يجعل الجميع يفكّر أكثر من مرّة في جدوى الدخول في الحرب. ينطبق ذلك على الكيان الصهيوني أولا وأخيرا لأنه صاحب مصلحة تغيير الأمر الواقع الذي لا يرضاه. لكن لا يمكن التقليل من حالة الإنكار وتردّي مستوى القيادات سواء داخل الكيان الصهيوني أو داخل الإدارة الأميركية التي تحبّذ مجابهة شاملة. حتى الساعة، هناك عقول هادئة داخل الكيان وداخل الإدارة الأميركية تتغلّب على الرؤوس الحامية. لكن ليس هناك من ضمانة لاستمرار الوضع الحالي.
منطق المواقف المتناقضة جذريا يحتّم إيجاد حلّ ما. إما الدولة الفلسطينية الواحدة يتعايش فيها كل من العرب واليهود، او الحرب الشاملة. الحلول الأخرى كترحيل الفلسطينيين إلى إما سيناء أو الأردن لي يفي بالغرض لأنه غير قابل للتطبيق. فما كان ممكنا في القرون الماضية لم يعد ممكنا في القرن الحادي والعشرين. أما حل دولة التمييز العنصري فلا يستطيع الكيان أن يتحمل نتائجه دوليا كالدولة الوحيدة في العالم التي تمارس التمييز العرقي بشكل رسمي وعلني. في وجود اليمين الديني المتطرّف والمسيطر في الكيان لا مجال إلاّ للترحيل أو دولة التمييز العنصري أو الحرب التي تفرض أيا من الحلّين السابقين.
الحرب القادمة قد تكون شاملة ومدمّرة بسبب لجوء الكيان والولايات المتحدة إلى سلاح غير تقليدي. في بعض الأروقة الأميركية هناك كلام عن استعمال السلاح النووي التكتيكي الذي يفي بغرض التدمير والقتل دون تحمّل تداعيات الإشعاعات الواسعة. فمنذ عشرة سنوات على الأقل تقوم القوّات المسلّحة الأميركية بتطوير ذلك السلاح النووي التكتيكي لاستعماله ضد الروس في أوروبا الشرقية وحتى في روسيا. لكن ليس هناك من معلومات دقيقة حول ذلك ولا معلومات عن “فعّالية” ذلك السلاح. قد تكون المنطقة العربية وحتى فلسطين حقلا للتجارب عند العقول المريضة الأميركية والصهيونية. فكافة الاحتمالات مفتوحة ولا يجب التقليل من أهمّيتها.
لكن قراءتنا الخاصة تفضي إلى أن تحوّلات مرتقبة داخل الولايات المتحدة وحتى داخل الكيان الصهيوني قد تلغي ضرورة اللجوء إلى الحرب. لدينا كتابات عديدة مفادها أن البيت الأميركي لا يقلّ وهنا عن الكيان الصهيوني رغم كل مظاهر القوة التي يتمتّع بها. فالاتحاد السوفيتي تفكّك عندم لم يكن أحد من جيلنا يتوقّع ذلك. ونسأل بكل جدّية ماذا سيبقى من الولايات المتحدة بعد 25 سنة سواء التجمّعات الإقليمية في شمال القارة الأميركية. نعي أن الأمر يصعب تقبّله ولكن كذلك كان الأمر بالنسبة للاتحاد السوفيتي وكذلك الأمر بالنسبة للاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 36 / 2165626

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع زياد حافظ   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2165626 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010